السودان

أثمان الماضي: الموقف البريطاني من الأزمة السودانية

قامت حكومة المملكة المتحدة بجولة تواصل موسعة مع الأطراف الإقليمية ذات الثقل في الملف السوداني، وعلى رأسها مصر؛ بغية الوقوف على حجم الأزمة السودانية وتتبع مسارات الحل. وكان آخر تلك التحركات لقاء المبعوث البريطاني للسودان وجنوب السودان “روبرت فيرويذر” يوم 12 مايو بمسؤولين في الحكومة المصرية ومسؤولين إقليميين بالإضافة إلى منظمات إنسانية؛ لمناقشة الوضع في السودان وكيف يمكن للمملكة المتحدة الإسهام للمساعدة في إنهاء الأزمة. يأتي ذلك بعد تواصل رئيس الوزراء “ريشي سوناك” ووزير خارجيته مع الرئيس عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية سامح شكري؛ لمناقشة الأوضاع، وتنسيق الجهود الدبلوماسية لدعم الانتقال لحكومة مدنية، ووقف إطلاق النار. 

بالرغم من هذه المتابعة المستمرة من قبل حكومة المملكة المتحدة والتي تتمتع بوضع تاريخي في السودان، والتي تتوافق مع إشراكها في عدد من الآليات الدبلوماسية الخاصة بتسوية الأمور في السودان. إلا أنه لا يتوافق مع حجم المساهمة المرجوة من قبل المملكة في الوضع الحالي. ولهذا فإن هذه الورقة ستحاول توضيح أبعاد النفوذ البريطاني في السودان، وتطور حجم هذا النفوذ، ورد فعل بريطانيا تجاه الأزمة الحالية، ومستقبل علاقاتها مع السودان في ضوء تلك الأبعاد المختلفة.

إرث استعماري ثقيل

بالرغم من قصر مدة الاستعمار البريطاني للسودان في الفترة من 1899إلى 1956، إلا أن تداعيات سياسات تلك الحقبة ما زالت ماثلة ومؤثرة على الساحة السودانية منذ استقلاله وحتى الآن. فقد اتبعت المملكة المتحدة، سياسات تمييزية ما بين الشمال والجنوب، والسودانيين العرب في الشمال والسودانيين الأفارقة في باقي السودان، وبخاصة في الجنوب. 

فقد ظهرت بصمة سياسة ” فرّق تسد” المعروفة عن الحقبة الاستعمارية البريطانية في السودان؛ إذ تعمّدت إغداق الشمال بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وربطه بشكل أكبر بالإدارة المصرية. ووضع البريطانيون الشماليين في مناصب القوة والسلطة، وتحديدًا مجموعات “الشايقية” و”الجعليين”. وتستمر هذه المجموعات في ممارسة القوة والنفوذ اليوم، وقد كان الرئيس السابق عمر البشير من جماعة “الجعليين”. ونتيجة لذلك، أنشأ البريطانيون تسلسلًا هرميًا اجتماعيًا في السودان أدى إلى انعدام الثقة والخوف والصراع بين مختلف الجماعات السودانية. ولتعميق التمييز والفصل، تم دمج الشمال في النظام الحكومي التعليمي، ومُنع فيه التبشير بالمسيحية، في حين سُمح للجنوب بالتحول إلى المسيحية وفقًا لقرار “كتشنر”، ولم يُسمح للجنوب بالدخول في النظام التعليمي الحكومي، وترُك التعليم للمبشرين المسيحيين.

وعليه، فقد تركت السياسة البريطانية كل الأسس التي تضمن أن يكون للسودان مستقبل غير مستقر. وبدأ هذا الأثر في الظهور سريعًا؛ فبعد الاستقلال مباشرة، بدأت الحرب الأهلية الأولى بين الجنوب والشمال، والتي انتهت في السبعينيات بمنح الجنوب مساحة أكبر للحكم الذاتي. ولم يدم السلام سريعًا، وتجددت النزاعات وبدأت الحرب الأهلية الثانية في النصف الأول من الثمانينيات، وانتهت بالتصديق على اتفاقية السلام الشامل في عام 2005. وتم تنفيذ الحكم الذاتي الجنوبي في نفس العام. وصوت الجنوب لصالح الاستقلال في استفتاء وأصبح جمهورية جنوب السودان في يوليو 2011. وكلف هذا الانفصال السودان الكثير؛ نظرًا إلى أن أغلب الموارد النفطية التي بدأت البلاد في الاستفادة منها موجودة في جنوب السودان. 

ولا تزال بصمة السياسات الاستعمارية البريطانية موجودة إلى اليوم؛ فبسبب السياسات التمييزية، وتعمد التفرقة بين الشماليين وغيرهم من قبائل أفريقية في السودان الموجودة بدارفور، وتعّمد تجاهل تنمية منطقة دارفور؛ تسبب كل هذا في المواجهات بين الحكومة السودانية والمعارضين في دارفور، وهو ما تسبب في اعتماد البشير على الميلشيات العربية “الجنجويد” لمحاربة الجماعات المسلحة في دارفور منذ 2013، تلك الميلشيات التي أصبحت “قوات الدعم السريع”، والتي تمثل الطرف الأساسي في الأزمة السودانية الحالية.

حساب التكلفة والعائد:

تراجع النفوذ العسكري وهو ما انعكس على النفوذ السياسي للمملكة المتحدة، بعد فقدانها السيطرة على مستعمراتها المترامية الأطراف، وانتقل هذا النفوذ إلى الولايات المتحدة. وبدأت المملكة المتحدة في حساب التكلفة لتدخلاتها وحجم العائد المرجو من هذا التدخل في سياساتها الخارجية، ولهذا تضاءل النفوذ البريطاني لصالح النفوذ الأمريكي في السودان. ولكن نظرًا للوضع التاريخي للمملكة المتحدة في السودان، وبصفتها عضوًا دائم العضوية في مجلس الأمن (فهي صاحبة القلم فيما يخص قضية السودان بالمجلس).

فلهذا استمر انخراطها في الترتيبات الدبلوماسية الهادفة إلى التسوية السياسية في السودان. وكان أول تلك الترتيبات ما أُطلق عليه “دول الترويكا”؛ فجنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة والنرويج، دعمت المملكة المتحدة عملية سلام التي قادتها منظمة الإيجاد والتي أدت إلى إنهاء الصراع بين الخرطوم والحركة الشعبية / الجيش الشعبي لتحرير السودان. ومن بين جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي، كان الموقف البريطاني بشأن دارفور هو الأقرب إلى موقف الولايات المتحدة. وقد تأسست تلك المجموع خلال المفاوضات التي أدت في النهاية إلى توقيع اتفاقية السلام الشامل في السودان في عام 2005.

وبرز دور الترويكا والرباعية والتي تضم بجانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، دولتي السعودية والأمارات في الأزمة السودانية منذ تنحّى البشير عن الحكم في 2019؛ فلطالما دعمت الولايات المتحدة وبريطانيا الحكم المدني للسودان ما بعد البشير. ولهذا تدخلت حينها لدعم القوى المدنية، وفى الفترة التي كان لوزارة “حمدوك” تأثير كبير على السياسة السودانية، دعمت الحكومة البريطانية الجهود الدولية لتخفيف ديون السودان؛ فالسودان ظل معزولًا عن النظام الدولي لعشرات السنين بسبب وضعه على قائمة الدول الراعية للإرهاب من قبل الولايات المتحدة حتى نهاية عام 2020.  لذا فإن حوالي 85 في المئة من ديونه كانت متأخرات تشمل فوائد غير مدفوعة ورسوم التأخر في السداد. 

وعليه، فقد أعلن وزير الخارجية البريطاني حينها دومينيك راب عن مساهمة المملكة المتحدة بمبلغ 40 مليون جنيه إسترليني لبرنامج دعم الأسرة في السودان، مما يساعد في دعم المجتمعات السودانية أثناء تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الهامة، أثناء زيارة لرئيس الوزراء حمدوك عام 2021. وأعلن المبعوث البريطاني للسودان وجنوب السودان نية المملكة المتحدة تقديم قرض مرحلي بقيمة 330 مليون جنيه إسترليني لسداد متأخرات السودان مع بنك التنمية الأفريقي. ووفقًا لبيان السفارة البريطانية في القاهرة منذ أيام فلا تزال بريطانيا جهة مانحة ملتزمة في السودان، حيث أنفقت أكثر من 250 مليون جنيه إسترليني على المساعدات الإنسانية في السنوات الـ 5 الماضية. 

وكان الدور الأهم هو دور المملكة المتحدة في دعم المبادرات الخاصة بتخفيف الديون للسودان، حتى وإن لم تكن من أكبر الدائنين للسودان. ولهذا حصل بعد ذلك السودان على موافقة لإعفاء 23.5 مليار دولار من ديونه البالغة نحو 60 مليار دولار، ليصبح الدولة رقم 38 في العالم التي تحصل على إعفاء الديون في إطار مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون “هيبيك”. ويعد هذا هو أكبر تخفيف للديون يتم تحقيقه لأي دولة في إطار هذه المبادرة.

وخلال مؤتمر عقد في باريس في مايو 2021، قبل حصول السودان على الإعفاء المتعلق بالمبادرة، فقد تم التعهد على إعفاءات من ديون ثنائية بقيمة 30 مليار دولار، وكان أهمها اعلان فرنسا التنازل عن كافة ديونها التي وصلت ل 5 مليارات دولار. ولكن الإجراءات التي اتُخذت في أكتوبر 2021 بحل الحكومة وغيرها وما أعقبها من خلافات داخلية في مجلس السيادة أسهمت في تعليق تلك الخطوات المحورية. ولهذا تكرر دول “الترويكا” ودول الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية أن تشكيل حكومة مدنية ذات مصداقية فقط هو ما سيسمح باستئناف الدعم الاقتصادي للسودان. ومنذ ذلك الوقت، لا تزال المملكة المتحدة تسعى إلى تسهيل التفاوض بين الطرفين المدني والعسكري، لتسهيل وصول حكومة مدنية مستقرة في السودان.

إلا أن دور بريطانيا لا يُعد الأقوى أو الأكثر نفوذًا في السودان؛ نظرًا إلى انخفاض تأثيرها على السياسة الداخلية السودانية. فنجد أنه وفقًا للبيانات الرسمية، فإن السودان كان الشريك التجاري المشترك رقم 120 للمملكة المتحدة في عام 2022، حيث تمثل أقل من 0.1٪ من إجمالي تجارة المملكة المتحدة. وفي عام 2021، كان الاستثمار الأجنبي المباشر من المملكة المتحدة في السودان أقل من مليون جنيه إسترليني. 

وبالرغم من ارتفاع صادرات السلاح البريطانية إلى السودان في الآونة الأخيرة، فإنها لاتزال متواضعة للغاية، مقارنة بروسيا على سبيل المثال؛  فقد بلغت قيمة صادرات المملكة المتحدة من الأسلحة إلى السودان بين عامي 2012 و2022 ما مجموعه 241 ألف جنيه إسترليني، حيث تم تصدير 188 ألف جنيه إسترليني في عام 2022 وحده. 

في الختام، إن دوافع المملكة المتحدة للتدخل بشكل نشط في الأزمة -والتي يمكن أن تكون مدفوعة بمحاولة قطع الطريق على روسيا التي تمتلك علاقات قوية مع قادة قوات الدعم السريع، ولتجنب أزمة لجوء وهجرة غير شرعية جديدة مدفوعة، وخشيتها من تفاقم تأثير الاضطرابات في السودان على محيطها سواء في البحر الأحمر أو إثيوبيا- لا تُعد دوافع محورية قادرة على دفعها إلى ممارسة دور أكثر نشاطًا سيكلفها أكثر مما سيعود عليها بالنفع. فتنامى دور روسيا يمثل خشية للولايات المتحدة كذلك، لذا فتدخلها لوقفه سيكون حاضرًا. أما أزمة اللجوء فإنها ستؤثر على القارة الأوروبية أكثر مما ستؤثر عليها، وكذلك الاضطرابات في الإقليم، ستكون مؤثرة على مصالح كافة الأطراف في الرباعية وبخاصة السعودية والإمارات، ولهذا فإن الثمن الأكبر سيقع عليهم، وأخيرًا فإن الصورة النمطية السيئة للمملكة المتحدة لدى أغلب النخب السودانية يجعل المقاومة لتدخلها واستئثارها بدور أكبر في الوساطة أكبر. 

وعليه، فإنه بحسابات التكلفة والعائد، ستكون محاولة المملكة المتحدة للتواصل مع حلفائها وبخاصة المنخرطين والمتأثرين بالملف كمصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة، وتنسيق المفاوضات معهم لمحاولة إنهاء الأزمة، هي الخيار الأكثر منطقية، والذي يتسق مع حجم نفوذها المحدود في السودان في الوقت الحالي.

الشيماء عرفات

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى