
أنقرة والدوحة.. تحالف الأزمة والعزلة
تدخل العلاقات القطرية التركية ضمن نمط التحالفات الاستراتيجية في العلاقات الدولية، إذ يشترك الطرفان في مجموعة من الأهداف والأدوات التي تؤهلهم للتعاون، فقد تلاقت رغبة تركيا بزعامة أردوغان في تأسيس تركيا الجديدة أو تركيا الكبرى مع طموحات قطر بزعامة “تميم” في لعب دور إقليمي مؤثر، ومن هنا عمل الطرفان على تعزيز وتوثيق التعاون فيما بينهما لتحقيق الطموح المشترك الرامي لصناعة الدور وامتلاك أوراق الفاعلية والتأثير.
تحالف استراتيجي
تأتي زيارة الرئيس التركي للدوحة (7 أكتوبر) ضمن العديد من الجولات والزيارات التي تحدث بصورة دورية بين الرئيس التركي وأمير قطر، كما أنها تُعدُّ الزيارة الثانية لاردوغان منذ تفشي جائحة كورونا، إذ سبقها زيارة مماثلة- كانت أول زيارة خارجية لاردوغان- مطلع يوليو الماضي في أعقاب عودة حركة الطيران التي قد توقفت بسبب الجائحة، وهو ما يحمل دلالة كبيرة على محورية دور قطر في السياسة الخارجية التركية.
وتتمتع العلاقة بين البلدين بخصوصية شديدة ومستوى كبير من التناغم، وهو ما تبلور في نهاية عام 2014 من خلال قيام الطرفين بتشكيل لجنة استراتيجية عليا تستهدف تعزيز وتوطيد العلاقات على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والتجارية والعسكرية. وقد انعكس ذلك على طبيعة وحجم الزيارات بينهما. فخلال 5 أعوام من تأسيس هذا التحالف عقد “أردوغان” و “تميم” نحو 26 قمة نتج عنها توقيع ما يقرب من 52 اتفاقية في مختلف المجالات، ويُعبر هذا الكم من اللقاءات على طبيعة وحدود العلاقة الترابطية بين البلدين.
وقد انعكست هذه الشراكة على مستوى العلاقة بين البلدين سوى من خلال حجم التنسيق السياسي في عدد من القضايا والملفات أو عبر المستوى التجاري والعسكري، والذي شهد نموًا كبيرًا يمكننا الوقوف على ملامحه فيما يلي:
- رعاية تيارات الإسلام السياسي، تشترك أنقرة والدوحة في رعايتها لتيارات الإسلام السياسي، إذ عملت تركيا في ظل التقارب الأيديولوجي بين الحزب الحاكم وتوجهات السياسية الخارجية القطرية على استغلال وتوظيف أحداث 2011 للتقارب مع الإخوان المسلمين وتقديم الدعم والرعاية لهم في مختلف الأقطار التي شهدت انتفاضات، وقد حاولت تركيا من خلال تلك الاستراتيجية العمل على قيادة العالم الإسلامي وقد كانت قطر نظرًا لثرائها بمثابة الممول الرئيسي لهذه الاستراتيجية، وقد ساهمت ثورة 30 يونيو في إظهار هذا التقارب بشكل كبير، خاصة بعدما أصبحت تركيا وقطر ملاذًا آمنًا لعناصر الجماعة الهاربة من مصر. ومن هنا بدأت الدوحة وأنقرة في توظيف واستغلال ورقة الإخوان لصالحها عبر ابتزاز ومناكفة دول التحالف العربي وفي مقدمتهم مصر.
- مستوى وحدود العلاقات التجارية، على خلفية التعاون بين الطرفين، ارتفع مستوى التبادل التجاري بينهما من 340 مليون دولار خلال عام 2010 إلى ما يقرب من ملياري دولار عام 2019، كما تنخرط الشركات التركية العاملة في مجال البناء بشكل مكثف في قطر، حيث بلغت قيمة المشاريع الإجمالية لها في مجال البناء نحو 18 مليار دولار منذ عام 2002، في الوقت ذاته تعمل حوالي 535 شركة تركية في السوق القطرية، مقابل 170 شركة قطرية تعمل في تركيا.
- تعاون عسكري وثيق، أفضت العلاقة الترابطية بين الطرفين إلى انتشار ووجود عسكري تركي في منطقة الخليج عبر تدشين قاعدة عسكرية تركية في قطر، وذلك في إطار اتفاق بين الدوحة وأنقرة نهاية 2014، وفي أكتوبر عام2015 بدأت تركيا إرسال جنودها إلى الدوحة وقد وصل عدد الجنود آنذاك إلى ما يقرب من 300 جندي، وفي أعقاب المقاطعة العربية لقطر وتحديدًا في يونيو 2017، بدأ التعاون العسكري يأخذ شكلًا متطورًا؛ إذ سعت تركيا لتوسيع القاعدة وزيادة تواجدها العسكري وانتشارها في قطر، وأشار عدد من التقديرات إلى مساعي أنقرة لزيادة جنودها لنحو 5000 جندي، وتستهدف تركيا من الانتشار العسكري في قطر العمل على توسيع نفوذها الاستراتيجي بهدف امتلاك أوراق المساومة، فضلًا عن حماية مصالحها الحيوية في عدد من المناطق بهدف إحياء العثمانية عبر فرض نفوذ في المناطق التي كانت خاضعة للخلافة العثمانية قبل سقوطها.
دلالات الزيارة
ترتيبًا على ما سبق، يمكننا الوقوف على عدد من الدلالات حول زيارة الرئيس التركي الحالية لقطر وذلك فيما يلي:
أولًا: مواجهة العزلة الإقليمية الخليجية، المتابع للموقف التركي والقطري والتفاعلات الإقليمية والدولية لطرفين يُدرك أنهما يعيشان حالة من الأزمة والعزلة المشتركة. فعلى الصعيد التركي، تعاني أنقرة من عزلة إجبارية في عدد من الملفات سواء في منطقة شرق المتوسط، خاصة في أعقاب تشكيل وتحويل منتدى غاز المتوسط إلى منظمة إقليمية، وما تبعه من موقف أوروبي وأمريكي مناهض للتحركات التركية شرق المتوسط وانتهاكها الدائم لقواعد القانون الدولي للبحار، أو من خلال تراجع الدور التركي في لبيبا وفشلها في تجاوز خط سرت الجفرة الذي اعتبرته القاهرة خطًا أحمر، علاوة على توتر العلاقة بين تركيا وحلفائها التقليديين سواء داخل الناتو أو علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية تعاقد تركيا على صفقة S400 الروسية وهو ما يعد خروجًا عن المظلة الجماعية والدفاعية للناتو. من ناحية أخرى تعيش قطر عزلة خليجية فرضتها عليها المقاطعة العربية منذ عام 2017 بسبب سلوكيات الدوحة المزعزعة لاستقرار منظومة الأمن في الخليج. ومن هنا يحاول الطرفان توظيف الزيارة للإيحاء بوجود تحالف إقليمي بينهما يمكنه أن يتجاوز الخناق الإقليمي والدولي المفروض عليهما.
ثانيًا: دعم القضايا الاستراتيجية، تستدف الزيارة تحقيق درجة كبيرة من التنسيق بين الجانبين في عدد من الملفات الحيوية وفي مقدمتها ما يتعلق بالملف الليبي، خاصة وأن الزيارة جاءت بعد أيام من زيارة رئيس حكومة الوفاق “فايز السراج” إلى تركيا. وفي ظل تطابق وجهات النظر بين الطرفين فيما يتعلق بالأزمة الليبية فإن الزيارة تأتي في إطار مساعي الطرفين للاتفاق حول سبل وآليات التحرك المستقبلي في هذا الملف، خاصة في ظل مساعي أنقرة للحفاظ على أوراق التأثير في غرب ليبيا، والحفاظ على الجبهة الميليشاوية في الغرب الليبي بعيدًا عن الانقسام التناحر والذي بلغ ذروته في الأشهر الماضي على خلفية القتال بين ميليشيات طرابلس ومصراته.
ثالثًا: تأمين وضع التنظيم الدولي للإخوان، كانت ولا تزال جماعة الإخوان المسلمين ضمن أوراق تركيا والدوحة المثمرة والتي تعمل على توظيفها واستغلالها في عدد من الملفات، وعليه تأتي الزيارة في ظل تقديرات تُشير إلى مساعي البلدين للعمل على استعادة التوازن داخل جماعة الإخوان المسلمين وبحث سبل إنهاء الخلافات وصراع الأجنحة والانقسامات الذي تصاعد بصورة غير مسبوقة في الفترات الأخيرة على خلفية اعتقال “محمود عزت”، ومن ثم تعمل تركيا وقطر على إبقاء التنظيم الدولي والحفاظ عليه والحيلولة دون سقوطه، بما يضمن توظيف تلك الجماعة لتحقيق أغراض محور الشر التركي القطري.
رابعًا: ضمان تدفق التمويل الحربي، عملت أنقرة خلال الفترات الماضية على توظيف واستخدام الأداة العسكرية في تعزيز وفرض نفوذها خارجيًا، وذلك من خلال التدخلات العسكرية في عدد من الساحات على غرار ما يحدث في سوريا، العراق، ليبيا وأذربيجان، كما تعمل تركيا بشكل مستمر على نقل المرتزقة والميليشيات إلى ميادين القتال كما هو الحال في ليبيا – نقلت نحو 17 ألف مرتزق- وما أُثير مؤخرًا عن نقلها نحو 4000 مرتزق في أذربيجان، وعليه تحتاج تركيا لمزيد من الأموال والنقود التي يمكنها أن تساهم في استمرار التمويل والدعم لتلك العناصر، وقد تعرض أنقرة على الدوحة توسيع نفوذها العسكري في قطر لتبرير الحصول على الدعم والمساعدات المالية، ومن هنا يمكن قراءة الزيارة في ضوء بحث أردوغان عن مصادر إضافية لتمويل عملياتها الحربية الخارجية.
خامسًا، محاولة الخروج من المأزق الاقتصادي، تعاني أنقرة من أزمة اقتصادية كبيرة وذلك على خلفية تراجع وانخفاض سعر الليرة وانهيار العملة التركية، إذ لجأ البنك المركزي التركي لاستخدام 65 مليار دولار من احتياطات النقد الأجنبي لدعم الليرة المنهارة، وفي ظل تراجع الصادرات التركية لنحو 35% بفعل إغلاق الحدود على أثر جائحة كورونا، إذ ارتفع حجم الدين العام الخارجي في أقل من عام لنحو 169.5 مليار دولار نهاية مايو الماضي، فضلًا على وصول الدين العام التركي لأعلى مستوياته في التاريخ. ومن المتوقع أن يتأثر الوضع الاقتصادي بصورة كبيرة في حالة تطبيق الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على تركيا بسبب التنقيب عن الغاز شرق المتوسط، في ظل توقعات بأن العقوبات هذه المرة قد تنال من قطاعات اقتصادية كبيرة، وقد تتسبب في تجميد عضوية تركيا في الاتحاد الجمركي. ومن هنا يسعى أروغان لتوثيق علاقته مع قطر لمواجهة الوضع الاقتصادي المتفاقم، عبر الحصول على مساعدات مالية سريعة لمواجهة تلك التحديات على غرار ما قامت به قطر بضخ نحو 15 مليار دولار خلال عام 2018 لدعم الاقتصاد التركي المنهار.
سادسًا: البحث عن موطئ قدم، تأتي الزيارة في ظل الجهود المبذولة لتحقيق مصالحة خليجية قطرية، وعليه تنظر أنقرة لتلك التحركات بنوع من الترقب والحذر، ففي حالة حدوث تلك التقارب الخليجي مع قطر، فإن ذلك قد يستلزم تقديم قطر لعدد من التنازلات خاصة ما يرتبط بعلاقاتها مع تركيا وضرورة انهاء التواجد العسكري التركي في الخليج. ومن هنا تدخل الزيارة في نطاق مساعي أنقرة للتنسيق مع قطر بهدف ضمان لعب دور في أية تسويات مستقبلية على أمل أن يرتب هذا في نهاية المطاف حضورًا مؤثرًا لتركيا في الخليج بصفة عامة، علاوة على محاولات امتلاك ورقة يمكن المساومة بها مع إيران.
في الأخير، تؤكد الزيارة الحالية وما سبقها من زيارات على حجم التعاون والتنسيق بين تركيا وقطر، إلا أن السياق العام للزيارة ووضع البلدين في المعادلات والتغيرات الإقليمية والدولية يؤكد على أن التحالف فيما بينهما يتشكل على أساس محاولة الهروب من الأزمة والعزلة المفروضة على الطرفين والتي قد تزداد في الفترات القادمة بصورة كبيرة.
باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع