المراكز الأمريكية

خمسة دروس مستفادة من تمرد فاجنر

عرض – محمود قاسم

على الرغم من نجاح وساطة بيلاروسيا في احتواء تمرد قائد مجموعة فاجنر، ووقف زحفه تجاه العاصمة الروسية موسكو، فإن هذا المشهد طرح جملة من التساؤلات، سواء فيما يتعلق بأسباب اندفاع يفجيني بريجوزين وإقباله على هذه المغامرة، أو ما يتعلق بتداعيات ما حدث على الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى التأثيرات على النظام الروسي واستقراره.

ومع أن الكرملين قد أسقط اتهاماته ضد قائد فاجنر مقابل موافقته على سحب مقاتليه ومنعهم من الوصول للعاصمة، بجانب مغادرته إلى بيلاروسيا، إلا أن فصول المشهد لم تنتهِ بعد. وفي هذا الإطار، سلط خبراء المجلس الأطلسي ” “Atlantic Councilالضوء على خمسة دروس مهمة يمكن استخلاصها مما حدث، وذلك على النحو التالي:

أولًا: مخاطر جسيمة تواجه النظام الروسي

لفت تمرد فاجنر إلى مخاطر وتحديات السياسة الخارجية التي تُسند المهام الرئيسة لجهات فاعلة من القطاع الخاص وخارج القيادة العادية للدولة، ونظرًا لأن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” هو المتحكم الفعلي في اتخاذ كافة القرارات، فإن هذا النهج ينجح كلما ظل بوتين قويًا، بينما يمكن أن يخرج عن السيطرة في حالة ضعفه.

ومع تراجع تمرد فاجنر وعدم قدرته على الاستمرار لغياب الدعم والتأييد، ورغم قدرة النظام الروسي على تجاوز تلك الأزمة، فإن سببها الأساسي سيستمر في إضعاف النظام. وإذ لم يدفع قائد فاجنر ثمنًا باهظًا لتمرده، فسوف يعرض نظام بوتين لخطر جسيم. وأوضح التحليل أن التغيير السياسي في روسيا يأتي إذ ما توفرت ثلاثة عوامل، وهي: انقسام النخبة (تحقق)، وغياب الرضا الجماهيري (تحقق)، وغياب الخوف، وعليه فإذا تمت إزالة الخوف من المعادلة، فسيكون النظام في خطر، فضلًا عن أن النخبة الروسية لا تتصرف كما ينبغي في هذه الحرب.

ثانيًا: احتمالية انعكاس الاضطرابات في روسيا لصالح أوكرانيا في ساحة المعركة

تعد أفضل فرصة لأوكرانيا لهجوم مضاد ناجح هي الهجوم بعمق خلف خط المواجهة الروسي الحالي، وإجبار الروس على التراجع عن 600 ميل من مواقع القتال الدفاعية العميقة لمنع أوكرانيا من قطع روسيا عن خطوط إمدادها.  وأشار التحليل إلى أنه لا أحد حتى من أكثر القيادات العسكرية الأوكرانية تفاؤلًا وجرأة كان يتوقع الهجوم على مقر المنطقة العسكرية الجنوبية لروسيا في روستوف أثناء استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا.

وعليه فمهما كانت دوافع قائد فاجنر الحقيقية، ونتائج تمرده، تظل هناك مجموعة من الاعتبارات الواضحة منها: حالة الارتباك الكبير في المنطقة الخلفية لروسيا، خاصة بعدما فقد الجيش ثقته في قادته، ما يؤدي إلى انهيار الروح المعنوية، وتراجع إرادة القتال. من ناحية أخرى، من شبه المؤكد أن مجموعة فاجنر ستختفي قريبًا، وقد كانت أحد أكثر الوحدات فاعلية في المعارك الدائرة في أوكرانيا، وسواء تم استيعاب عناصر فاجنر في الجيش الروسي أو حلها، فإن أعضاءها قد أُعيد توزيعهم على وحدات مختلفة من الجيش.

ثالثًا، توابع تمرد فاجنر على النفوذ الروسي في أفريقيا

مما لا شك فيه أن تمرد بريجوزين سيؤثر على المسرح الأفريقي، لا سيما في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا والسودان، خاصة أن فاجنر قامت بتوطين وتعزيز قواتها هناك. في حين أن مصالح الحكومة الروسية وفاجنر حتى الآن متعارضة، فسيكون من الضروري على هذه الدول أن تتعامل مع لاعبين روسيين لهما مصالح متنافسة، وسيضع هذا التنافس حلفاء روسيا في أفريقيا في موقف حرج.

وسيؤدي تمرد فاجنر كذلك إلى توضيح طبيعة شراكة روسيا مع هذه الدول، من هنا قد تميل موسكو –التي تدرك مدى تأثير فاجنر في تلك البلدان- لقطع إمداداتها عن القارة، حيث تعتمد حكومات تلك الدول على فاجنر للحفاظ على السلطة أو للحد من تأثير الجماعات والتنظيمات الإرهابية، وقد أبرمت فاجنر عددًا من الصفقات المربحة في تلك البلدان، سواء فيما يتعلق بالسيطرة على الذهب أو الماس وغيرها من العناصر. ومن خلال فاجنر أصبحت موسكو المصدر الرئيس للأسلحة في أفريقيا وكذلك الحبوب الغذائية، وتنشط الشركات الروسية المملوكة للدولة كذلك في مجالات التعدين والمحروقات وقطاعات الطاقة النووية.

رابعًا: التأثير على نفوذ بوتين في أوراسيا 

مع توجه فاجنر نحو موسكو، اتصل الرئيس الروسي برئيس كازاخستان “قاسم جومارت توكاييف” لإطلاعه على الوضع، وقد وصف ما حدث بأنه شأن داخلي. ورغم أن كلامه حمل قدرًا من الدبلوماسية، فإنه حمل إشارات ضمنية بأنها لن تقدم مساعدات لروسيا، وذلك على الرغم من أن رئيس كازاخستان قبل ثمانية عشر شهرًا فقط، كان قد طلب من منظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا مساعدة لتعزيز ولايته وسلطته عندما تحولت الاحتجاجات الشعبية إلى انتفاضة مسلحة، وهو ما حدث بالفعل في أعقاب نجاح 2500 جندي في إخماد الاحتجاجات.

وعلى بعد 750 كيلومترًا تقريبًا جنوب روستوف أون دون، ظلت حدود جورجيا مفتوحة حتى عندما دعا الرئيس “سالومي زورابيشفيلي” رئيس الوزراء “إيراكلي غاريباشفيلي” لعقد اجتماع لمجلس الأمن في البلاد، وحث السلطات على تأمين معابرها الحدودية مع روسيا. وبدا أنه لم يتخذ أي إجراءات على الإطلاق للاستعداد لأي آثار مضاعفة محتملة لعدم الاستقرار في روستوف أون دون وخارجها. وقد أسفرت مكالمات بوتين كذلك إلى الرئيس الأوزبكي “شوكت ميرزيوييف” ورئيس الوزراء الأرميني “نيكول باشينيان” عن قراءات محايدة نسبيًا، على الرغم من أن “باشينيان” طلب البقاء على اطلاع على المزيد من التطورات. 

كان تفوق روسيا في أوراسيا من المسلمات ذات يوم، لكن شبح القوة الروسية قد يتضاءل الآن، مع تداعيات كبيرة على المنطقة. وقد يؤدي تراجع قوة الكرملين إلى حقبة جديدة من السياسات الخارجية الأكثر استقلالية في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، حيث تتطلع الدول إلى تنمية العلاقات مع الغرب والصين.

خامسًا: عزلة صينية محتملة 

تشترك بكين وموسكو في روابط قوية، خاصة ما يتعلق بالهيمنة الأمريكية، والحاجة إلى بناء نظام دولي متعدد الأقطاب، بحيث تسيطر روسيا والصين على مناطق النفوذ الخاصة بها بعيدًا عن التدخل الغربي. وعليه يمكن القول إن لدى بكين حاجة استراتيجية لمنع روسيا من الاضطرابات الداخلية أو انتكاسات دولية يمكن أن تؤدي إلى ظهور نظام معاد للصين. وعليه تظل استراتيجية بكين قائمة على ضمان أن تستمر موسكو وبوتين كحليف في إضعاف قوة الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي هذا السياق، ستدعم الصين بوتين إذا ظل في منصبه في موسكو، وإذ سقط فستنتظر حتى تهدأ الأمور وتنشئ هيكل السلطة الجديدة، وربما مع تقديم مشورة حول ضرورة خروج روسيا من أوكرانيا وتعيد التركيز على المنافسة طويلة الأمد مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.

وبالنسبة للرئيس الصيني، فإن الاضطرابات الداخلية الروسية والتعثر في المواجهة العسكرية الأوكرانية الناجحة المدعومة من الغرب، والعقوبات ستهدد بمزيد من العزلة، وقد يكون الخيار العملي هو الحد من التوترات مع الولايات المتحدة وأوروبا. ومع ذلك، فقد أثبت الرئيس الصيني أنه أكثر أيديولوجية من سابقيه. ومن المرجح أن تؤدي خسارة الشريك الاستراتيجي الرئيس للصين إلى تعميق انعدام الثقة الاستراتيجي بالولايات المتحدة بدلًا من التوافق الدبلوماسي أو الاقتصادي الأكبر. 

تعقيبًا على ما جاء في هذا التحليل يمكننا الوقوف على عدد من الملاحظات وذلك على النحو التالي:

الملاحظة الأولى: لا يزال الجدل قائمًا حول أهداف بريجوزين من تمرده. ورغم أنه أعلن أن هدفه من التحرك لم يكن الإطاحة بالحكومة الروسية، فإن الموقف في مجمله لا يزال مفتوحًا على كافة الاحتمالات، ويبدو أن إخفاقه السريع جاء رغم تنسيق كامل أو تام مع عدد من القيادات العسكرية بما يضمن له نجاح مخططه. 

وتُذكر في هذ الإطار التقارير بشأن احتجاز الجنرال “سيرجي سوروفكين” والإشارة إلى ضلوعه في مخطط التمرد، خاصة أن قائد فاجنر قد تحدث من قبل بصورة جيدة عن سوروفكين، بل اقترح تعيينه رئيسًا للأركان العامة. ويمكن أن يفتح ذلك الباب أمام مزيد من الإجراءات ضد عدد من الضباط في القوات الروسية، إذ قد تتسع دائرة الاشتباه.

الملاحظة الثانية: يمكن أن تلعب قوات “أحمد” الشيشانية دورًا محوريًا لسد الفراغات التي يمكن أن تنجم عن إبعاد فاجنر عن ساحة المعارك في أوكرانيا. ويرجح أن تكون هذه القوات فعالة في المعارك القائمة ومحاولات صد الهجوم المضاد، وذلك في ضوء عدد من الاعتبارات من بينها: اندماج تلك العناصر ضمن وزارة الدفاع عبر توقيعها للعقود التي رفضها قائد فاجنر، علاوة على الكفاء القتالية والتسليحية لتلك العناصر (حوالي 10 آلاف مقاتل)، فضلًا عن الولاء الشديد لمؤسس تلك العناصر الرئيس الشيشاني” رمضان قديروف”، والذي ظهر من خلال تحركه السريع تجاه موسكو لصد تمرد فاجنر ومنعها من مواصلة زحفها تجاه العاصمة.

الملاحظة الثالثة: قد يدفع تمرد فاجنر روسيا إلى إعادة حساباتها وتقييم عدد من الأمور، في مقدمتها موقف ووضع الشركات العسكرية الخاصة، حيث تشير التقارير إلى وجود نحو 37 شركة عسكرية خاصة في روسيا ترتبط بصورة أو أخرى بالكرملين، وعليه سوف تسرع روسيا خلال الفترات القادمة الإجراءات المرتبطة بضمان السيطرة على تلك الشركات وربطها بصورة أو بأخرى بوزارة الدفاع؛ بما يضمن عدم التعرض مستقبلًا لموقف مماثل لما حدث من مجموعة فاجنر، ما يمكن ملاحظته من خلال إعلان مجلس الدوما إعداد مشروع قانون بشأن أنشطة الشركات العسكرية الخاصة.

الملاحظة الرابعة: يمكن أن تتخلى روسيا عن المجهود الحربي لفاجنر في الحرب الأوكرانية، ويبدو أن إعداد معسكر لعناصر الجماعة في بيلاروسيا قد يكون البداية، ومع ذلك قد لا تندفع روسيا لفرض قيود على أدوار فاجنر الخارجية، ما يمكن ملاحظته من الجولات المكثفة والنشاط الدبلوماسي في أعقاب إخماد التمرد، حيث سافر نائب وزير الخارجية الروسي لدمشق، واتصل كبار المسؤولين في وزارة الخارجية برئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، وغيرها من التحركات تجاه مالي، بما يشير إلى رغبة موسكو في طمأنة الدول التي توجد فيها عناصر فاجنر بأن ما حدث لن يؤثر على الدعم القائم لتلك الحكومات. 

الملاحظة الخامسة: لا يرجح أن يتأثر نفوذ فاجنر في أفريقيا بصورة جذرية بحالة التمرد، خاصة أن انتشارها في أفريقيا يأتي ضمن استراتيجية موسكو الأوسع لضمان النفوذ والتأثير وامتلاك أدوات في إطار تنافسها مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويرجح أن تُعاد هيكلتها بصورة تتماشى مع استراتيجية روسيا في أفريقيا.

الملاحظة السادسة: فيما يتعلق بدور روسيا في مناطق نفوذها الطبيعي، فعلى الرغم من أن الحرب الروسية الأوكرانية قد نالت من مكانة روسيا في عدد من المناطق، وأثرت بالسلب على سمعتها العسكرية، فإن التحليلات المرتبطة بتضاؤل نفوذ موسكو في منطقة أوراسيا استنادًا إلى رد فعل قادة تلك الدول على تمرد فاجنر قد يكون به قدر من المبالغة؛ إذ إن كافة الردود جاءت في إطار من الدبلوماسية، ولم يكن متوقعًا أن تتجاوز هذا الحد. وهو ما لا ينفي أن استمرار الحرب وعدم قدرة روسيا على تحقيق أهدافها يمكن أن يؤثر على المدى البعيد على دورها في المنطقة والعالم.

+ posts

باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

محمود قاسم

باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى