
بين الإنكار والتفاؤل الحذر.. موقف الداخل التركي من اكتشافات الغاز
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الجمعة الماضي عن اكتشاف سفينة المسح السيزمي “فاتح” حقل للغاز الطبيعي في منطقة امتياز “تونة-1” على بُعد 100 ميل بحري إلى الشمال من الساحل المطل على الجزء الغربي من البحر الأسود بالقرب من حقل روماني، تقدر احتياطاته بحوالي 320 مليار متر مكعب (11.3 تريليون قدم مكعب)، وأشار إلى أنه سيتم إيصال الغاز للمستهلكين بحلول عام 2023، مدعيًا أن الاكتشاف الجديد سيحقق الاكتفاء الذاتي لتركيا وسيحولها إلى مصدر للطاقة.
ومن المعروف أن تركيا تستورد 95% من احتياجاتها السنوية من النفط والغاز، نصفها تقريبا من روسيا، لذلك تسعى أنقرة إلى تقليل فاتورة الاستيراد التي تتجاوز 40 مليار دولار سنويًا، خاصة في ظل ما تعانيه من أزمات اقتصادية أدت إلى تراجع قيمة العملة “الليرة” بصورة حادة.
شكوك بشأن حقيقة الإعلان
جاء إعلان أردوغان في وقت مُنيت فيه تركيا بهزيمة مدوية في شرق المتوسط بعد أن وقعت مصر في 6 أغسطس الجاري اتفاقية لترسيم الحدود وتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة مع اليونان، وهو ما أبطل اتفاق ترسيم الحدود الذي وقعته تركيا في نوفمبر الماضي مع حكومة الوفاق في ليبيا، والذي سعت من خلاله إلى الحصول على نصيب في اكتشافات شرق المتوسط الواعدة، متعدية على حقوق قبرص واليونان.
وقد حصر هذا الاتفاق تركيا في حدودها المائية وقضى على أحلامها في شرق المتوسط. كما أنه تزامن أيضًا مع هزيمة سياسية لتركيا في ليبيا بعد إعلان رئيس حكومة الوفاق فايز السراج عن وقف إطلاق النار في ليبيا وجعل منطقة سرت-الجفرة منزوعة السلاح على أن تحميها قوة مشتركة من الشرطة، والسعي لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في مارس 2021. وهو ما يوحي بأن الإعلان التركي هو بالأساس رسالة موجهة إلى الداخل لحفظ ماء الوجه وتبرير الانسحاب من شرق المتوسط، والفشل في تحقيق نصر سياسي أو اقتصادي في ليبيا بالسيطرة على موارد الطاقة “الهلال النفطي”، وهو هدف تركيا الأساسي من التدخل في ليبيا.
وتناقلت المواقع والصحف المعارضة التركية تعليقات خبراء في مجال الطاقة، من بينهم أتراك، بأن تصريحات أردوغان ما هي إلا ادعاءات لا أساس علمي لها، فالاحتياطي المكتشف، حال كونه حقيقيًا يغطي 25% فقط من احتياجات تركيا السنوية من الغاز البالغة 45.7 مليار متر مكعب، وبالتالي لن يحقق اكتفاءً ذاتيًا أو يحولها إلى مصدر للطاقة، كما أن الحديث عن إيصال الغاز للمستهلكين غير منطقي بالمرة فعملية الإنتاج التي تشمل حفر آبار استكشافية جديدة وإجراء مزيد من الاختبارات، من حقل هكذا يبلغ عمقه 3500 متر، ويمتد إلى 2100 متر في البحر و1400 متر تحت قاع البحر، ستستغرق ما لا يقل عن ست إلى سبع سنوات، خاصة وأنه لا يوجد سوى عدد من الشركات لديها المعدات اللازمة لإنتاج الغاز بهذا العمق، ومعظمها مقرها الولايات المتحدة.
كذلك لا تمتلك تركيا البنية الأساسية لتسييل الغاز، وقد أعلنت مسبقا أنها تحتاج إلى تكاليف باهظة لا تقدر عليها، فضلًا عن أن شركات الطاقة العالمية العاملة في تلك المنطقة لم تتوصل بعد أكثر من 100 عملية مسح سيزمي إلى وجود غاز.
كما أثار كُتاب وشخصيات معارضة من بينها أرطغول جوناي، الذي شغل مناصب مختلفة في حزب العدالة والتنمية حتى وزير الثقافة، شكوكًا منطقيةً بشأن حقيقة وجود هذا الحقل فعليًا؛ حيث إن الإعلان عن اكتشافات غاز أمر متكرر يلجأ إليه النظام التركي لكسب الشعبية في أوقات الأزمات أو مع اقتراب موعد الانتخابات والاستفتاءات؛ ففي الفترة بين عامي 2004 و2020 كان هناك ما لا يقل عن 10 إعلانات عن اكتشافات للغاز الطبيعي لم تسفر عن موارد طاقة مستخرجة وقابلة للاستخدام.
ومن ضمن هذه الإعلانات ما حدث في 21 يناير 2010 من إعلان عن اكتشاف نفطي في جيل جودي بمدينة شرناق وذلك قبل استفتاء 12 سبتمبر 2010 على التعديلات الدستورية. وفي 7 فبراير 2014 اُعلن عن اكتشاف غاز صخري في ديار بكر يلبي احتياجات تركيا لمدة 40 عامًا، وذلك قبل الانتخابات المحلية في 30 مارس 2014. الأمر نفسه تكرر في العام التالي قبل الانتخابات التشريعية يوم 7 يونيو 2015، حيث أعلنت شركة مرسي الكندية للطاقة في 9 يناير 2015 وجود احتياطيات من الغاز الطبيعي في حقل بويراز بمدينة تراقيا. وفي 14 أكتوبر من العام ذاته أعلنت شركات “بان أتلانتك” و”لوك أويل” و”روم جاز” اكتشاف 30 مليار متر مكعب من احتياطيات الغاز في البحر الأسود.
وفي 16 مايو 2018، قبل الانتخابات الرئاسية التي فاز بها أردوغان في 24 يونيو، أذاعت قناة سي إن إن ترك وجود نفط في كل من مدن ماردين وشرناق في منطقة ساسون في باتمان. وأخيرًا في 8 فبراير 2019، أعلن وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونمز العثور على 20 تريليون متر مكعب من احتياطيات الغاز الطبيعي في تراقيا.
تلك الشكوك انعكست على سعر صرف العملة وأداء البورصة، حيث تراجع سعر صرف الليرة مقابل العملات الأجنبية، خاصة الدولار الأمريكي، بالتزامن مع إعلان أردوغان اكتشاف حقل غاز، وسجل سعر صرف الدولار أمام الليرة خلال كلمته 7.30 ليرة، من 7.27 ليرة خلال بداية التعاملات. كما تراجع المؤشر الرئيسي لبورصة إسطنبول (BIST 100) إلى 1.134 نقطة، وختم تعاملاته عند مستوى 1.109 نقطة بعدما بدأت التعاملات بارتفاع طفيف بقيمة 1.04%، عند مستوى 1.138.49 نقطة.
موقف الأحزاب التركية من الإعلان
لاقى إعلان أردوغان ترحيبًا متوقعًا من حزب الحركة القومية اليميني المتطرف شريك حزب العدالة والتنمية في الائتلاف الحاكم وحليفه في تحالف الشعب، حيث رأى رئيس الحزب دولت بهتشلي أن الاكتشاف سيزيد من قوة تركيا الاستراتيجية وأمنها الاقتصادي وتقليل اعتمادها على المصادر الأجنبية، وسيساعد في حل بعض مشاكلها الكبيرة، وشدد على أن الطاقة هي المفتاح الاستراتيجي للمستقبل وأن الاعتماد بنسبة 72 في المئة على مصادر الطاقة الأجنبية يؤثر سلبًا على ميزان المدفوعات التركي، وادعى أن هناك دولًا أزعجها الاكتشاف وتحاول تقويض هذا الاحتياطي.
بينما أحدث الإعلان تباينًا في ردود فعل الأحزاب المعارضة حيث انتقد عدد كبير منها الإعلان واعتبروه أحد ألاعيب أردوغان المتكررة التي يلجأ إليها لإلهاء الشعب عن الفشل في إدارة الأزمات الاقتصادية الداخلية والمغامرات الخارجية التي تورط فيها مع سوريا وليبيا ومصر وقبرص واليونان وغيرها دون الحصول على مكاسب تذكر.
على جانب آخر، سادت حالة من التفاؤل الحذر بين بعض أحزاب المعارضة التي رأت في الاكتشاف المزعوم فرصة لتركيا لزيادة الاعتماد على الذات وتقليل الاعتماد على روسيا وإيران وأذربيجان، وزيادة الموارد الاقتصادية، ويُمكن رصد موقف أحزاب المعارضة من الإعلان كالتالي:
1. حزب الشعوب الديموقراطي: وهو أكبر أحزاب المعارضة في تركيا والمؤيد للأكراد، وقد كان الأكثر انتقادًا للإعلان، حيث أفادت الرئيسة المشاركة للحزب برفين بولدان أن حزب العدالة والتنمية لجأ لأكذوبة اكتشافات الغاز المعتادة والإعلان عنها كبشرى سارة في ظل حالة من الجوع والفقر والبؤس يُعاني منها الشعب، مؤكدة أن الشعب لن ينخدع هذه المرة ولن يصدق تلك الألاعيب التي يلجأ لها النظام في كل مرة يجد نفسه فيها محاصرًا بالمشاكل، وشددت على أن حكومة أردوغان لا تهتم برعاية مشاكل الشعب، وإنما بمصالحها الخاصة، وسلطتها.
كذلك رأى النائب عن الحزب في البرلمان، جارو بايلان، أن الغاز الطبيعي يمكن أن يعطي دفعة للاقتصاد لكن لا يمكنه إيقاف انهياره؛ فالغاز الطبيعي والنفط لم يجلبوا الرخاء لفنزويلا وإيران وأذربيجان التي تحكمها أنظمة استبدادية.
2. حزب المستقبل: وهو الذي أسسه رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو بعد انشقاقه عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، وقد أعرب عن أمله في ألا يكون هذا الأمر وسيلة لجأ إليها الحزب الحاكم لإنقاذ شعبية أردوغان، مما يجر اقتصاد البلاد لحافة الإفلاس.
3. حزب الديمقراطية والبناء: وهو الذي أسسه نائب رئيس الوزراء الأسبق “علي باباجان”، بعد انشقاقه أيضًا عن حزب العدالة والتنمية، وقد طالب الحزب نظام أردوغان بالكشف عن كافة تفاصيل هذا الكشف عملًا بمبدأ الشفافية.
4. حزب اليسار التركي المعارض: اعتبر في بيان له، أن إعلان أردوغان محاولة جديدة من محاولات النظام التركي التي اعتاد عليها لتضليل الشعب بقصص نجاح وانتصارات وهمية لإنقاذ شعبيته التي تهاوت مؤخرًا إلى حد كبير، وطالبه بالكف عن هذا السلوك، مشيرا إلى أنه إذا كان من المتوقع أن يزداد إنتاج الغاز الطبيعي في البلاد بشكل كبير، فيجب أن يحصل المواطنون على نصيبهم من الأخبار السارة بتخفيض أسعار الغاز الطبيعي إلى النصف.
5. حزب الشعب الجمهوري: على عكس المواقف السابقة كان من أكبر أحزاب المعارضة التي رحبت بالإعلان عن اكتشافات الغاز الجديدة، حيث وصف مسؤول ملف الطاقة بالحزب أحمد أقين الإعلان بأنه سار، واعتبر أن مسائل الطاقة شأن وطني فوق السياسة، لكنه أشار إلى أن كيفية استخدام الاحتياطي المكتشف لم تتضح بعد، وأن الاكتشاف من غير المرجح أن يغطي الاستهلاك المحلي لتركيا كما أفاد أردوغان، لذلك من المهم وضع خريطة طريق للاستفادة من الحقل خاصة أن الاكتشافات السابقة انتهى بها الأمر إلى لا شئ.
وشدد على أن الكيفية التي سيؤثر بها هذا الاكتشاف على عقود الطاقة طويلة الأجل بين تركيا وروسيا لم تتضح بعد، إذ إن تركيا تحصل على الغاز الطبيعي الروسي بضعف سعره، لكن السعر الدقيق غير معروف لأن الحكومة لا تعلن عن الأرقام بدعوى أنها أسرار تجارية. وتوقع أن تكون هناك اكتشافات مماثلة من شرق البحر المتوسط، حيث توجد جهود مستمرة لاكتشافات الحقول المعروفة في المنطقة، على حد قوله.
فيما قال نائب الحزب في قونية، عبد اللطيف شنار، الذي شغل منصب وزير المالية ونائب رئيس الوزراء في حكومات أردوغان بين عامي 2002 و2007، إن المخاوف تتزايد لأن الحكومة “لم تكن شفافة” منذ التحول إلى النظام الرئاسي مع انتخابات 2018، ورأى أن الإعلان تحول إلى حفل لإنقاذ صهره، في إشارة إلى المعارضة العلنية المتزايدة ضد وزير المالية بيرات البيرق مع استمرار الاقتصاد التركي في التعثر.
واحتفل رئيس بلدية اسطنبول المعارض، أكرم إمام أوغلو، الذي ينتمي للحزب بهذا الاكتشاف، وتمنى أن تزيد احتياطيات الغاز الطبيعي المكتشفة من قوة تركيا. الموقف نفسه تبناه عمدة أنقرة منصور يافاش، المنتمي للحزب أيضًا، حيث اعتبر الإعلان خطوة مهمة في مجال الطاقة وتمنى تحقيق نتائج جيدة للاكتشاف.
ويأتي موقف الحزب المرحب على الرغم من تصريح أدلت به الأمين العام للحزب، سيلين سايك بوك، لقناة خلق قبل إعلان أردوغان، رأت فيه أن اكتشافات الغاز لن تفيد الشعب التركي في شيء، بل ستتسبب في رفع الفواتير، وإنما ستكون فائدتها للمستثمرين المواليين لأردوغان. وتجدر الإشارة إلى أن تعليقات المسؤولين في الحزب على الاكتشاف بالموافقة الحذرة جاءت على الرغم من إشعار إرسل لهم من الحزب بعدم التحدث إلى وسائل الإعلام بشأن هذه المسألة.
6. حزب الخير: قال المتحدث باسم الحزب، يافوز أغيرالي أوغلو، إن أي شئ يتم اكتشافه لتركيا سيكون ذا قيمة حتى لو كان مترًا مكعبًا واحدًا، لأن ذلك من شأنه أن يقلل من الاعتماد الخارجي على الطاقة ويقلل من عجز الحساب الجاري. وشدد أوغلو على أهمية التوزيع العادل للإيرادات التي سيتم توليدها من الاحتياطي، وضرورة وجود بيروقراطيين أكفاء لتحقيق هذه الغاية.
لكن النائب عن الحزب في البرلمان، أوميت ديكباير، استنكر الإعلان واعتبره مناورة من أردوغان مع اقتراب موعد الانتخابات، مشيرًا إلى أن هذا الاكتشاف هو الثامن من نوعه، وأن الاختلاف هو في تغيير اسم المكان الذي ينبع منه الغاز فقط.
ختامًا، لا يزال الداخل التركي يترقب المزيد من المعلومات التفصيلية والإجابات الواضحة بشأن الاكتشاف المزعوم، فيما يتعلق بكيف للسفينة فاتح أن تحصل على هذا الكشف في أقل من شهر من عملها؟ وما هي الكمية التي يُمكن استخراجها يوميا؟ وكم سيتكلف ذلك؟ ومن أين سيتم تدبير هذه الموارد بعد الإعلان سابقًا عن أنها تكاليف تفوق قدرة الاقتصاد التركي؟. ينتظر الشعب والسياسيين الأتراك خطة طريق مفصلة وشفافة بشأن كيفية الاستفادة من هذا المورد، إن صح، وهو أمر أيضًا ستكشفه الأيام المقبلة.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية