تركيا

فورين أفيرز: تركيا في مرآة الولايات المتحدة

عرض- آية عبد العزيز

في الستينيات وعد السياسيون الأتراك المحافظون بتحويل تركيا إلى “أمريكا صغيرة”. وقد استند هذا التعهد إلى رؤية متفائلة للولايات المتحدة، ولكن بعد ما يقرب من نصف قرن، تجد الولايات المتحدة نفسها في طريقها لتصبح نسخة أكبر من تركيا وليس العكس. لذا فقد نشرت مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية يوم 22 يوليو، مقالًا بعنوان “تركيا في مرآة الولايات المتحدة: ترامب يحاكي الرجل القوي في أنقرة” للمعلق السياسي “ايس تميلكوران” ومؤلف كتاب “كيف تخسر دولة: الخطوات السبع من الديمقراطية إلى الديكتاتورية”. 

يُشير فيه الكاتب إلى أن عدم قدرة الإدارة الأمريكية على احتواء أزمة الفيروس التاجي “كوفيد-19” والتغلب عليها ساهم في خلق مزيد من الجبهات التي وظفها منافسو “ترامب” ووسائل الإعلام ضده، وذلك في إطار الانتفاضة التي اندلعت بعد مقتل الشرطة للمواطن جورج فلويد؛ إذ تجاهل الرئيس حالة عدم المساواة في المجتمع الأمريكي، ومحاولة تهدئة المشاعر العنيفة في الشارع، وتعامل معها على إنها أعمال شغب وفوضى، وأمر باستخدام القوة لتفريق المُتظاهرين، الأمر الذي دفع البلاد إلى حالة من الاستقطاب الشديد. بالرغم من إصراره على إنه مدافع عن الولايات المتحدة، وانتقاده المستمر للنخب اليسارية. 

وعليه يتشابه نهج “ترامب” مع أصداء انزلاق تركيا نحو الاستبداد في عهد “أردوغان”، وخاصة فيما يتعلق بالحديث عن الهوية الوطنية الحقيقية، بين الأمريكيين “الحقيقيين” أو الأتراك “الحقيقيين” ضد أولئك الذين يعتبرون أقل مصداقية. فمنذ أكثر من عامين، يحاول الكاتب إقناع الجماهير في المملكة المتحدة والولايات المتحدة بأن دروس محنة تركيا ذات صلة بهم، مؤكدًا على أن التحول السلطوي العالمي لديه أنماط شائعة يمكن أن تتكرر في كل البلاد. 

ففي عام 2002، اكتسح حزب “العدالة والتنمية” الذي أسسه “أردوغان” الانتخابات الوطنية، واستطاع الوصول إلى السلطة، مُستندًا إلى حد كبير على الادعاء بأن الحزب يجسد الإرادة الحقيقية للأمة التركية؛ حيث أدان الحزب خصومه بإنهم نخبة فاسدة عالمية. وخلال السنوات الـ 18 الماضية، قام “أردوغان” وحلفاؤه بتوسيع نطاق صلاحياته، وقاموا بقمع المعارضة وتجاوز مؤسسات الدولة. 

الأمر الذي دفع البلاد إلى حالة من الانقسام والاستقطاب، فبعد الانتصار الأول لحزب العدالة والتنمية حاول الاشتراكيون الديمقراطيون الأتراك ووسائل الإعلام السائدة الدفاع عن المؤسسة السياسية، وهي مناورة سمحت فقط لأردوغان بأن يصمم نفسه باعتباره المستضعف والضحية للسلطات. وبالمثل، سمح الديمقراطيون في الولايات المتحدة ووسائل الإعلام السائدة لترامب بإلقاء نفسه في هذا الضوء، ليقدم نفسه على أنه متمرد حتى عندما يكون في السلطة.

كما تراجعت وسائل الإعلام الرئيسية بعد وصول “ترامب” إلى السلطة مثل “نيويورك تايمز” وغيرها من المنافذ البارزة عن انتقاده من خلال إعطاء منصة هائلة لمؤيدي الشعبوية اليمينية، والتي ترجمت حتمًا إلى قبول فكرة ترامب ومؤيديه على أنهم مستضعفون سياسيون. خلال السنوات الأولى من رئاسة “أردوغان”، حاولت وسائل الإعلام الرئيسية استيعاب المزيد من الأصوات المتحالفة سياسيًا وثقافيًا مع “أردوغان” وحزبه. وبعد ذلك استولى على الثقل السياسي للدولة، وقام باستبعاد جميع الأصوات الأخرى. 

لذا فإن سياسة “ترامب” وموقفه من الصحفيين أصبح يُشكل تهديدًا وجوديًا لأخلاقيات الصحافة؛ لأن فكرة الموضوعية التي يتم التفاخر بها هي في الواقع نوع من الحياد -الرغبة في تقليل كل من الأكاذيب والتجاوزات- الذي يُشكل خيارًا سياسيًا، خاصةً في الأوقات التي تتزايد فيها قوة الأيديولوجيات الاستبدادية.

وفي هذا السياق، ذكر الكاتب أن وسائل الإعلام التركية كانت مثل وسائل الإعلام الأمريكية تتبع ممارسات حقبة الحرب الباردة، حتى في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بإعطاء مساحة لأصوات الشعبويين اليمينيين، وتصر على أن الاشتراكية تشكل تهديدًا للديمقراطية، ورفض أصوات تدعو إلى العدالة الاجتماعية. ولكن هناك تحول ملحوظ يمكن الإشارة إليه فعلى سبيل المثال أثارت احتجاجات Black Lives Matter حوارًا حول ما يعنيه أن يكون الصحفيون موضوعيين: حيث يتحمل الصحفيون مسؤولية فطرية في الدفاع عن حقوق الإنسان. 

إذ أجبرت الضجة الأخيرة في صحيفة “نيويورك تايمز” – بعد نشر مقال لسناتور جمهوري يدعو إلى استخدام القوات المسلحة ضد المتظاهرين- إلى استقالة رئيس تحرير الصحيفة، مؤكدًا على أهمية شجب مثل هذه الأفكار لعدم إتاحتها على مثل هذه المنصة البارزة.

ويرجع ذلك لإن مقال السيناتور في اللحظة الحالية للاضطرابات السياسية والأخلاقية في الولايات المتحدة والبلدان الأخرى التي يحكمها الشعبويون اليمينيون هي في الواقع أعراض نظام متداعٍ، نتيجة التفاوت الاقتصادي وتفاقم الأوضاع بعد جائحة كورونا. وبالرغم من ذلك لم تؤذ التداعيات الاقتصادية للوباء “أردوغان” بقدر ما ألحقت الضرر بترامب؛ لأن حزب العدالة والتنمية قد استطاع خلال العقدين الماضيين بناء بنية تحتية اقتصادية معقدة من المحسوبية التي أفادته في كثير من المناطق لكونه يتمتع بدعم هائل من العديد من الأتراك. 

لكن حرب ثقافة “أردوغان” التي لا نهاية لها لن تنقذ تركيا من العواقب الاقتصادية للوباء؛ إذ توقع صندوق النقد الدولي في مايو أن ينكمش الاقتصاد التركي بنسبة 5% هذا العام وأن تصل البطالة إلى 17.2%. 

وبالنظر إلى المعارضة في تركيا فقد كشف الكاتب أنها تكافح بشكل عام لمهاجمة “أردوغان” وحزبه في القضايا الاجتماعية والاقتصادية الجوهرية. في المقابل يجب أن يكون الديمقراطيون في الولايات المتحدة قادرين على تطوير أفكارهم الاقتصادية التي كانت في الماضي تخالف العقيدة الرأسمالية، وإلا فإنهم يخاطرون بخيبة أمل في المستقبل.

كما يجب على الديمقراطيين توجيه السخط العام في المجتمع حتى لا يتفاقم ويغذي القوى الشعبوية اليمينية مستفيدين بذلك من تجربة تركيا؛ حيث فشل الديمقراطيون الاجتماعيون في تسخير طاقة النقابات والأتراك من الطبقة العاملة في فترات الاضطرابات. خوفًا من أن يظهروا راديكاليين وأن يتم وصفهم بتهديد الأمن القومي. الأمر الذي سمح لأردوغان بملء الفراغ وتأكيد نفسه كرئيس للوحدة الوطنية.

وعليه يحتاج الجمهور الأمريكي إلى التعرف على مشاعره. لأن التعبير عن اليأس والغضب على وسائل التواصل الاجتماعي ليس بديلاً عن الانخراط السياسي الفعلي، لحماية الديمقراطية وحرية التعبير والحفاظ على مؤسسات الدولة قوية ومستقلة. بالإضافة إلى ذلك يجب على الأمريكيين وغيرهم ممن يحكمهم الشعبويون اليمينيون التضافر والتنسيق العملي بينهم لمنع صعودهم إلى السلطة. 

اختتم الكاتب مقاله قائلًا إن تركيا لم تكن دائمًا ساحة للسياسات الاستبداية اليمينية. وردًا على تحذيراته للأمريكيين والبريطانيين، أشار إلى أن بعض المثقفين البارزين أخبروه أنه ليس من الصواب مقارنة بلدانهم بتركيا. ولكن بعد محادثة أخرى، اعترفوا في النهاية أنه من المستحيل استبعاد أوجه التشابه. الأمر الذي يتطلب التضامن العالمي ضد الفاشية الجديدة من خلال توحيد القوى وتقليل حدة التعالي بين المثقفين وقادة الرأي. فمهما كان اختلاف الدول إلا إنهم فقدوا ديمقراطياتهم بنفس الطريقة تمامًا.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

آية عبد العزيز

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى