سياسة

30 يونيو.. تصحيح مسار الدبلوماسية المصرية من العزلة إلى التأثير

لم تشكل ثورة 30 يونيو 2013 منعطفًا ونقطة تحول في مصر على الصعيد السياسي الداخلي فحسب، بل شكّلت نقطة تحول كبرى في مسار السياسة الخارجية المصرية، بعد عام من العمل على توجيه دفتها نحو محور محدد هو المحور الداعم للحكم الديني وحركات الإسلام السياسي، إذ لم يكن غريبًا أن يكون المرتكز الرئيس في سياسة مصر الخارجية في ظل حكم جماعة الإخوان هو المحور القطري – التركي، والدوران في فلكه، وتوجيه مواقف مصر من القضايا المختلفة -ولا سيّما قضايا المنطقة- حسب مواقف هذا المحور الذي دعم منذ عام 2011 صعود حركات الإسلام السياسي في الدول التي شهدت ثورات، وسيطرتها على مقاليد الحكم فيها، كما لم يكن غريبًا اهتمام الجماعة بتعميق العلاقات مع تركيا وإيران باعتبارهما نموذجي الحكم الإسلامي في المنطقة، مع تعميق نهج السياسة الخارجية المصرية في السنوات القليلة التي سبقت وصولها إلى الحكم في الانصياع للقطب الأوحد وهو الولايات المتحدة.

الانتقال من العزلة إلى التأثير

لم تتوافق إرادة الشعب المصري في 30 يونيو مع إرادة بعض الدول التي رغبت في استمرار مشروع الإسلام السياسي في حكم مصر والمنطقة، واعتبرت خروج الملايين رفضًا لحكم جماعة الإخوان خروجًا عن الديمقراطية، ولذلك عبّرت الكثير من الدول، وخاصة الأوروبية عن قلقها من التطورات الجارية في مصر، مؤكدة حينها ضرورة الانتقال إلى حكم ديمقراطي مدني، فيما حاولت دول أخرى منها الولايات المتحدة مسك العصا من المنتصف، والحديث بنبرة توازن بين الاعتراف بنزول المصريين إلى الشوارع، والتشكيك في مآلات ما حدث، وصولًا إلى أكثر المواقف رفضًا للثورة وهو تعليق عضوية مصر بالاتحاد الأفريقي.

أدخل ذلك كله مصر في مرحلة يمكن وصفها بأنها أشبه بالعزلة الدولية، ومن هنا كانت المعركة الرئيسة بعد نجاح المصريين في إزاحة الإخوان من الحكم هي إقناع العالم بشرعية تحرك المصريين في التخلص من حكم الجماعة الإرهابية، وهي معركة نجحت فيها الدبلوماسية المصرية بجدارة، تحولت بعدها مصر من العزلة الدولية إلى التأثير في محيطها الإقليمي والدولي، والتحرك كلاعب فاعل في مختلف القضايا، بل واختيارها لشغل مقعد غير دائم لمدة عامين في مجلس الأمن الدولي في 15 أكتوبر 2015 بأغلبية 179 صوتًا من أصل 193 دولة، وترؤسها لجنة مكافحة الإرهاب بمجلس الأمن، وهو ما عُدَّ انتصارًا كبيرًا للدبلوماسية المصرية.

Egypt refers GERD issue to UN Security Council - Egypt Today

انطلقت مصر في هذه المعركة من أساس صلب وهو ما تملكه من مقومات استراتيجية، ومعرفة أن العالم كله سيكون في حاجة إليها لما تمثله من قوة إقليمية كبيرة في الشرق الأوسط، وفاعل لا يُستهان به في قضايا المنطقة، ولذلك كان النهج المتبع في استعادة العلاقات مع الدول المختلفة هو نهج تعزيز المصالح المشتركة، وليس السعي إلى كسب رضا الدول الأخرى، بل انتقلت إلى سعي القوى الكبرى إلى تنسيق المواقف معها فيما يخص قضايا المنطقة، ولا سيّما الأزمة في ليبيا. والاستفادة من خبراتها في العديد من الملفات مثل الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وهما الملفان اللذان كانا محور مباحثات الدول الأوروبية مع مصر، وأثبتت فيهما مصر قدرتها على مجابهة كافة التحديات، وهو ما جعل من مصر الحليف الأهم للدول الأوروبية في الشرق الأوسط على كافة المستويات.

شاهد الرئيس السيسى يشارك بالصورة التذكارية لقادة مجموعة السبع ...

قوة مصر في المنطقة ظهرت كذلك في حضورها الكثير من المحافل الدولية الاقتصادية والسياسية، ومنها قمم دولية شاركت فيها مصر للمرة الأولى في تاريخها، فاقتصاديًا شاركت مصر في قمة مجموعة العشرين عامي 2016 و2019، وقمة الدول السابع الصناعية الكبرى في فرنسا 2019  والقمة البريطانية الأفريقية للاستثمار 2020، وقمة التيكاد في اليابان 2019 وقمة الحزام والطريق في الصين 2019 وقمة منتدى الصين أفريقيا 2018 والقمة الأوروبية الأفريقية بالنمسا 2018، وقمة بريكس 2017 وقمة الفيشجراد بالمجر 2017، وسياسيًا شاركت مصر في مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية مطلع العام الجاري، وقبله مؤتمر باليرمو حول ليبيا عام 2018، فضلًا عن مؤتمر ميونيخ للأمن، بجانب استضافة القمة العربية الأوروبية في شرم الشيخ 2019. ويبرهن كل ذلك على الثِقل الذي بات يميز السياسة الخارجية المصرية.

تنويع العلاقات مع القوى الكبرى وتعدد الأقطاب

السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة 30 يونيو انتقلت من مرحلة التبعية إلى القطب الأوحد، إلى مرحلة الشراكة مع جميع القوى الدولية، وإقامة علاقات متوازنة مع الجميع، فلم تعد رهينة علاقاتها مع الولايات المتحدة فقط كما كان الأمر في عهد الجماعة الإرهابية وما قبله، وإنما عززت شراكاتها وتعاونها مع روسيا أيضًا، خاصة وأن روسيا من أول الدول التي دعمت مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013، وأيدت قرار الشعب المصري. وتكلل ذلك بتوقيع اتفاقية شراكة استراتيجية كاملة بين القاهرة وموسكو في أكتوبر 2018، بالإضافة إلى إسناد مهمة إنشاء محطة الضبعة النووية إلى شركة روساتوم الروسية.

وفي خضم ذلك كله، تبقى الولايات المتحدة حليفًا مهمًا لمصر، وشريكًا استراتيجيًا، وساهمت الدبلوماسية المصرية في عودة العلاقات الاستراتيجية بين البلدين إلى مسارها الصحيح، بعد فترة من الارتباك بعد ثورة 30 يونيو. مع الحفاظ على كونها علاقات استراتيجية بنّاءة وفعّالة، دون الهيمنة الأمريكية على القرار المصري، إذ تتحرك مصر وفق مصالحها مع كل القوى الدولية. وهذا ما ظهر في تعزيز مصر في الوقت ذاته لعلاقاتها مع الصين، وخاصة العلاقات الاقتصادية، وتجلى ذلك في إعلان البلدين الارتقاء بمستوى الشراكة بينهما إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية في عام 2014، واستمر حجم الاستثمارات الصينية في مصر في الازدياد حتى بلغ 1.1 مليار دولار عام 2018.

مرتكزات وأهداف السياسة الخارجية المصرية بعد 30 يونيو

بناء على ما تقدم، يمكن الإشارة إلى أهم أهداف ومرتكزات السياسة الخارجية المصرية فيما يلي:

الحفاظ على مقدرات المصريين: في منطقة تموج بالعديد من المتغيرات وتحيط بها الكثير من الأطماع، وخاصة بعد الاكتشافات الكبيرة للغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر المتوسط، كان الحفاظ على هذه الثروات والمقدرات هدفًا رئيسًا من أهداف سياسة مصر الخارجية ودبلوماسيتها، ولذلك عمدت مصر إلى إحياء علاقاتها مع كل من قبرص واليونان وتبادل الزيارات معهما، وصولًا إلى ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط؛ للحفاظ على مقدرات المصريين فيها، وقطع الطريق أمام أي محاولة للنيل منها.

المصالح المصرية فوق أي اعتبار: على العكس من السياسة الخارجية المصرية في عهد جماعة الإخوان التي تبلورت حول تحقيق المصالح العليا للجماعة وليس للوطن، كان الهدف الرئيس للسياسة الخارجية المصرية بعد ثورة 30 يونيو هو تحقيق مصالح مصر العليا بصرف النظر عن أي مصالح ضيقة أخرى؛ إذ أعلت مصر في علاقاتها مع الدول الأخرى مبدأ أن مصالحها مقدمة فوق أي اعتبار، ومنها اعتبارات الصراع أو التنافس بين القوى الكبرى، إذ تبحث مصر عن مصلحتها مع كل القوى الدولية الكبرى دون التبعية لأي منها.

دعم الدول الوطنية: ملمح رئيس من ملامح سياسة مصر الخارجية بعد ثورة 30 يونيو ومرتكزاتها هو دعم الدول الوطنية في حربها ضد الميلشيات المسلحة والإرهابية التي تريد انتزاع السيطرة على هذه الدول، وهو ما ظهر في مواقف مصر في كل من أزمات سوريا وليبيا واليمن؛ إذ أكدت دعمها للدول الوطنية في مواجهة الجماعات والحركات والميلشيات التي تخوض حروبًا في هذه الدول منذ 2011، وذلك سعيًا من مصر لإنهاء حالة عدم الاستقرار التي يشهدها الإقليم، والقضاء على الإرهاب. ورغم أن هذا الثابت الأصيل في سياسة مصر الخارجية بعد ثورة 30 يونيو كان أحد أسباب نشوب خلافات مع بعض البلدان التي انتهجت نهجًا مغايرًا داعمًا لهذه الميلشيات والفواعل من دون الدول، فإن مصر ظلت متمسكة بهذا الخيار ولم تحد عنه. بعد عام من حكم الجماعة الإرهابية التي دعت علنًا لمحاربة الدول الوطنية في صف الميلشيات المسلحة.

تعزيز العلاقات مع العمق العربي: حرصت مصر بعد ثورة 30 يونيو على تعزيز علاقاتها مع الدول العربية كافة، وخاصة الدول الخليجية التي وقفت موقفًا داعمًا بشكل قوي للثورة منذ يومها الأول، مع إعادة مصر لموقعها الريادي والقيادي للأمة العربية من جديد -بعد فترة من عدم الاهتمام بالعلاقات مع الدول العربية سوى قطر- وذلك من خلال الحفاظ على علاقات قوية ومتينة مع كل الدول العربية، وتبادل الزيارات معها، والدفاع عن قضاياها داخل جامعة الدول العربية ومجلس الأمن الدولي، ومن ذلك دعوة مصر لقمة عربية طارئة لإدانة التدخل التركي في سوريا “عملية نبع السلام 2019”, هذا بجانب تدشين آلية التعاون الثلاثي بين مصر والعراق والأردن لدفع التعاون والتنسيق والتكامل بين الدول الثلاث في مختلف المجالات.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى