ليبيا

حرب المطارات.. قاعدة “الوطية” ودوافع تحقيق السيادة الجوية غرب ليبيا

لم ينازع الميدان السوري في الشرق الأوسط ميدانُ آخر أكثر حظًا من نصيب مبادرات التهدئة الإقليمية والدولية؛ سوي الميدان الليبي. مساحة شاسعة من الأراضي الصحراوية وتوزيع ديموغرافي بسيط، ومدن وبلدات مترامية الأطراف بطول الساحل الليبي وعمق جغرافيا الصحراء. ميدان معركة مثالي لتكتيكات التصادم التقليدي بين تشكيلات المشاة – الميكانيكي المدرع، وكذا، ميدان يناسب النظرية الكلاسيكية القائلة بأن الطيران هو سيد حرب الصحراء. وعليه؛ كانت السمة الغالبة لسير المعارك في ليبيا هي الديناميكية المتسارعة، ليس فقط انطلاقًا من كون ميدان المعركة مثالي لحرب الوكالة منخفضة التكلفة، وإنما لجملة اعتبارات أبرزها:

1- تموضع الجغرافيا الليبية في موقع فاصل لديناميات التنافس بين المحاور الإقليمية، إذ تعتبر ليبيا رقمًا مهمًا في معادلة الحضور التركي بمنطقتي شمال إفريقيا وشرق المتوسط، فمن خلالها تستطيع تركيا فرض وقائع ميدانية تمكنها على أقل تقدير من تعطيل مشاريع الطاقة الناشئة في شرق المتوسط، التي تجاهلت تركيا على نحو مُطرد. 

فضلًا عن تهديد الخاصرة الجنوبية الغربية المصرية وتأمين نقطة حضور عسكري ودعم لوجيستي لشبكة مصالحها وتنظيماتها المسلحة في الشمال والغرب الإفريقي.

2- تعطل مسارات التسوية الشاملة، وتعطيل العمل بمخرجات مؤتمرات باليرمو وباريس وبرلين وموسكو، وتضارب الأهداف الحقيقية لتلك المبادرات، التي سرعان ما وُظِفت داخل سياقات التنافس “الروسي – الغربي” للاستئثار بهندسة المشهد السياسي الليبي، عِوضًا عن إذكاء جهود إيجاد الحلول الفعلية لتهدئة ووقف طاحون الحرب.

3- الارتباط العضوي بين شمال سوريا وغرب ليبيا، بعد اتجاه تركيا لتفعيل أكبر عملية إعادة تموضع وانتشار للعناصر المسلحة والإرهابية من شمال سوريا لغرب ليبيا، وتشابك مسارات التهدئة المرحلية للصراع في إدلب بين روسيا وتركيا وشبكة تنظيماتها المسلحة؛ مع المسارات ذاتها في طرابلس. 

4- تحقيق توازن قوي على الأرض بين الأطراف المحلية المتصارعة والقوي الإقليمية الداعمة لها، حيث نجحت تركيا نسبيًا في تحقيق توازن على الأرض من خلال الدعم العسكري اللامحدود بالذخيرة والعتاد النوعي لميليشيات الوفاق (مدرعات – طيران مسير- مئات المرتزقة)، فضلًا عن إرسال المستشارين العسكريين وضباط الاستخبارات حيث يقودون بخبراتهم الكبيرة في الحرب السورية معارك الغرب الليبي ضمن تكتيكات الحرب اللامتماثلة.

5- اللجوء لاستعراض القوة الجوية والبحرية، إذ أجرت تركيا عملية تدريبية يمكن وصفها بالأكثر جرأة منذ انطلاق المرحلة الثانية من حملة الجيش الوطني الليبي لاستعادة العاصمة طرابلس في ديسمبر 2019. وكانت الطلعة التدريبية التي تمت منتصف الشهر الماضي تحاكي تنفيذ ضربة جوية مأهولة لأهداف في ليبيا. انطلقت على إثرها 4 طائرات للتزود بالوقود طراز “كي سي 135” وتشكيل من مقاتلات إف 16 مع طائرة حرب إلكترونية طراز بوينج بيس إيجل.

ونفذ التشكيل السابق تدريبات استمرت ليومين وكانت تجري قبالة المياه الإقليمية الليبية. كما أرسلت تركيا عددًا من قطعها البحرية الصاروخية قبالة سواحل ليبيا لتأمين شحنات السلاح المحملة عبر السفن التجارية، ولتقديم عمليات الإسناد المدفعي والتشويش الالكتروني من الساحل، وخاصة بعدما نجحت مدفعية الجيش الليبي في إسكات الدفاعات الجوية حول مطار وميناء طرابلس، ومن ثم استهدافهما بصورة دورية.

دفعت النقاط السابقة إجمالًا لإبراز دور السيادة الجوية على الميدان الليبي، وخاصة بعدما نجح الجيش الوطني الليبي، في تأمين مطارات مهمة استراتيجيًا في قلب الجغرافيا الليبية، من خلال سلسلة عمليات وضعت مطارات الوسط والجنوب ضمن سيطرته. 

 حيث عزز الجيش الليبي اهم انتصاراته في يونيو من العام 2017 بالسيطرة على منطقة الجفرة وقاعدتها الجوية التي تعتبر نقطة الوصل بين مختلف الاتجاهات الاستراتيجية الحاكمة، ووصل لمطار سبها في الجنوب في يناير 2019، عازلًا بؤرتي مصراته وطرابلس في جيوب عسكرية ضيقة وواضعها أمام خطوط إمداد بحرية وجوية ذات تكلفة عالية ومخاطر تتعاظم مع مرور الوقت، ولاسيما بعد إطلاق الاتحاد الأوروبي لعملية “إيريني” لمراقبة الساحل الليبي ووقف شحنات السلاح التركي التي تخرق كافة مقررات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.

قاعدة “الوطية” .. السيادة الجوية على الغرب الليبي

تعد قاعدة “الوطية” من أكبر القواعد الجوية في البلاد وقطاع الغرب الليبي، كانت في عهد القذافي مقرًا لمقاتلات الميراج، ومع احتدام جولات معركة “طوفان الكرامة” وعزل الميليشيات المسلحة في جيوب عسكرية ضيقة بالساحل الغربي، تحولت القاعدة لمركز قيادة رئيسي لعمليات الجيش الليبي في كل من طرابلس ومصراته وزوارة وزلتين. فهي القاعدة العسكرية الوحيدة في ليبيا التي لا علاقة للطيران المدني بها؛ حيث إن أغلب القواعد العسكرية في ليبيا تستعمل كمطارات مدنية مثل بنينا وطبرق والأبرق ومعيتيقة وسبها.

برز اسم قاعدة الوطية الجوية، منذ مطلع الشهر الماضي، حين بدأت اولي موجات هجوم الميليشيات المسلحة لحكومة الوفاق في الانطلاق نحوها من ثلاثة محاور. المحاولة الأولي فشلت في تحقيق الحد الأدنى من أهدافها المتمثلة في إبقاء القاعدة تحت الضغط المتواصل وإخراجها من الخدمة تكتيكيًا، حيث شنت وحدات الجيش الليبي هجومًا مضادًا بسطت فيه السيطرة على ثلاث مدن رئيسية “رقالدين – العس – الجميل “.

لم تفلح جهود الجيش الليبي في تثبيت السيطرة النارية على البلدات الثلاث لعدة أيام، ونجحت ميليشيات الوفاق في دفع تشكيلات الجيش الليبي بعيدًا عنها، ومن ثم السيطرة على مدن “صرمان – صبراته – العجيلات” منتصف الشهر الماضي. وشكلت توازنًا قويًا جديدًا بالغرب.

وضع التطور السالف ذكره قاعدة “الوطية” تحت تحديات كبيرة منها الحصار التام، وتكرار محاولات اقتحامها من قِبل الميليشيات، إذ شُنت -حتى وقت كتابة هذه السطور- ثلاثة هجمات موسعة للسيطرة عليها في غضون شهر ونصف. فلماذا صدر القرار الاستراتيجي لأنقرة بالسيطرة على هذه القاعدة تحديدًا؟

يمكن عدّ أبرز دوافع أنقرة في السيطرة على هذه القاعدة الهامة، كالآتي:

1- فشل منظومات الدفاع الجوي التركية في تأمين مطاري مصراتة وطرابلس من القصف والاستهداف المدفعي.

https://www.facebook.com/2361625213883088/videos/2487153648281447/

2- تعرض طرق الدعم اللوجيستي بحرا وجوًا لمخاطر كبيرة منها نشاط “عملية إيرني” التي تهدف لوقف إرسال شحنات السلاح والذخيرة من تركيا لليبيا، والاعتراضات الفرنسية واليونانية للسفن التجارية التركية المستخدمة في عمليات شحن الذخيرة والمرتزقة.

3- تعظيم مكاسب سيطرة حركة النهضة على البرلمان التونسي وتأمين خطوط إمداد برية بديلة أقل تكلفة وتعرضًا للمخاطر الأمنية. حيث وصلت طائرة شحن تركية فجر الجمعة في مطار جربة في تونس بحجة نقل مواد طبية إلى ليبيا. 

تجدر الإشارة إلى أن أسطول النقل العسكري التركي الثقيل طائرات الـ A400 نفذ رحلات مكوكية طيلة الأسبوع الماضي، شملت إرسال مساعدات طبية للصومال، وجنوب إفريقيا، ومر أسطول الطائرات بمناطق في غرب إفريقيا منها دولتي أنجولا وتشاد.

أثارت شحنات المساعدات المقدمة لجنوب إفريقيا الجدل، كونها جاءت باستخدام أربعة طائرات شحن عسكري ثقيل دفعة واحدة وهو ما لا يتناسب مع حجم المساعدات الطبية المقدمة التي بلغت نحو مائة ألف قناع واقي ومائة قناع طبي “إن 95”. المساعدات الطبية التركية لجنوب إفريقيا تزامنت مع إبرام صفقة أسلحة مخصصة للأغراض التدريبية مع شركة “راينميتال دينيل”.

خاتمة

تريد تركيا خلق توازن قوي جديد على الميدان الليبي، يستند لتحقيق السيادة الجوية بالمنطقة الغربية تمهيدًا لقطع خطوط الإمداد للوحدات العسكرية التابعة للجيش الليبي على أطراف العاصمة طرابلس ومدينة مصراته؛ لإجبار المشير خليفة حفتر على الإقرار بوجود طرابلس ضمن المظلة التركية في أي من مسارات التسوية السياسية القادمة، إذ تشكل طرابلس الآن آخر قلاع تركيا الحصينة في شمال إفريقيا وشرق المتوسط، وسقوطها بيد الجيش العربي الليبي يعني إلحاق خسارة استراتيجية بأنقرة من العيار الثقيل قد يكون لها أثر الفراشة في تداعي النظام التركي أمام وضع اقتصادي خانق.كما أن تركيا باتفاقياتها البحرية والأمنية العسكرية مع الوفاق اقتصرت مكاسبها على مستوي المدرك السياسي لا على المقومات الحقيقية لشغل هذه الاتفاقية في معادلات الطاقة، وخاصة بعد تعرضها للعديد من المخاطر ما دفع بسياسة طاردة لاستثمار كبريات شركات الطاقة في منطقة “الحدود البحرية المشتركة” المزعومة، مقارنة بالمناطق الاقتصادية الخالصة مع مصروقبرص واليونان. ما يزيد من احتمالات تسرب العمل الإرهابي من ليبيا لدول الجوار، واستعداد تركيا للانخراط عسكريًا واستخباراتيًا ضمن دائرة أوسع تشمل الغرب الأفريقي وهو ما كشفت عنه تحركات أسطول النقل العسكري الثقيل الذي حلق فوق غرب أفريقيا لأيام معلنًا عن نفوذ تركي يأبى الانزواء على وقع خنق الليرة في أسواق العملات.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى