مكافحة الإرهاب

من سينما التليفون الأبيض إلى المدرسة الواقعية..هكذا صاغت مصر ملامح قوتها الناعمة

حالة من الزهو تنتابنا كمصريين إذا تحدثنا ” لهجتنا” في أي بلد عربي ووجدنا حديثنا مفهومًا لا يحتاج شرحًا أو توضيح، قوة ناعمة طاغية نجحت مصر في أن تحوز عليها من خلال إنتاجها الفني والثقافي في عصر ذهبي.

خمسينيات وستينيات القرن الماضي لم تؤرخ فقط  للمصريين بل ولشعوب أخرى، حتى أن الأفلام السينمائية المصرية عندما كانت تعرض على شاشات التلفزة كانت تعرف بالـ” فيلم العربي”، أي فيلم عربي كان بالضرورة فيلم مصري.

نجحت مصر في أن تأخذ خطوات عديدة على طريق القوة الناعمة حتى قبل أن تصبح مصطلحًا منتشرًا ومتعارفًا عليه في تسعينيات القرن الماضي على يد ” جوزيف ناي” الذي شغل منصب وكيل وزارة الدفاع في عهد بيل كلينتون. مصر باعتبارها الدولة الأكثر سكاناً في منطقتها إضافة إلى الكثير من الميزات الأخرى تمتلك ثقل سياسي وتاريخي وثقافي يتيح لنا أن نردد العبارة الشهيرة التي تختصر ذلك النفوذ” القاهرة إذا عطست فإن المنطقة كلها قد تصاب بالزكام”.

مصر وفنها السابع

 من المعروف أن السينما أو الفن السابع ” حيث تجمع بين ستة فنون أخرى” هي إحدى الأذرع الطولى للقوة الناعمة وامتد عمر هذه الذراع في مصر لأكثر من قرن من الزمان استطاعت خلالها السينما المصرية  تجسيد المجتمع وازدواجيته والتعبير عن هموم الناس بمختلف طبقاتهم الاجتماعية، استطاع نجوم ذلك الوقت حقًا أن يجسدوا المجتمع المصري بـ” حذافيره”.

خصوصية الحالة الفنية المصرية

لما كانت أهمية الهيمنة الثقافية لم تعد خفية على أحد، فقد ظهر تنافس محموم لحمل “إرث” مصر السينمائي والثقافي وتعالت أصوات تصفق للـ” قوى الصاعدة في المنطقة” مستهدفة تقييد نفوذ مصر الإقليمي بحرمانها من إحدى أهم قواها على الإطلاق وبرغم من أن الثقافة كانت هي السلاح الأكثر ردعًا حتى الآن والذي وظفته مصر في نبذ العنف والتطرف إلا عن أن استشاطة رحى الحرب الدائرة بين الدولة ومؤسساتها والإرهاب وما يستتبعه من إنهاك للاقتصاد وعبث بالاستقرار قد ألقى بظلاله على تنامي قوة مصر الناعمة.

سينما الخمسينات والستينات فتحت أذرعها على قدر اتساعها لمحبي الفن من مشارق الوطن العربي ومغاربه فخرجت الأعمال الفنية في ذلك التوقيت زاخرة وغنية ومعبرة عن الجميع، المراقب للوضع يدرك جيدًا أنه ليس هناك تحول للدفة لأن طغيان القوة الناعمة لا يعتمد على القيم المادية فقط حيث أن القيم غير المادية هي مكون أساسي والقيم النابعة من البيئة المصرية لا تماثل غيرها وهنا تكمن خصوصية الحالة الفنية المصرية.

وكما أن القوة الناعمة لمصر تعد انعكاسًا لثقلها السياسي والتاريخي فهناك بعض الدول التي تمتلك نفوذًا أعظم مما يعكسه وزنها السياسي والاقتصادي مثل النرويج التي احتضنت على سبيل المثال محادثات سلام كبرى على خلفية إرثها البروتستانتي التبشيري.

وعلى مؤشر القوة الناعمة الصادر عن مؤسسة بريطانية بالتعاون مع موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك تحتل مصر المركز 38 من أصل 60 دولة وذلك حسب بيانات العام الحالي، حيث يضع التقرير عددًا من المؤشرات تصل إلى ستة مجموعات منها الثقافة والتعليم ومؤشرات الحوكمة كما تقيس مدى قدرة الدولة على أن تكون نموذجًا يحتذى علاوة على مؤشر المشاركة الدولية الذي ينعكس في أعداد السفارات وغيرها وهو الجانب الذي تتميز فيه مصر.

وبذلك فإن مفهوم القوة الناعمة أوسع بكثير مما يترد في أوساط النخب المصرية حيث يتبنون مفهوم ضيق مقتصر على العناصر الفنية .

التطور التاريخي لسينما ما بعد الثورة 

كانت أكثر الكتابات التي تناولت تلك الحقبة السينمائية باعتبارها فترة الانتعاشة للقوى الناعمة “معجبة” بالتجربة، وحسب بعض المؤرخين فإنه يمكن رصد تاريخ تطور القوة الناعمة في مصر من منظور سينمائي من خلال أربع مراحل أساسية وهي المرحلة الليبرالية والمرحلة ” القومية” الناصرية ومرحلة السادات ومبارك ثم مرحلة ما بعد يناير 2011.

ونسلط الضوء هنا على الفترة الناصرية حيث تبنت الحكومة المصرية سياسة منحازة للفقراءوغدا النظام الناصري في وقتها ” أيقونة” للحرية ومصدر جذب للكثير من الدول التي لم تنل استقلالها بعد ولذلك فإن البعض يفسر الهيمنة المصرية في ذلك الوقت بمناسبة الظرفين السياسي والتاريخي وتبنى النظام الناصري رسالة فكرية وأدبية وثقافية تركت آثارها حتى الآن.

و قدانقسمت الآراء بشدة حول تقييم الدور الذي لعبه ” جمال عبد الناصر” في الفن بفروعه المختلفة وكانت الاحتفالية التي جرت بمناسبة مرور 100 عام على ميلاده في قصر الأمير “طاز” معبرة عن ذلك حيث حملت اسم ” جمال عبد الناصر في عيون الفن”.  

أفضل 100 فيلم

على أية حال فإنه تكفي مراجعة قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما والتي تم وضعها من قبل كبار النقاد السينمائيين أثناء انعقاد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لنتبين أن عدد كبير من هذه الأفلام تم إنتاجها في عهد ما بعد ثورة 23 يوليو.

من يثيرون الانتقادات حول تلك الفترة يرون أن ثورة يوليو ما لبثت أن طبعت السينما بطابع “ثوري” وقد بدأت تلك الموجة في 1953 ووصلت إلى أوجها في عام 1956وحتى الستينيات حينما تم تأميم صناعة السينماوألحقت بالقطاع العام.

سينما التليفون الأبيض

برصد أكثر دقة فقد كانت أفلام الفترة الليبرالية تسلط الضوء على طبقة واحدة من المجتمع وهي طبقة الأغنياء وتدور قصصها في القصور والبارات حتى أطلق عليها “سينما التليفونات البيضاء”، في إشارة لتلك الطبقة، ولم يكن قبل عام 1953 حينما عرض فيلم ريا وسكينة لمخرجه الفذ صلاح أبو سيف وكانت المرة الأولى التي يرى فيها الجمهورالحواري المصرية على شاشات السينما فقد أسس الفيلم لبداية حقبة الواقعية.

وتلاحقت الأفلام الواقعية التي جابت شوارع القاهرة الحقيقية فرأينا الفتاة الصغيرة تجوب شوارع وسط البلد للحصول على دواء لوالدها القاطن بدير النحاس وتوالت الأفلام التي كان لها تأثير كبير على الحاضر المصري في وقتها وكذلك المستقبل فأسهم فيلم “جعلوني مجرمًا” على سبيل المثال في الاستقرار على رفع السابقة الأولى من صحيفة الأحوال الجنائية . وزخرت فترة الخمسينيات التي تميزت إلى حد كبير عن فترة الستينيات من حيث غزارة الإنتاج وجودته بالكثير من كلاسيكيات السينما فأنتجت أفلام  “شباب امرأة”، ” بين السماء والأرض”، ” باب الحديد ” وغيرها.

وربما يرجع ذاك إلى تكلفة الإنتاج المحدودة في فترة الخمسينيات حيث أن أعلى فيلم من حيث الجودة وعدد النجوم كان يتكلف إنتاجه ما يقرب من 39 ألف جنيه، كما شهدت تلك الفترة ظهور نوعية أفلام أرخ لها بأنها من النوع الدعائي لثورة يوليو وتركت أثرًا في النفوس حتى الآن ومنها فيلم ” جميلة بو حيرد” و ” رد قلبي” الذي حمل شعار ” حكاية حب وحكاية شعب”.

وظهرت أسماء كبيرة في مجال الإخراج مثل “هنري بركات” الذي كان يختصر لبركات كعلامة تجارية مميزة كما كان لنوعية الأفلام الرومانسية جانب كبير من الاهتمام فظهرت العديد من الروائع التي حفرت مكانها في قائمة الكلاسيكيات مثل الوسادة الخالية ودليلة وموعد غرام وجميعها من بطولة حليم.

ثم حلت الستينيات التي شهدت إنتاج عدد من أهم أفلام السينما المصرية على الإطلاق، فأنتج فيلم ” القاهرة 30″ و” الزوجة الثانية” ثم ” اللص والكلاب” و ” ميرامار” وثلاثية محفوظ وبالطبع فيلم ” الناصر صلاح الدين”. ربما لم تكن تلك الفترة من أزهى العصور السياسية حيث كانت مصر لا تزال دولة شابة وفتية تتلمس طريقها ولكنها قطعًا شهدت أزهى العصور الفنية ومرحة الانتشار الأوسع للسينما المصرية فشكلت النواة التي لا تزال قائمة حتى الآن .

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

نيرمين سعيد

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى