سياسة

دلالات التحركات المصرية الأخيرة في أزمة سد النهضة

تواجه المفاوضات المصرية الأثيوبية المتعلقة بسد النهضة إخفاقات متكررة، كان آخرها فشل الوساطة الأمريكية للتوصل لاتفاق في فبراير الماضي، إثر تغيب الجانب الإثيوبي عن الجولة الأخيرة من مفاوضات وزارة الخزانة الأمريكية برعاية الإدارة الأمريكية والبنك الدولي، وهو ما ينذر بوضع غير مستقر وشيك للمنطقة إذا لم يتم حل الأزمة بأسرع ما يمكن.

وفي ظل استمرار تمسك مصر بالحلول السلمية أجرت عديدا من الخطوات والتحركات على المستوى الدبلوماسي والشعبي لدعم موقفها في أزمة سد النهضة، خاصة بعد أن بات تعنت الجانب الإثيوبي ونواياه الخبيثة واضحا أمام العالم.

وفي هذا التقرير، نرصد أهم تلك التحركات من الجانب المصري، والمبدأ الأساسي الذي التزمت به مصر طوال فترة المفاوضات وكان حجر الزاوية لكل تلك التحركات.

أولا: تأكيد مبدأ حسن النية

حرصت مصر خلال خمس سنوات منذ توقيع اتفاق “إعلان المبادئ” على تأكيد مبدأ حسن النية الذي تضمنه الاتفاق، وليس أدل على ذلك من حرص الجانب المصري على حضور كل مراحل التفاوض دون تغيب أو تعنت، وأخرها المفاوضات التي تمت بوساطة أمريكية، وتولد عنها اتفاق يراعي مصالح الدول الثلاث وقعت عليه القاهرة منفردة بينما امتنعت السودان عن التوقيع، وتغيبت اثيوبيا عن الجلسة النهائية للمفاوضات، التي استضافتها واشنطن في 28 و29 فبراير، بدعوى أن فريق التفاوض لم يكمل مناقشاته مع الخبراء المحليين وأصحاب المصالح في إثيوبيا.

في الوقت الذي برهنت فيه مصر على حسن نواياها أمام المجتمع الدولي، بات التعنت الإثيوبي وسوء النوايا واضحا للجميع، وبالرغم من رجاحة الرأي الذي أرجع السبب في تصرفات إثيوبيا إلى قرب الانتخابات الداخلية الإثيوبية ومحاولة العبور بالأزمة دون التأثير على شعبية رئيس الوزراء الإثيوبي خاصة وأن النظم السياسية المتعاقبة في اثيوبيا صدرت المشروع بإعتباره مشروعا قوميا والمخلص لأزمة التنمية في اثيوبيا، إلا ان هناك عوامل أخرى يجب أخذها في الحسبان:

أولا: اعتماد اثيوبيا اسلوب التسويف والمماطلة في التفاوض والتنصل من أية التزامات، فكلما أوشكت المفاوضات أن تصل إلى اتفاق أخير عادت إلى المربع الأول، وكأنه لم تكن هناك اجتماعات مطولة بين أديس أبابا والقاهرة والخرطوم، مستنده بذلك إلى بنود اتفاق “إعلان المبادئ” والتي تنص على استكمال البناء بالتوازي مع استكمال المفاوضات، لذلك لم توقف اثيوبيا المفاوضات صراحة وانما طلبت مهلة حتى تكسب وقت لإنهاء البناء ثم بدء الملء، والقارئ للتاريخ يجد انها ذات الاستراتيجية التي اتبعتها التركيا مع سوريا والعراق عند بناء “سد أتاتورك العظيم”، ما أدى إلى خصم 25 مليار متر مكعب من المياه من حصتي سوريا والعراق، وانتهى بناء السد وعدة سدود خلفه وما زالت المفاوضات مستمرة باستراتيجية “مفاوضات لا تنتهي أبدا، وعمل في السدود لا يتوقف”.

ثانيا: هذه ليست المرة الأولى التي تضر فيها اثيوبيا ذاتها بحصة المياه لدولة جوار وتدخل في سجال قانوني معها نتيجة بناء سدود على أرضها، فالأمر ذاته أثير حول مجموعة سدود جلجل التي أرادت إثيوبيا بناءها على نهر «أومو» وتم بناء سدي جيبي الأول وجيبي الثاني الذي انتهت منه عام2010، أثرت تلك السدود بالسلب على بحيرة “توركانا” في كينيا التي يعيش عليها ما يقرب من 250 ألف مواطن كيني وبدأت كينيا بالشكوى إلى الجهات الدولية ومن ثم امتنع البنك الدولي وبنك الاستثمار الأوربي عن تمويل السد.

وكان موقف رئيس وزراء إثيوبيا الراحل ميليس زيناوي هو الثبات على موقفه متهما تلك الدول بعرقلة النمو وبعد مفاوضات حصلت إثيوبيا على قرض صيني وبدأت في استكمال خطتها ثم وافق البنك الدولي والبنك الأفريقي بالموافقة على هذا البناء، وتعلمت اثيوبيا من الدرس لذلك لجأت في تمويل سد النهضة إلى الشعب الإثيوبي ذاته، حتى تفقد مصر ورقة ضغط محتملة، وبذلك يمكن البرهنة على سوء نوايا إثيوبيا في التعامل مع قضية سد النهضة فالمسألة ليست فردية وانما متكررة، وهو ما يمكن لمصر الإستناد اليه بجانب أمور أخرى إذا ما قررت اللجوء إلى مجلس السلم والأمن الدولي.

ثانيًا: اللجوء إلى جامعة الدول العربية

كخطوة مهمة في كسب التأييد والدعم العربي لموقف مصر من سد النهضة، لجأت مصر إلى جامعة الدول العربية التي تبنت قرارا في ختام الدورة الـ 153 لمجلس الجامعة العربية في الرابع من مارس الجاري، رفض القرار أي مساس بالحقوق التاريخية لمصر.

وأكد ضرورة التزام إثيوبيا بمبادئ القانون الدولى واجبة التطبيق وعدم الإقدام على أى إجراءات أحادية تمضي فيها اثيوبيا من شأنها الإضرار بحقوق مصر ومصالحها المائية، كما رحب القرار باتفاق واشنطن الذي أعدته الحكومة الأمريكية بالتعاون مع البنك الدولي، ووقعت عليه مصر منفردة، وأشار القرار إليه بإعتبارة اتفاق عادل ومتوازن ويحقق مصالح البلدان الثلاث.

واقترح السودان تعديلات على القرار تفرغه من مضمونه بالرغم من حذف اسم السودان من القرار واقتصاره على مصر، بينما دفعت الأطراف العربية الأخرى بجدوى وأهمية هذا القرار. وفي النهاية نجحت مصر في اعتماد مشروع القرار دون تعديل، مع تسجيل للسودان تحفظه رسميا، في الوقت الذي أعلنت فيه اثيوبيا رفضها لقرار جامعة الدول العربية.

ثالثًا: زيارات متبادلة مع السودان

بعد موقف السودان الأخير من عدم توقيع اتفاق واشنطن والتحفظ على قرار جامعة الدول العربية، وهي طرف اساسي في المفاوضات مع مصر واثيوبيا، كان من الضروري فتح النقاش مرة ثانية على المستوى الثائي بين مصر والسودان لتوضيح الرؤية، ومن هنا كانت زيارة اللواء عباس كامل للخرطوم، وبعدها بحوالي اسبوع جاءت زيارة “حميدتي” للقاهرة :

  • زيارة الوزير عباس كامل للخرطوم تأكيدا على حسن النوايا:

بعد ساعات قليلة من محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها رئيس الوزراء السوداني “عبدالله حمدوك” توجه اللواء عباس كامل يوم الاثنين 9مارس، مصحوبا بوفد أمني رفيع المستوى، إلى العاصمة السودانية الخرطوم لنقل رسالة تضامن من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أكدت على وقوف مصر وتضامنها مع الحكومة الانتقالية والأشقاء في السودان في مواجهة الإرهاب ودعم استقرار السودان.

أثناء الزيارة ناقش المسؤولون العلاقات بين البلدين وسبل تطويرها بالاضافة إلى العديد من الموضوعات الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك وعلى رأسها ملف سد النهضة

زيارة “حميدتي” للقاهرة

 وفي الرابع عشر من مارس وصل النائب الأول لرئيس مجلس السيادة السوداني الفريق محمد حمدان دقلو “حميدتي” إلى القاهرة في زيارة استمرت ليومين، التقى خلالها بالرئيس عبد الفتاح السيسي واللواء عباس كامل وتناول الاجتماع مناقشة تطورات سد النهضة الإثيوبي ونتائج المفاوضات التي جرت في واشنطن، وسلط خلالها الرئيس السيسي الضوء على السياسات المصرية الداعمة دائما للسودان، مؤكدا على دعم القاهرة للمرحلة الانتقالية الحرجة التي يمر بها السودان حاليا.

وتضمنت هذه الزيارة نقطة محورية جديدة في طريق المفاوضات، حيث أعلن “حميدتي” عن تسليم ملف سد النهضة إلى رئيس الوزراء السوداني د. عبدالله حمدوك، وهي المرحلة التالية التي كان قد نص عليها اتفاق إعلان المبادئ حال تعثر المفاوضات، أن يتم رفع الملف على مستوى الرؤساء ورؤساء الوزراء.

رابعًا: اجتماع لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب

في إطار التحرك البرلماني الشعبي لحماية الأمن القومي المصري، في محاولة لإجراء ضغط شعبي على المستثمرين في إثيوبيا للضغط على حكومة اثيوبيا لتوقيع اتفاق واشنطن، أعلنت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب المصري، عن عقد اجتماعا طارئا يوم الثلاثاء الموافق 17 مارس، لتوجيه الحكومة بضرورة إيقاف التعامل مع الشركات العالمية التي تتعامل في بناء سد النهضة والتي لها مصالح في مصر ومنع أية تعاقدات مستقبلية مع هذه الشركات، ولكن تم إرجاء عقد هذا الاجتماع إلى ما بعد الانتهاء من الاجراءات الإحترازية التي تتخذها مصر لمكافحة إنتشار فيروس كورونا.

خامسًا: مبادرة وزارة الهجرة والجالية المصرية بالخارج

أطلق وفدا من المهنيين والأكاديميين المصريين في الولايات المتحدة، بدعم من وزارة الهجرة المصرية، حملة توقيعات الكترونية بين الجاليات المصرية في أمريكا والعالم، ضمت هذه الحملة أكثر من21 ألف توقيع للمصريين من أنحاء العالم، كما أعد الوفد تقييما شاملًا لتأثيرات سد النهضة الإثيوبي على مصر؛ استعدادًا لتسليمه للبيت الأبيض، لحث إدارة الرئيس دونالد ترامب على بذل المزيد من الجهد لدعم مفاوضات سد النهضة، وللمطالبة بحماية حقوق مصر المائية في ظل فشل المفاوضات، مُطالبين قادة أوروبا بتعليق الاستثمارات في إثيوبيا، ومؤكدين أن نهر النيل هو مسألة حياة ووجود لأكثر من 110 ملايين مواطن مصري.

كما قام أبناء الجالية المصرية في نيويورك ونيوجيرسي وواشنطن بوقفة إحتجاجية أمام البيت الأبيض لدعم الموقف المصري في مفاوضات سد النهضة.

سادسًا: القيام بجولة خارجية لدعم الموقف المصري

على جانب آخر نشطت الخارجية المصرية خلال الأيام القليلة الماضية في عمل جولة مكوكية في العديد من الدول العربية والافريقية والأوروبية لكسب دعم هذه الدول للموقف المصري من سد النهضة.

أولا: جولة أوروبية

تضمنت تلك الجولة كلا من بلجيكا، وفرنسا، الشريك الاستراتيجي الأكبر لإثيوبيا، بالاضافة إلى عقد عدة لقاءات مع عدد من القادة الجدد لمؤسسات الاتحاد الأوروبي، استعرض وزير الخارجي المصري “سامح شكري” خلال لقاءاته المختلفة رؤية مصر إزاء سائر الملفات الدولية والإقليمية، وعلى الأزمة الليبية، إضافة إلى الموضوعات المتعلقة بالإرهاب والهجرة غير الشرعية، وآخر مستجدات ملف سد النهضة.

ثانيا: جولة عربية

تبعت الجولة الأوروبية، جولة أخرى عربية لدول لديها استثمارات مع اثيوبيا، شملت كلًا من الأردن والسعودية (وهي ثالث أكبر مستثمر في اثيوبيا) والعراق والكويت وسلطنة عُمان والبحرين والإمارات، وأظهرت تلك الدول دعما لمصر في موقفها من أزمة سد النهضة وتأكدها على عدم المساس بحقوق مصر التاريخية.

ثالثا: جولة افريقية

توجّه وزير الخارجية سامح شكري، يوم الثلاثاء 17مارس الجاري، إلى العاصمة البوروندية بوجمبورا في مُستهل جولة أفريقية خارجية تشمل 7 دول افريقية فبالاضافة إلى بوروندي ينتقل وزير الخارجية إلى كل من جنوب أفريقيا وتنزانيا ورواندا  والكونجو الديمقراطية وجنوب السودان والنيجر، وذلك لتسليم رسالة من الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى قادة تلك الدول الأفريقية الشقيقة، تتضمن آخر تطورات أزمة سد النهضة وتوضيح للموقف المصري ومحاولة كسب دعم تلك الدول خاصة وأن أي تأزم قد يحدث سوف يؤثر بشكل مباشر على دول شرق افريقيا، فضلا عن ان جنوب افريقيا هي رئيس الاتحاد الافريقي لهذا العام والذي ألمحت اثيوبيا مؤخرا إلى رغبتها في دخول جنوب افريقيا كوسيط في المفاوضات.

وفي سياق متصل تلقى الرئيس عبدالفتاح السيسي اتصالا هاتفيا من الرئيس الكيني “أوهورو كينياتا” يوم الثلاثاء 17مارس، أكد خلاله الرئيس الكيني دعمه للموقف المصري في مفاوضات سد النهضة.

 جوله اثيوبية مضاده

وفي هذا الاطار، تجدر الإشارة إلى ان اثيوبيا قامت بتحركات دوليه مضاده، ففي جولة مماثلة سافر وفد رفيع المستوى بقيادة الرئيس السابق “مولاتو تيشومي”، إلى أوروبا للقيام بنفس المهمة، وسلم “تيشومي” رسالة من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، إلى الاتحاد الأوروبي، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وأكد أن إثيوبيا ملتزمة منذ البداية بتعزيز مبادئ الاستخدام العادل والمعقول وعدم التسبب في ضرر كبير، موضحًا أن إثيوبيا لم تتراجع عن المفاوضات الجارية بشأن هذه المسألة، بل طلبت من جميع الأطراف في المفاوضات مزيدًا من الوقت لإنهاء تشاورها الوطني بشأن وضع المفاوضات، وهو كما أوضحنا ليس سوى سبيل جديد للماطلة الإثيوبية التي لا تنتهي.

وجولة أخرى بقيادة الرئيسة الاثيوبية سهلورق زودي إلى دول حوض النيل وعلى رأسهم رواندا وكينا وأوغندا، والشركاء الدوليين  في محاولة لكسب دعم العديد من الدول ضد الموقف المصري.

وأخيرا، فإن كل التحركات والجهود التي تبذلها مصر لدعم موقفها في أزمة سد النهضة، تؤكد على حرص مصر الدائم على محاولة إيجاد حل سلمي يرضي كل الأطراف دون الإضرار بمصلحة أي طرف، فإذا كانت اثيوبيا تريد التنمية فهو حق تقره مصر ولا يتنافى مع الهدف المصري الأسمى في حفظ حياة أكثر من 100مليون مواطن مصري يعتمدون على مياه النيل، ولكن إذا استمرت المحاولات الاثيوبية للتسويف والمماطلة وتعطيل مسار التفاوض لكسب وقت للبدأ في مرحلة ملء السد باتباع سياسة فرض الأمر الواقع، فإن الأمر ستكون عواقبه وخيمة على الدولتين وعلى استقرار المنطقة وهو ما تحاول مصر ان تحول دون حدوثه.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

هايدي الشافعي

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى