
تركيا والميدان الليبي .. إلي أين؟
بعد توقيع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لمذكرتي تفاهم مع فائز السراج رئيس حكومة الوفاق الليبية، التى شملت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، وآليات للدعم العسكري المباشر، أواخر نوفمبر الماضي، كشفت الاتفاقية وبنودها عن رؤية تركيا لإدارة الصراع، وطبيعة وأنماط تلويحها واستخدامها للقوة الصلبة ولاسيما في منطقة شرق المتوسط التي تواجه فيها تركيا عزلة دولية، وغياب آية آفاق للتعاون البناء مع دول جوارها في ذلك الحوض، أمام صعود تكتل دولي يضم فرنسا وإيطاليا، نواته تحالف استراتيجي بين كل من مصر وقبرص واليونان.
وبهذا الترابط المعقد انعكست أجواء شرق المتوسط المشحونة، على الأزمة الليبية. وعبّرت عنها الاتفاقية التركية الموقعة مع حكومة الوفاق، التي جاء شقها العسكري والبحري بما يخالف اتفاق الصخيرات، وقانون البحار الأممي المنظم لاتفاقات ترسيم الحدود البحرية بين الدول. وقد أوضح المرصد المصري في أحدي ورقاته المنشور ” الردع الصامت .. حدود ومجال الموقف المصري في شرق المتوسط “. عن دوافع التحرك التركي الأخيرة تجاه ليبيا، وتأثيره علي خطط تعاون الثلاثي “مصر قبرص اليونان” في تداول الطاقة علي وجه الخصوص، والاستقرار في المنطقة ككل.
إلا أن إطلاق الجيش الوطني الليبي للمرحلة الثالثة من معركة تحرير العاصمة طرابلس، واتجاهه لتحقيق تقدمات ميدانية ملحوظة بالمحور الجنوب الغربي، بالتزامن مع توطيد الارتباط الاستراتيجي بين تركيا وحكومة الوفاق وميليشياتها العسكرية، قد دفع الأخيرة إلى تفعيل بند من بنود مذكرتي التفاهم الموقعة مع الجانب التركى، وتمثل فى طلب رسمي للحكومة التركية بالتدخل عسكرياً في الأراضي الليبية. لتواجه مصفوفة الأدوار الإقليمية تحدِ آخر، وليصبح الميدان الليبي أمام احتمالات قوية لاستنساخ الحالة السورية، كبؤرة صراع دولية وإقليمية، بشكل يهدد الأمن القومي المصري علي نحو غير مسبوق، وهو ما عبّرت عنه تصريحات القيادة المصرية في الآونة الأخيرة بأن ليبيا والسودان امتداد للأمن القومي المصري، وأن مصر لن تسمح بالمساس بأمنهما من أطراف أخري. أفرزت التطورات المتسارعة عن نشاط ملحوظ للقوي الدولية ولاسيما روسيا وفرنسا وإيطاليا، ودفع أيضاً تركيا للجوء لتكتيكات مغايرة وكاشفة لأنماط دورها وأبعاد مستقبل انخراطها علي نحو ستعالجه النقاط التالية.
أولاً: الاستدارة التركية الروسية .. تقاطعات المصالح ومسارات الصدام
شهد الأسبوع الماضي تصريحات متضاربة صدرت لمسؤولين أتراك ونظرائهم الروس. فكانت الموجة الأولى من التصريحات تحمل محني إيجابي بين البلدين، وصل أحياناً إلى إعلان مسؤولين اتراك عن بحث كل من تركيا وروسيا خطط الدعم العسكري لحكومة الوفاق، حتي جاء أول موقف روسي رسمي منذ توقيع الرئاسة التركية مذكرتي التفاهم مع الوفاق الليبية، لتضع الموقف الروسي بعيداً عن الخط المحايد للكريملين من الأزمة.
حيث نقلت وكالة نوفوستي الحكومية عن مصدر مخوّل له الحديث في الخارجية الروسية أن “إبرام الاتفاق التركي مع حكومة السراج واحتمال زج قوات تركية في ليبيا يبعثان على قلق بالغ لدى موسكو”. وزاد أن هذه التطورات “تثير كثيراً من الأسئلة”، موضحاً أنها (التطورات) تمس مصالح البلدين المحيطة بليبيا، والوضع معقد للغاية.
وشكّل الموقف الروسي منعطفاً مفاجئاً في توقيته، لأن موسكو وأنقرة أعلنتا في وقت سابق عن ترتيب زيارة لوفد تركي إلى موسكو لبحث الملف الليبي، وتجنبت موسكو لذلك إصدار تعليقات علنية سابقاً. كما أن الرئيس فلاديمير بوتين سئل عن هذا الموضوع في المؤتمر الصحافي السنوي الذي عقده أول من أمس، فأجاب بأنه ينوي بحث الموضوع مع نظيره التركي، من دون أن يشير إلى خلافات حول الملف. كما تجنّب بوتين الرد على سؤال أحد الصحافيين حول وجود قوات في ليبيا تابعة لما يعرف باسم “جيش فاغنر” وهي وحدات عسكرية غير نظامية نشطت سابقاً في سوريا وأوكرانيا وعدد من بلدان القارة الأفريقية.
وتبادل الطرفان تصريحات حادة، إذ أعربت وزارة الخارجية الروسية عن “قلق بالغ” بسبب نيّات أنقرة إرسال قوات إلى ليبيا، ورأت أن “التدخل العسكري الخارجي في الشأن الليبي من شأنه أن يزيد من تعقيد الموقف في هذا البلد”. وبدا أن الموقف الروسي الذي استبق محادثات قد تمت، بالأمس، مع أنقرة حول الملف الليبي، أثار حفيظة الرئاسة التركية، إذ أعلن الرئيس رجب طيب إردوغان أن بلاده “لا يمكن أن تقف مكتوفة أمام نشاط المرتزقة الروس” في ليبيا.
التباين في التصريحات وتبادل الأطراف لعبارات حادة لكل منهما، عبّر عن طبيعة العلاقات الروسية التركية المرهونة مؤخراً بمتغيرات حاكمة أبرزها:
- الوضع الميداني في الشمال السوري وموازين القوي فيه.
- صفقات السلاح النوعي.
- خريطة تدفق الطاقة من الأراضي الروسية لتركيا، والخريطة الناشئة في شرق المتوسط.
وسائل الإعلام التركية أفادت بأن الوفد التركي المرسل إلي موسكو برئاسة سيدات أونال، نائب وزير الخارجية التركي، ضم مسؤولي بالاستخبارات والجيش، وقد ناقش الوفد قضايا ترتبط المتغيرات الحاكمة المشار إليها سابقاً، منها هجوم الجيش السوري في إدلب، وشرق المتوسط، والأزمة الليبية في سياق الاتفاقية الأمنية الموقعة والتي وافق عليها البرلمان التركي قبل يومين،
وكان الرئيس التركي قد أعلن أن أنقرة ستتخذ خطواتها التالية شمالي سوريا بناء على نتائج زيارة الوفد.
وبالنظر للتعاطي الروسي مع تركيا، منذ الحرب الباردة يتضح أنه يقوم علي أدبيات المفكر الاستراتيجي الروسي ألسكندر دوغين، للأمن القومي الروسي، ومفادها “أن تركيا قطعة من الفضاء الأوراسي، يجب تهذيبها وفك ارتباطها بالغرب”. ما يمهد لتسويات فجائية علي نحو صفقة منظومة الدفاع الصاروخية إس 400. وما يحفز ذلك اتجاه أنقرة للمناورة عبر كل المحاور، إذ تضغط علي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتعميق العلاقات الاستراتيجية مع روسيا، وتضغط علي الأخيرة بتعزيز تموضعها ضمن الحلف، وتوسيع رقعة سيطرتها في الأراضي السورية عبر وكلائها أو التدخل العسكري المباشر والمحدود.
يمثل البحر الأبيض المتوسط، من أهم ركائز الاستراتيجية العسكرية الروسية ضمن خطط العودة التاريخية لروسيا كفاعل دولي لا يمكن تجاهله، بعد مرحلة الانكفاء علي الذات في العقدين التاليين علي انهيار الاتحاد السوفيتي. وقد عززت روسيا تواجدها في هذه البيئة ضمن جملة من الإجراءات البطيئة لتفادي مزيداً من العقوبات الاقتصادية الغربية، حتي وفرت الحرب السورية الظرف الاستراتيجي اللازم لانتشار البحرية الروسية والتواجد قبالة سواحل سوريا. واعتمدت روسيا في الانتشار استراتيجية رؤوس الجسور والتأمين الديناميكي لها، فنجد أن نقاط سفن الاساطيل الروسية الفاعلة بالبحر المتوسط، تبدأ من سواحل شبه جزيرة القرم لتصل لميناء طرطوس السوري البحري الذي بات مقراً للاسطول الروسي بعد إبرام عقد تأجير المرفأ لمدة 49 عاماً. بيد أن خطط روسيا للتواجد عبر قواتها البحرية في البحر المتوسط وتحقيق الكفاءة التشغيلية القصوي، لن تكتمل إلا بنقطة دعم بحرية أخري بجانب ميناء طرطوس. ليبيا كانت الوجهة المثلي لجهود انشاء القاعدة البحرية الروسية الثانية علي البحر المتوسط من الشواطئ العربية.
كما أن روسيا أحكمت سيطرتها علي الميدان السوري، كونها الفاعل الدولي الأكثر تأثيراً في مسار الحرب، ولاسيما في الشمال السوري بعد إعادة تمركزها في الحسكة والقامشلي إبان انحساب القوات الأمريكية، لذلك باتت الأوراق في يد تركيا ضعيفة، بشكل يفتقر لمغريات إبرام تسوية تتخلي فيها روسيا عن مصالحها ومصالح حلفائها في البحر المتوسط التي تصل مع دول كمصر إلي حد التطابق، مقابل شمال سوري يقع غالبيته الآن في جعبتها.
تكتيكات المرحلة الأخيرة
مع دخول معارك تحرير طرابلس المرحلة الثالثة، تكشفت أكثر أنماط الانخراط التركي في الأزمة. حيث كانت مناطق الساحل الليبي وتحديداً ” مصراتة – سرت – طرابلس “، واجهة لاستقبال خطوط الدعم والإمداد التركية لتغذية الصراع وتسليح الميلشيات المنضوية تحت لواء حكومة الوفاق، بأسلحة نوعية تمكنها من الاستمرار كفواعل وقطع علي رقعة الشطرنج الليبية، إلا أن كثافة هجوم الجيش الوطني الليبي دفع تركيا لتنفيذ تكتيكات مغايرة علي أرض الميدان، بالتوازي مع العمل علي مشاريع في البرلمان للتصديق علي إرسال قوات تركية وانشاء قواعد عسكرية بالأراضي الليبية، وكان أبرز هذه التكتيكات:
- تكثيف الدعم عبر البحر من خلال سفن الشحن والتجارية
فمنذ الحادي عشر من الشهر الجاري، وصلت أكثر من 14 سفينة شحن لموانئ الخمس وطرابلس، جميعها انطلقت من الموانئ التركية.
- جسر جوي باستخدام الطائرات المدنية والشحن
حيث رصد موقع flight radar المعني بمراقبة حركة الطيران المدني والعسكري، عن رحلات جوية مدنية انطلقت من المطارات التركية والجزائرية وكان هدفها مطاري مصراتة وطرابلس. حيث نفذت طائرة شحن مسجلة ضمن دولة مولدوفا، أربع رحلات منذ بداية الشهر بين إسطنبول وأزمير التركيتين، والعاصمة الجزائرية ومطاري مصراتة وطرابلس. وفي هذا الصدد رصد المرصد المصري بالتفصيل خطوط إمداد وتدفقات السلاح من تركيا إلي ليبيا في ورقة “تركيا وشرق أوروبا”.
- التطويق من الجنوب
لجأت تركيا لفتح جبهة جديدة بعيداً عن خط المواجهة بطول الساحل الليبي، هذه المرة كانت في قبائل الطوارق، التي تحكم سيطرتها علي مناطق الحوض الجنوبي الليبي. فمنذ إبريل الماضي لم تتوقف مساعي أنقرة لتوطيد علاقاتها بالطوارق، وتقديم كافة أشكال الدعم. الرجل المسؤول عن ملف الطوارق في الحكومة التركية هو أمرالله ايشلر مبعوث الرئيس التركي لليبيا وواحد من الرجالات المقربين من الدوائر الاستخباراتية التركية. إيشلر استضاف عشرة شيوخ من قبائل الطوارق في إسطنبول، وبحسب مؤسسة نورديك مونيتور المعنية بدراسة التنظيمات الإرهابية والقضايا الأمنية، فإن تركيا تستخدم مع الطوارق نفس المؤسسات الخيرية ذات الغطاء الاستخباراتي التي قدمت الدعم لتنظيمات مرتبطة بتنظيم القاعدة في الميدان السوري.
ما يعطي مؤشرات حول إمكانية ابتزاز دول مثل مالي والنيجر وتشاد، والقوي الدولية الفاعلة في تلك المناطق ولاسيما فرنسا، التي ساءت علاقاتها مع تركيا علي وقع الاجتياح التركي الأخير بالشمال السوري ودعم فرنسا لقضية الأكراد. إذ تعد دول الساحل والصحراء والحدود المشتركة بينها مسرح لتنقلات قبائل الطوارق ومسارات تهريب الأسلحة والمخدرات. وهو ما يفسر الزيارات المكثفة لمسؤولي محور أنقرة – الدوحة، لهذه الدول في الربع الأخير من العام الحالي.
خاتمة
تتعامل تركيا في منطقة شمال افريقيا، ضمن سياقات الخلفية التاريخية للحقبة العثمانية، وكما تخلت الدولة العثمانية قديماً عن ليبيا لصالح إيطاليا، فإن نفس المساومة يطمح الأتراك بتكرارها مع الجانب الروسي، الذي بدوره حقق التفوق الميداني في سوريا، وضيق هامش المناورة للنظام التركي في رقعة جغرافية تمتد ل400 كم وبعمق 30 كم، ضمن نقاط تماس مع الجيش السوري والوحدات الروسية. ما يجعل لروسيا زمام المبادرة لخلق المساومات، والتسويات، لا للوقوع أسيرة اختيارات النظام التركي.
إذ تطمح تركيا من تواجدها في ليبيا إيجاد تموضع إقليمي أكبر لها، فهي بتواجدها في ليبيا وابرامها اتفاقية غير قانونية مع حكومة الوفاق، تسعي لفرض الأمر الواقع لإجبار الثلاثي، مصر- قبرص – اليونان، للدخول في مفاوضات لتقاسم ثروات المتوسط طبقا لرؤية النظام التركي، ومحاولة خفض الارتباط الاستراتيجي بين مصر مع قبرص واليونان، مقابل خفض احتمالات الصدامات والمواجهات العسكرية معهما. ومن جهة أخري تثبت أقدامها في مناطق الشمال السوري، لتساوم الروس بإدلب ومناطق الأكراد مقابل شرق المتوسط.
بيد أن وجهات النظر المصرية والروسية تجاه قضايا الطاقة والإرهاب قد حققت تقارباً يصل إلى مرحلة التطابق أحياناً. فتحول مصر لمركز إقليمي لتداول الطاقة لم يأتِ علي حساب المصالح الروسية، حيث تستثمر روسيا أكثر ملياري دولار في حقل ظهر المصري، كما تنفذ مشروع مناورات هو الأكبر خارج حدودها، والمعروف بـ “حماة الصداقة” مع الجانب المصري، والذي شهد ميلاد جديد للقوة المصرية المحمولة جواً، وكذا تدريب القوات الروسية علي التعامل مع ميادين شمال إفريقيا والمدن الساحلية فيها لمعالجة تهديدات الإرهاب العابر للحدود.