شرق المتوسط

التنافس “السعودي التركي” يلقي بظلاله على “شرق المتوسط”

تسود منطقة الشرق الأوسط حالة من سياقات التنافس الإقليمي الحاد، لإعادة هيكلة النظام الأمني الإقليمي في مرحلة ما بعد “الربيع العربي”، بين محاور إقليمية، وكذلك بين دول بعينها، ليتنوع سياق التنافس والصراع من “التعددية القطبية” لـ “الثنائية” في مناطق ومسارح مواجهة كثيرة.

من بين تلك السياقات التنافسية ” الثنائية “، تأتي ديناميكيات الصراع السعودي – الإيراني ببعده المذهبي، والتنافس السعودي التركي داخل بوتقة “الإسلام السني”، لتثبيت موقعهما وطموحاتهما داخل العالم الإسلامي السُنّي.

يتميز سياق الصراع والتنافس بين المملكة العربية السعودية والجمهورية التركية؛ بحالة من الخصوصية نتيجة الخلفية التاريخية السلبية الحاكمة لعلاقاتهما طوال أربعة قرون. 

يعود تأسيس المملكة العربية السعودية التي يعرفها العالم اليوم، إلى العام 1932 على يد الملك عبد العزيز آل سعود. كما أنّ هذه المملكة هي الدولة الثالثة لآل سعود؛ الأولى (1747-1818) والثانية (1818-1891)، وكلا الدولتان تم إسقاطهما عسكرياً على يد الأتراك العثمانيين، الأولى بشكل مباشر، والثانية بشكل غير مباشر عبر دعم الأتراك لآل الرشيد منافسي آل سعود.

من هذه الخلفية، بُنيت العلاقات السعودية التركية، وغُلِفت بالحذر والعداء الدفين، رغم ضخامة الاستثمارات والعلاقات التجارية بين البلدين. حيث تبلغ الاستثمارات السعودية بتركيا قرابة الست مليارات دولار، ويصل عدد الشركات السعودية هناك نحو الألف شركة. إلا أن الصراع الخافت بين المملكة والجمهورية أخذ يتشكل بدينامية تتحكم بها عدة متغيرات تتراوح ما بين الخلفية التاريخية وكل بؤرة صراع تنشط بها الجمهورية التركية تقريباً، إلا أن وصل الصراع لأحد أهم بؤر التنافس الإقليمي الحاد خارج اليابسة، منطقة شرق المتوسط، فكيف حدث ذلك؟

تسلل زمني قبل الوصول لشرق المتوسط

إنّ التأريخ لطبيعة التنافس والصراع السعودي- التركي، لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار أنّ علاقات الجانبين قد مرت بحقبة مستقرة نسبياً، من العام 2006 حتى العام 2011، وبدأت مع زيارة الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، لتركيا بعد انقطاع استمر 40 عاماً متتالية، وكرر تلك الزيارة عام 2007، ومن الجانب التركي قام أردوغان خلال الفترة بين 2006-2011 بأربع زيارات للسعودية.

تلك الحقبة المستقرة، لم تكن سوى خروج مؤقت عن “الحالة الطبيعية” للعلاقات بين الدولتين؛ علاقات قائمة على تنافس مستمر في الإطار الإقليمي، تنافس مشحون بعداوات الماضي.

ومع انطلاق ما يُسمي بالربيع العربي، انتهي إطار “التفاهم” و حقبة “الاستقرار“، وبدأ التباعد يزداد يوماً عن الآخر؛ وذلك نتيجة:

  1. دعم تركيا للإخوان المسلمين في مصر وسوريا واليمن وليبيا وتونس والخليج.
  2. استمالة كل من إيران وقطر، وعدم الالتزام بالعقوبات الأمريكية في قطاع الطاقة علي الأولي، وتخفيف الحصار المفروض من الرباعي العربي علي الثانية ودعمها عسكريا وسياسياً.

حتي وصلت العلاقات بين البلدين لنقطة تحول كبري تنبئ بصعوبة العودة للإطار “التفاهمي” بينهما (2006- 2011)، عقب واقعة اغتيال جمال خاشقجي في إسطنبول في أكتوبر 2018.

تجدر الإشارة إن العلاقات كانت آخذه في التوتر قبل ذلك التاريخ وتحديداً في مارس من العام 2018 حين وصف الأمير محمد بن سلمان تركيا بأنها “ضلع في مثلث الشر”، وتزامن ذلك مع منع القنوات السعودية وعلي رأسها شبكة MBC عرض المسلسلات التركية لأسباب وُصِفَت بالسياسية.

مثل مقتل جمال خاشجقي بالقنصلية السعودية في إسطنبول نقطة اللا عودة في الصبغة التفاهمية للعلاقات السعودية التركية، إذ حصلت تركيا علي تسجيلات إدانة لعملية القتل، وبدأت موجة ابتزاز معهودة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بغية تحقيق:

  1. خفض الارتباط الاستراتيجي بين الرياض والقاهرة.
  2. مهادنة تنظيم الاخوان المسلمين، وإجراء مصالحة مع دولة قطر بعيداً عن شروط ومطالب الرباعي العربي.

كما اتهم الرئيس التركي ولي العهد السعودي بالكذب فيما يخص قضية مقتل خاشقجي.

وتصاعد الخلاف والاتهامات المتبادلة، إلي أن سعت تركيا بشكل مكثف لمحاولة سحب البساط من المملكة، في نفوذها علي المحيط الإسلامي، وكان مسرح المحاولة في أقاصي جنوب شرق آسيا، حيث دولتي ماليزيا وإندونيسيا، صاحبتا معدلات النمو المرتفعة، والموجودتان علي قائمة أهداف التنظيم العالمي للإخوان المسلمين للبحث عن موطئ قدم وبيئة حاضنة لكوادر تنظيم الإخوان في مصر بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013. 

فكانت قمة كوالامبور في ديسمبر من العام 2019، وهي قمة إسلامية مصغرة دعا إليها رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، ست دول هم (السعودية – قطر – إيران – تركيا – اندونيسيا – باكستان). وتغيب عن القمة السعودية وباكستان واندونيسيا.

وكانت السعودية قد قالت في رسالتها، إن سبب قرارها عدم الحضور، هو أن القمة ليست الساحة المناسبة لطرح القضايا التي تهم مسلمي العالم، البالغ عددهم 1.75 مليار نسمة، في حين نقلت رويترز عن مصدر سعودي قوله، إن المملكة تلقت دعوة للحضور لكنها لن تحضر إلا إذا عقدت القمة تحت رعاية منظمة التعاون الإسلامي.

وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في تصريحات له في ختام القمة، إن باكستان تعرضت لضغوط سعودية من أجل ثنيها عن المشاركة، مشيرا إلى أن السعوديين هددوا بسحب الودائع السعودية، من البنك المركزي الباكستاني، كما هددوا بترحيل”4 ملايين باكستاني يعملون في السعودية”، واستبدالهم بالعمالة البنغالية، وكان رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، الذي كان من الداعين أساسا لعقد القمة، قد اتخذ قرارا في اللحظة الأخيرة بعدم الحضور.

وقتها، نفت سفارة السعودية في العاصمة الباكستانية، إسلام آباد، صحة الأنباء التي تحدثت عن ضغوط مزعومة مارستها المملكة على باكستان لثنيها عن المشاركة في القمة المصغرة التي عقدت في ماليزيا.

وقالت السفارة السعودية، في بيان لها، نشرته عبر حسابها الرسمي على “تويتر” إن “هذه الأنباء المغلوطة تنفيها طبيعة العلاقات الأخوية الصلبة بين البلدين الشقيقين، وتوافقهما حول أهمية وحدة الصف الإسلامي والحفاظ على دور منظمة التعاون الإسلامي، والاحترام المتبادل لسيادتهما واستقلال قرارهما، والذي يعتبر سمة رئيسة في العلاقات التاريخية الراسخة التي تجمع بينهما”.

عبرت المساعي التركية عن محاولة إيجاد بديل لمنظمة التعاون الإسلامي، ولاسيما بعد فشلها في اختراق الأطر القانونية للمنظمة وتطويعها لصالح المشروع التركي.

ومع إعلان الرباعي العربي مقاطعته الشاملة لدولة قطر وإلزامها بمطالب تمحورت حول تخفيض علاقاتها بكل من تركيا وإيران، ظهر العداء السعودي التركي بصورة جلية في الميدان السوري وخاصة بعد تصفية النفوذ السعودي للمعارضة العسكرية السورية، وتمكن تركيا منه في الشمال، وظهرت أيضاً صور الصراع في بقعة جديدة هذه المرة، وهي شرق المتوسط، وفي الملف الذي لطالما أرّق صانع القرار في إسطنبول .. قبرص.

السعودية إلي قبرص .. ومصر الرابح 

جهود الرباعي العربي من بعد إعلان مقاطعة دولة قطر، أظهرت جانباً عالياً من التنسيق في مختلف بؤر الصراع في المنطقة ولاسيما في ليبيا. إلا أن الخطر الأكبر يظل في محاولة اختراق تلك المصفوفة من قبل المكون غير العربي الذي ينتهج سياسة هجومية إيجابية نشطة في المنطقة (تركيا – إيران – إسرائيل)، هذا التهديد يقترب في نسقه مما تتعرض له قبرص.

بالنظر لمصفوفة التحالفات في شرق المتوسط، نجد أن (مصر – اليونان – قبرص) قدموا نموذج للتعاون والتنسيق الدولي في قضايا الأمن والدفاع والطاقة والهجرة غير الشرعية، وطوق إلي حد كبير الطموحات التركية في شرق المتوسط، وجعلها تنحصر في أنشطة غير قانونية وعدائية تجاه غالبية دول الحوض، في محاولة منها للتموضع الأحادي بالإقليم.

تحاول تركيا إضعاف ذلك الحلف من خلال تحييد قبرص، وطرح حل قضية الشطر الشمالي منها في مقابل خفض احتمالات المواجهة العسكرية و مرور الغاز القبرصي لأوروبا عبر الأراضي التركية.

لكن التوجه الأمريكي الأخير في شرق المتوسط، وإعلان الكونغرس في جلساته وتوصياته للحكومة بأن تلك المنطقة ترتبط بصورة مباشرة بالأمن القومي الأمريكي، دعمت الإدارة الأمريكية الخطط الرامية لجعل دول الحوض مصدر للطاقة لأوروبا بديلاً عن الغاز الروسي، وتجاهل مروره عن طريق تركيا التي تحولت لعقدة مرور الغاز الروسي لأوروبا. ما عاظم من تحديات العزلة التركية، وعزز مواقف قبرص، ولاسيما بعد رفع الولايات المتحدة لحظر السلاح المفروض عليها، واتجاهها لانشاء قواعد للطيران المسير الغير مأهول في اليونان.

لتتوجه السعودية في ضوء تلك التحركات ولأول مرة للدخول في معترك شرق المتوسط، وتدعيم العلاقات الدبلوماسية مع قبرص.

ففي مطلع سبتمبر من 2019، عززت السعودية علاقتها الدبلوماسية مع قبرص بإرسال أول سفير سعودي مقيم إلى نيقوسيا.

وتلى تعيين السفير السعودي زيارة قام بها وزير الخارجية السعودي السابق، “إبراهيم العساف”، إلى نيقوسيا التقى خلالها الرئيس القبرصي نيكوس أناستاساديس ووزير الخارجية نيكوس خريستودوليديس وعدد من المسؤولين في البلاد.

كما أطلقت الرياض حسابا رسميا لسفارة المملكة لدى جمهورية قبرص على تويتر.

وقال وزير الخارجية السعودي خلال مؤتمر صحفي مع نظيره القبرصي إن “الرياض تؤيد لقرار مجلس الأمن الدولي المتعلق بالنزاع القبرصي”، مُبديا “أمل المملكة في أن يستطيع الطرفان حل الخلاف القائم بينهما بطريقة سلمية”.

وقالت وكالة الأنباء القبرصية، إن زيارة العساف حملت دلالات كبيرة فيما يتعلق بالتعاون بين البلدين.وتعهد العساف بأن تواصل المملكة دعم قبرص، مشيرا إلى ضرورة الاستفادة من العناصر المشتركة المتعددة بين الدولتين والفرص الاقتصادية التي توفرها لهما.

ورغم أن الزيارة السعودية التي قوبلت بحفاوة كبيرة من قبل المسؤولين القبارصة، تندرج ضمن علاقاتها الدبلوماسية المشروعة لتعزيز التعاون الإقليمي نظرا لثقل المملكة في المنطقة، عبرت الأوساط التركية القريبة من رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا عن امتعاضها من هذا التقارب الذي يهدد أطماع أنقرة في المنطقة.

وتأتي زيارة العساف إلى قبرص والتي وصفتها وكالة الأناضول التركية الرسمية بـ”الأولى من نوعها لوزير خارجية سعودي منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين”، بعد فترة توتر شديدة مرت بها العلاقات السعودية التركية بسبب استثمار أنقرة السياسي السلبي جداً في عملية قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول العام الماضي.

تزامنت وقتها زيارة العساف مع التصعيد التركي في قبرص بعد إصرار أنقرة على التنقيب على الاحتياطات الهائلة من الغاز الطبيعي قبالة سواحل الجزيرة في شرق المتوسط 

التي تعد جزءا من المنطقة الاقتصادية الخاصة بقبرص، ما أثار انتقادات شديدة من قبل اليونان والاتحاد الأوروبي ومصر.

الجولة الثانية .. يناير 2020

قام وزير خارجية قبرص نيكوس كريستودوليديس، بزيارة السعودية في 19 يناير 2020، واستقبله الملك سلمان، حضر اللقاء الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله وزير الخارجية، وتميم بن عبد العزيز السالم مساعد السكرتير الخاص لخادم الحرمين الشريفين، وخالد الشريف سفير السعودية لدى قبرص، والسفير القبرصي لدى السعودية ستافروس أفجوستيديس، وعدد من المسؤولين.

وكان وزير الخارجية السعودي، التقى لاحقاً بنظيره القبرصي، بحضور الوزير أحمد قطان وزير الدولة لشؤون الدول الأفريقية، وشهد اللقاء استعراض العلاقات بين البلدين، والمستجدات على الصعد كافة. من جانبه، أشاد الأمير فيصل بن فرحان، بعمق العلاقات بين البلدين الصديقين، والحرص على تطويرها بما يخدم المصالح المشتركة في الكثير من المجالات.
وأضاف في تصريح لوكالة الأنباء السعودية، أن بلاده تتابع باهتمام بالغ المستجدات الراهنة في منطقة شرق المتوسط، وتبدي حرصها على الأمن والاستقرار هناك، وتؤكد على دعمها الكامل لسيادة قبرص على أراضيها.

لتتوافق السياسة السعودية في ملف شرق المتوسط، مع مخرجات قمم الثلاثي (مصر – اليونان – قبرص)، ولتعبّر عن أبعاد الصراع الدائر بين شقين للجناح السني بالمنطقة، ومن جهة أخري، بين مشروع توسعي تركي بصبغة أممية، يصطدم مع مفهوم الدولة الوطنية الذي تتبناه دول الرباعي، وهو ما عبر عنه مستشار رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا.

حيث وصف ياسين أقطاي، مستشار رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، الزيارة التي قام بها وزير الخارجية السعودي السابق، إبراهيم العساف إلى قبرص في سبتمبر 2019 بأنها “تحد لتركيا” على حد تعبيره. ما يعطي للدور المصري في شرق المتوسط، ثقلاً إضافياً، ولاسيما بعد تبنيها دعم كامل السيادة القبرصية علي الجزيرة، والبدء فعلياً في مشاريع الربط الطاقوي بين نيقوسا والقاهرة.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى