شرق المتوسط

“بوليتيكو الأمريكية”.. كيف ترى واشنطن التواجد الروسي في الشرق الأوسط

تنامي الدور الروسي في الشرق الأوسط تزامن مع تراجع الغرب والولايات المتحدة، وجعل منها قوى تفاوضية كبرى عقب ابتكار أشكال للتدخل العسكري في كل من سوريا وليبيا، مما جعل منها لاعب لا يستهان به في المنطقة، وهو ما تناولته مجلة “بوليتيكو” الأمريكية في نسختها الأوروبية، حول الدور الروسي في الشرق الأوسط في تقرير بعنوان “لعبة بوتين في الشرق الأوسط”، والتي وصفتها باستغلال الزعيم الروسي الفرص لاستعادة نفوذ موسكو كلاعب دولي رئيسي في المنطقة، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي والذي أعقبه غياب كامل عن المنطقة استمر لربع قرن، وهو الوضع الذي تغير حالياً وأصبحت لاعب بارز مع ترك بصمة عسكرية هائلة وعلاقات جيدة مع جميع الخصوم الرئيسيين المعارضين، من إسرائيل إلى المملكة العربية السعودية.

وترى الصحيفة أنه لا يوجد أيديولوجية واضحة أو أهداف سياسية شاملة لبوتين في المنطقة، غير أن روسيا تجني الأموال من عقود الأسلحة والبنية التحتية حتى قبل أن تلعب دور الوسيط في العديد من قضايا الشرق الأوسط، فكانت روسيا لسنوات أكبر مورد للأسلحة إلى الشرق الأوسط حيث دعمت الدول العربية في صراعاتها مع إسرائيل، إلا أن “الغزو الكارثي” لأفغانستان سارع في تفككها، كما وصفت موقف بوتين في الشرق الأوسط بأنه “انتهازية سياسية” لاغتنام فرصة انسحاب الغرب من الشرق الأوسط، واستعادة نفوذها كقوة كبرى، وإضافة وزن لمطالبها في جميع أنحاء العالم. فبالنسبة لبوتين، تتشابك المصالح السياسية والاقتصادية بشكل وثيق في الشرق الأوسط.

كيف عادت روسيا كقوى عظمى في الشرق الأوسط؟

وفقاً لنظرة الصحيفة فإن حدثان قد ساهما في وضع بوتين على طريق العودة إلى الشرق الأوسط وصاغ رؤية عالمية لا تزال تؤطر عملية صنع القرار هناك اليوم، فكان أولهما في عام 2011، حيث اتخذت روسيا موقفاً على نقيض الموقف الغربي من ما تم تسميته بالربيع العربي في الشرق الأوسط والتي استقبله بحفاوة باعتباره منبع الديمقراطية، بينما اعتبره بوتين بمثابة دعوة للفوضى وزعزعة الاستقرار، وأكدت وجهة نظره وصول جماعة الإخوان المسلمين المصنفة إرهابية إلى السلطة في مصر وليبيا وجرفت الدولتان إلى النزاعات الداخلية، ورأى بوتين في سقوط القذافي غدر جديد من واشنطن وحلفائها الأوروبيين وحماقة محاولة استرضائهم بعد أن اقترح انضمام روسيا إلى حلف شمال الأطلسي أو حتى منطقة اليورو، والتي أعقبها احتجاجات في موسكو واتهمها بوتين آنذاك وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بالتحريض على مظاهرات موسكو وناقش أن مثل هذه الانتفاضات تثير القومية والتطرف الإسلامي، كبروفة من اجل وصول نظم موالية للغرب في السلطة كما حدث في جورجيا وأوكرانيا. 

وتمثل الحدث الثاني في تصويت الأمم المتحدة لإنشاء منطقة حظر طيران في ليبيا، والتصويت على قصف ليبيا الجوي والذي أسفرت عن وفاة القذافي آنذاك، والذي وصفته الصحيفة بأنه كان صديقًا لبوتين منذ أن رتب خيمته البدوية في حدائق الكرملين خلال زيارة قام بها عام 2008، حيث امتنع الرئيس الروسي آنذاك ديمتري ميدفيديف عن التصويت دون استشارة بوتين، الذي كان يشغل منصب رئيس للوزراء، وبدوره انتقد بوتين القرار وصار أكثر غضبًا عندما قُتل القذافي، قائلاً: “كان من المستحيل رؤية هذه المشاهد دون الإصابة بالاشمئزاز”. وادعى فيما بعد أن واشنطن قد نظمت عملية القتل.

سوريا رسمت الطريق لعودة روسيا كقوة عظمى ومنافس للولايات المتحدة في المنطقة

بدء التواجد الروسي في سوريا منذ زيارة فلاديمير بوتين إلى دمشق في 7 يناير 2015، وهي اللحظة التي بدأت قواته الجوية في قصف أهداف المتمردين والتي يتم قصفهم الآن في آخر معقل لهم في إدلب، في محاولة لتغيير مسار النزاع في سوريا؛ بينما تراجعت الولايات المتحدة وحلفاؤها من الأكراد إلى أقصى شرق سوريا، تاركًة للقوات الروسية السيطرة على قواعدها الشاغرة. 

وعلى الرغم من معارضة بوتين تشجيع الغرب للانتفاضات الشعبية في المنطقة، إلا أنه لم يتخذ أي إجراء إلا عقب تصاعد الحرب الأهلية في سوريا وإستيلاء تنظيم “داعش” على مساحات شاسعة من الأراضي السورية، جعلت من بوتين الذي راقب بقلق متزايد الوضع في سوريا، لم يتخذ أي إجراء حتى عام 2015 عندما عرضت سوريا مخرجًا من مأزق سياسي في أوروبا.

عقب ضم موسكو لشبه جزيرة القرم في عام 2014، فرضت إدارة أوباما عقوبات على روسيا، ثم طلب الأسد من موسكو الحليف القديم لدمشق المساعدة في محاربة الإرهاب، وعليه بدأت روسيا بإرسال معدات عسكرية وطائرات حربية إلى مطار حميميم، وأرسلت سفن بحرية إلى البحر المتوسط ​​بموجب خطة قيل إنها خطة “قاسم سليماني” رئيس فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني الذي اغتالته الولايات المتحدة في وقت سابق من هذا الشهر.

وفي سبتمبر 2015، شنت روسيا غارات جوية أعلن بوتين أنها تهدف إلى دعم دمشق “في قتالها المشروع مع الجماعات الإرهابية”، لكنها استهدفت أيضًا المتمردين الذين تدعمهم الولايات المتحدة، مع تحليق طائراتها حتى 100 طلعة جوية في اليوم، استطاع الرئيس السوري بشار الأسد من خلالها استعادة معظم أنحاء البلاد. 

وكان هدف روسيا الأول هو الحفاظ على قاعدتها البحرية الأجنبية الوحيدة وهي قاعدة “طرطوس”، ولكن انتصار بوتين الحقيقي كان على الساحة الدبلوماسية، فأصبحت روسيا من دولة منبوذة إلى عضو هام في الأمم المتحدة يقرر الأحداث العالمية، فبينما رفض زعماء الجلوس مع بوتين في قمة مجموعة العشرين في عام 2014، جلست وزيرة الخارجية الأمريكية على طاولة المفاوضات مع وزير الخارجية الروسي في جنيف، واتفقوا على وقف إطلاق النار في سوريا وشن غارات مشتركة ضد داعش بحلول عام 2016. 

وأحدث الدور الروسي في سوريا انقلاباً في النظام العالمي جعل الجميع يتحدث على روسيا باعتبارها منافس للولايات المتحدة كقوى عظمى من جديد.

الفراغ الذي أحدثه انسحاب الولايات المتحدة مكسب دبلوماسي لروسيا في ليبيا

والحليف الروسي في تركيا انتقل معه إلى ليبيا، عندما سافر بوتين إلى تركيا، وأعلن مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن اتفاق وقف لإطلاق النار بين قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر وحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج في ليبيا، والتي أعقبها اجتماع موسكو لإجراء مفاوضات من أجل تعزيز الهدنة، وهو الأمر الذي رفضه حفتر عندما غادر موسكو دون توقيع الإتفاق والذي يقال إن هناك “قوات فاجنر” الروسية تحارب بجانبه في معركة طرابلس.

وأعقبها زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى موسكو قبل أيام قليلة لتفوز بدعم بوتين في مؤتمر حول الأزمة الليبية في برلين يوم الأحد، حيث أظهرت المفاوضات أن الكرملين سيلعب دورًا رئيسيًا في أي محاولات للتوسط في النزاع. 

ويرى المحللون أنه تكمن مهمه التدخل الروسي في ليبيا الرئيسية، والذي كسب القوى التفاوضية من وجود شركة فاجنر الروسية في ليبيا، أن تكون صانع السلام بين حفتر وسراج، والذي تم إفراغ الساحة أمام بوتين لحسن حظه، نتيجة عدم مشاركة الولايات المتحدة بنشاط”.

اعترف وزير الخارجية الروسي خلال حديثه مع الصحفيين، بأن حفتر “طلب وقتًا إضافيًا” قبل التوقيع على اتفاق الهدنة الذي تم التفاوض عليه على مدى ثماني ساعات في موسكو، لكنه ادعى أن وقف إطلاق النار الذي أعلنه بوتين وإردوغان كان ثابتًا، وقال إن روسيا شاركت في صياغة اتفاق لمؤتمر برلين وستضغط من أجل توقيعه.

ابتكار وسائل حرب جديدة للتنصل من الدخول العسكري في الشرق الأوسط

قالت الصحيفة أن التدخل الروسي في سوريا قد بدء بعنف، واتسم بالضبابية في باقي المنطقة، لكن فلاديمير بوتين قد حاول أن يزيل آثار التورط الروسي في سوريا، من خلال إبتكار حجج جديدة في إدارة حربها، فصرح مقاتلون سابقون في شركة “فاجنر” العسكرية الخاصة المرتبطة بـ “يفجيني بريجوزين” والمعروف بـ “صديق بوتين”، والمتوقع معاقبته قريباً على خلفية قضية التدخل في الانتخابات الأمريكية، نشرت مئات المقاتلين في سوريا، بينما نفى الكرملين وجودهم، حتى بعد تفجير العشرات منهم في غارات جوية عندما اقتربوا من موقع أمريكي كردي في دير الزور في عام 2018.

ووصفت الصحيفة أنها أيضاً الطريقة التي تدخلت بها روسيا في ليبيا، حيث حضر بريجوزين اجتماعًا عام 2018 في موسكو بين حفتر ووزير الدفاع الروسي، وبحلول عام 2019، أعلنت المخابرات البريطانية عن وجود 300 مقاتل من مرتزقة شركة الأمن “فاجنر” بجانب خليفة حفتر، وهي الشركة التي اتهمتها الحكومات الغربية بأنها ترسل أسلحة ودبابات وطائرات بدون طيار إلى ليبيا منذ أكثر من عام.

وفي الوقت الذي تخلى فيه بوتين عن أي صلة بالمواطنين الروس الذين يقاتلون في ليبيا، لكنه استخدام القوة التفاوضية التي نقلوها إليه، ومن هنا جاءت مفاوضات السلام مع أردوغان، الذي أرسل مستشارين عسكريين إلى طرابلس في أوائل يناير لدعم حكومة فايز السراج، ونظراً لأن ليبيا هي معبر الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، فإن قادة الغرب مثل ميركل يتوقون إلى توظيف نفوذ روسيا لحل النزاع، وهو ما أظهرته زيارتها إلى موسكو.

المكاسب السياسية والاقتصادية لروسيا في المنطقة

إن فكرة بوتين حول إنهاء روسيا للفوضى التي أطلقها التدخل الغربي في عام 2011، أتبعها أيضاً رغبة خفية وتجارة جديدة لروسيا متمثلة في تعويض فقدان مشروع سكة ​​حديد وعقود أخرى مربحة سقطت بسقوط القذافي.

كما يقال إن المرتزقة الروس يحرسون بالفعل العديد من حقول النفط الليبية، وبمجرد تدفق النفط مرة أخرى، ستصبح طرابلس المشتري الرئيسي للأسلحة الروسية كما كان الحال في عهد القذافي.

كما تكمن المكاسب المبكرة للعملية السورية في الاتفاقات التي بدأتها روسيا والمملكة العربية السعودية في عام 2016 لخفض إنتاج النفط وزيادة الأسعار، حيث أصبحت المفاوضات ممكنة بفضل نفوذ موسكو الجديد في المنطقة، وذلك وفقًا لـ “فيودور لوكيانوف”، كبير المحللين ورئيس مجلس روسيا للسياسة الخارجية والدفاع.

ومع خفض الولايات المتحدة قواتها في العراق، فإن النجاحات الاقتصادية التي حققتها روسيا في وضع يمكنها من كسب النفوذ السياسي في بلد آخر في الشرق الأوسط، حيث استثمرت موسكو 10 مليارات دولار في قطاع الطاقة العراقي في العقد الماضي، وتقوم بتطوير العديد من حقول النفط والغاز الواعدة، كما وقعت على صفقة أسلحة بقيمة 4.2 مليار دولار مع العراق في عام 2012، وتقوم بتسليم الدبابات وطائرات الهليكوبتر الهجومية والصواريخ إلى البلاد، وبعد مقتل سليماني، قال سفير العراق لدى إيران إن بغداد تناقش مرة أخرى شراء صواريخ أرض جو روسية متطورة.

لكن الفائدة الأكبر لبوتين من كل هذه المشاريع ليست المال أو القواعد العسكرية أو النفوذ في الشرق الأوسط؛ إنما القدرة على جعل مطالب روسيا أكثر حزماً في المناطق القريبة منها، وما يريده بوتين بالفعل في الشرق الأوسط هو تحقيق وضع أفضل في أوروبا وآسيا، فيرى لوكيانوف إنه “كلما كانت روسيا أقوى في العالم، كان من الأسهل لها تحقيق سياساتها في أوراسيا – من أوروبا إلى الصين”.

وختمت الصحيفة التقرير، بأن روسيا تفوقت على الآخرين، فبما أن روسيا لديها اقتصاد ضعيف، فكانت بحاجة إلى التعويض في المجالات الأخرى والمتمثلة في الدبلوماسية والقوة العسكرية والقدرة على حل القضايا المختلفة. 

+ posts

باحثة بالمرصد المصري

رحمة حسن

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى