ليبيا

خطوط النار بعد “مؤتمر برلين”.. كيف ستؤثر الأسلحة التركية الجديدة في ليبيا على الصراع؟

علي وقع الحرب الليبية، تهتز الجغرافيا العسكرية بداخل هذا البلد الممزق على نحو موجات تصادمية تقليدية لتشكيلات برية، تمحورت في الكرّ والفرّ بين وحدات الجيش الوطني الليبي والميليشيات التي تُدار من قِبل أشخاص مدرجين على قوائم الإرهاب، والحاكمة سيطرتها علي أقل من 10% من مساحة البلد، وتتمركز في بؤرتين تطلان علي ساحل البحر المتوسط “مصراته”، “طرابلس”.

منذ اليوم الأول لعمليات الكرامة التي أطلقها الجيش الليبي منذ ست سنوات، لم يشهد الميدان الليبي أي جديد من حيث أشكال وأنماط المواجهات العسكرية عن النسق السالف ذكره، “موجات تصادمية تقليدية لتشكيلات برية”؛ إلا بعد دخول التقنية العسكرية الحديثة لساحة الحرب، والمتمثلة في الطيران المُسيّر الغير مأهول، فضلاً عن تسجيل ساحة الحرب لحضور خافت لعناصر القوات الخاصة لدول فرنسا وبريطانيا لأعمال تأمين الشركات والمصالح علي نطاق محدود، وأعمال التنسيق الاستخباراتية وتوجيه ضربات سلاح الجو للأهداف عالية القيمة كما في حالة الانخراط الفرنسي.

بعدها استقر شكل المواجهات في مسرح الحرب الليبية على تدخل جراحي دقيق للطيران النفاث والمسير، مع استمرار للمواجهات التصادمية والتركيز على تكتيكات الالتفاف والتطويق لعزل الميلشيات المسلحة المدعومة تركياً عن بعضها وحصرها في جيوب عسكرية ضيقة تحمل بذور موتها تدريجياً. حتى شهدت الميدان الليبي استدارة للموقف الروسي، واتجاهه للتنسيق المشترك مع الجانب التركي، بعد أن جمع الغاز والسلاح الثنائي السابق، وجعل الفرصة مواتية لاستنساخ التجارب التوافقية بينهما في الميدان السوري في ليبيا، استناداً علي نفس المتغيرات الحاكمة لعلاقتهما. 

وقف إطلاق نار هشّ والإصبع على الزناد

أفرز التوافق بين موسكو وأنقرة، عن اتجاه الأولي لاستضافة الأطراف المتنازعة الليبية في لسحب البسطاء مبدئياً من مشاريع المقترحات الأوروبية لحل وتسوية الأزمة، على غرار جينيف وسوتشي وأستانا، وهو بدوره أفرز مشروعاً لوقف إطلاق النار بعدما كان الجيش الليبي قاب قوسين أو أدني من تحقيق مكاسب إضافية.

التزم الجيش الوطني الليبي بوقف إطلاق النار رغم الخروقات المتعددة من جانب ميلشيات الوفاق ولاسيما بمحاور طرابلس الجنوبية الغربية. لكن ثمة طرف آخر كان يعبث بموازين القوي في ساحة الحرب منذ الليلة الأولي لوقف إطلاق النار، ويمد خطوط إمداده بأنواع جديدة من السلاح لأول مرة. حيث استغلت تركيا الهدنة المؤقتة في محاولة تغيير ميزان القوي بإرسالها ولأول مرة أنظمة تسليحية من المرجح أنها ستغير من وقع حركة الميدان الليبي من الموجات التصادمية التقليدية عبر تشكيلات برية، لمستوي آخر تحاول الورقة ملاحقة أبعاده.

الاستغلال التركي لوقف إطلاق النار.. أنظمة حديثة في مواجهة مؤتمر برلين

جاء الدعم التركي لميلشيات الوفاق قبيل انطلاق فعاليات مؤتمر برلين، في مسارين:

الأول: خلق قبة حديدة فوق سماء طرابلس ومصراته

 أظهرت تسجيلات مصورة في قاعدة معيتيقة الجوية في طرابلس، الظهور الأول لمنظومة الدفاع الجوي متوسطة المدى (هوك (بأحدث طرازاتها في الترسانة العسكرية التركية، مع إرفاقها بنظام راداري متطور ” سينتينال ” متخصص في تعريف وتتبع الأهداف المعادية. مدي منظومة “هوك” متوسط، ويبلغ قرابة الـ 45 كلم.

“الهوك” لم يكن الضيف الجديد للميدان، بل تبعته منظومة مدفعية جوية تركية ذاتية الحركة تُعرف بـ “Korkut”. 

تخدم المنظومة في تسليح الجيش التركي منذ ثلاث سنوات، سلاحها الرئيسي مدافع أورليكون عيار 35 ملم وبمعدل إطلاق يصل لـ 1100 طلقة في الدقيقة الواحدة، مع عربة مخصصة للتوجيه النيراني بمدي 30 كلم، ويبلغ المدي المؤثر 3 كلم.

ثانيا: إرسال دفعات جديدة من المرتزقة

لقطات بثها المرصد السوري المعارض لنقل دفعة جديدة من الإرهابيين من إدلب السورية إلى طرابلس، منذ أسبوع، عبر طائرة مدنية تابعة للخطوط الإفريقية A320، لتؤكد ما ذهب إليه المرصد المصري قبل شهرين حين قام برصد وتحليل رحلات الطيران المدني من غازي عنتاب لأنقر وإسطنبول ومن ثم لليبيا ومصراته وأكد علي استخدام تركيا للطيران المدني في نقل المرتزقة والإرهابيين للميدان الليبي.

 اللقطات الأخيرة تتزامن مع تقرير أعدته الجارديان البريطانية وأكدت فيه إرسال تركيا لنحو 2000 مرتزق سوري لطرابلس برواتب شهرية تدفعها حكومة الوفاق تصل لـ 2000 دولار.

من المسارين السابقين، تذهب تركيا لتحييد سلاح الجو الليبي من ميدان المعركة الصحراوي، بحماية نقاط وصول الدعم التركي عبر الأجواء والموانئ البحرية والجوية، ولاسيما بعد تركيز سلاح الجو الليبي على استهداف الحمولات المشبوهة في مطارات مصراته وطرابلس، بشكل مؤثر. كما يتزامن ذلك مع وصول دفعات متتالية من المرتزقة خلال اليومين الماضيين ما يؤشر على نية توسيع الهجوم المضاد عبر محاور مصراته وطرابلس على النحو الذي ستوضحه النقاط التالية، لكن كيف ستؤثر تلك الإمداد على خريطة التوزيع العسكري وبالتالي المسارات السياسية؟

مسارات تأثير التعزيزات التركية بالميدان الليبي

أولاً: تكثيف هجمات الطيران المسير الغير مأهول:

هنالك النظرية الكلاسيكية القائلة، بأن الطيران هو سيد حرب الصحراء، وقد شهدت النظرية عصرها الذهبي بُعيد الهجوم الإسرائيلي الموسع عام 1967، الذي يُعرف بحرب الأيام الست. لكن القوات المسلحة المصرية نسفت النظرية، بعد تحييد أقوي سلاح جو بالمنطقة في حرب أكتوبر، وأصبح السيد الجديد لحرب الصحراء هو القوة المدرعة.

مع وصول التعزيزات التركية الأخيرة، وبعد فشل ميليشيات حكومة الوفاق في مواجهة الطيران النفاث والمٌسير الغير مأهول، سواء بالدفاعات الجوية التقليدية من الحقبة السوفيتية أو من خلال تشغيل ما كان لديها من قطع طيران، عبر استقدام مرتزقة طيارين برواتب شهرية عبر وسطاء أوروبين وتحديداً من خلال شركتين في اسكتلندا كما توضحه الورقة التالية ” التايمز البريطانية: شركات إسكتلندية “تدير الحرب في ليبيا” وتمول حزب الله اللبناني”

يُرجح أن تعود المواجهة الساخنة بين الوينج لونج الصينية التي يشغلها الجيش الوطني الليبي، وبين البيراقدار التركية. 

ثانياً: سلاح النفط في الواجهة:

تدفع حكومة الوفاق رواتب المرتزقة السوريين والبالغ للفرد المقاتل 2000 دولار شهرياً، كما تدفع رواتب جميع عناصر الميلشيات المنضوية تحت رئاسة أركانها تنظيمياً. ومع التعاظم في الكم المرتبط بأعداد المرتزقة السوريين التركمان والمنضوين تحت لواء الجماعات المسلحة الموالية للاستخبارات التركية في الشمال السوري، زادة تكلفة استخدامهم ولاسيما بعد اكتفاء تركيا برسوم العلاج الطبي للمصابين وتقديم تسهيلات للحصول علي الجنسية التركية.

بالرغم من تأمين الجيش الوطني الليبي لحقول النفط في الشرق والوسط والجنوب الليبي، إلا أن عائداته تذهب لحكومة الوفاق، التي بدورها تخصص جزء من عوائده لدعم النشاط الميليشاوي المسلح وتأمين حصوله على السلاح والكادر البشري.

وفي سياق متصل اليوم، أوقفت موانئ في شرق ليبيا صادرات النفط الخام فيما يقلص إنتاج البلاد بأكثر من النصف ويزيد التوتر قبل قمة في ألمانيا لبحث الصراع الليبي. وتحدثت مصادر عن إغلاق أغلب حقول وموانئ تصدير النفط الليبي بسبب احتجاجات شعبية ضد جلب مقاتلين من سوريا وقوات تركية بطرابلس.

وقُدر إنتاج النفط الليبي بنحو 1.3 مليون برميل يوميا قبل إغلاق الموانئ. ويقدر حجم الإنتاج الذي يتعطل من إغلاق الموانئ بنحو 700 ألف برميل يومياً، لكن مصادر تحدثت عن إغلاق غالبية الموانئ ما يهدد بتعطل أكثر في الإمدادات.

وفي وقت سابق، قال شيوخ القبائل المتحالفون الجيش الوطني الليبي إن حكومة فائز السراج متهمة باستخدام إيرادات النفط لدفع أجور لمقاتلين أجانب، في إشارة إلى قرار تركيا إرسال جنود ومقاتلين من سوريا إلى غرب ليبيا.

لذا فمن المرجح أن تعود حقول النفط على بنك أهداف ميليشيات طرابلس، وتلك الموالية لها في الجنوب من عصابات المعارضة التشادية وإبراهيم الجضران. كما سيدفع قطع النفط لمحاولات استعادة مدينة سرت إذ تعد بوابة للهلال النفطي.

ثالثاُ: المدفعية أمام الكيربي:

https://twitter.com/LNA2019M/status/1217094707534233603

سرعان ما أظهرت أداء سيئ في الميدان نظراً لقدراتها المتواضعة على المناورة، وضعف تدريب الأطقم التي تقودها، كانت مدرعات الكيربي التركية صيد سهل بالنسبة لوحدات الجيش الوطني الليبي الراجلة، والحاملة للمدفعية المضادة للدروع. ومع وصول المئات من عناصر المرتزقة السوريين المدربين جيداً، خلال الأسبوعين الماضيين فإن من المرجح في حال فشل مؤتمر برلين في مد وقف إطلاق النار أو وضع مسار سياسي يقوم علي التسوية الشاملة لا تسويات الحد الأدنى المشهورة بالثنائي “روسيا – تركيا” والتي تبقي علي جذور الصراع دون معالجة حقيقية علي النحو الذي أظهره الميدان السوري لتحركاتهما، فإنه من المرجح أن توفر المظلة الجوية المفروضة علي مطاري مصراته وطرابلس تأمين وصول مزيد من العناصر والأطقم والاستشاريين العسكريين الأتراك الذي يديرون حرب الشوارع في طرابلس منذ شهر ونصف، كما ستضع قوات الجيش الوطني الليبي المتمركزة أمام ضغط يختلف عما اختبرته منذ مطلع ديسمبر الماضي ولاسيما في محوري “صلاح الدين – خلة الفرجان”، و ” طريق المطار”.

ما يعاظم من دور مدفعية الميدان في إحباط التحضيرات علي مستوي انساق القوة الميكانيكية المدرعة للوفاق، وخاصة بعد تحجيم دور الطيران اللليبي المتوقع بعد وصول أنظمة الدفاع الجوي المشار إليها سلفاً.

خاتمة

تمثل طرابلس قيمة استراتيجية حقيقية ليس فقط للمشروع التركي التوسعي بالمنطقة وشمال إفريقيا والقائم على أسس عقائدية، وإنما تمثل القلعة الأخيرة لتركيا لمحاولات التواجد في أي من معادلات الغاز الناشئة، فضلاً عن محاولة تعطيل خطط الربط الطاقوي بين دول الحوض ومسارات دفق الطاقة منها لأوروبا المتعطشة لمورد بديل عن الغاز الروسي.

ومع تقديم فرنسا لطلب رسمي للانضمام لمنتدي غاز شرق المتوسط منذ يومين، فإن هامش المناورة التركية سيتعرض للتضييق، بما قد يدفع لتركيا باللجوء لمحاولة تغيير ميزان القوي علي الأرض في ليبيا علي النحو الذي أشرنا إليه سلفاً، و اللجوء لابتزاز الدول الأوروبية بدفق مزيد من اللاجئين السوريين عبر الحدود، وفتح الباب لظروف تنظيمات داعش والقاعدة في ليبيا وهو ما أشار إليه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في حواره مع مجلة بوليتيكو، وهو ما يفسر تصاعد نشاط الاستخبارات التركية في نطاق دول الساحل والصحراء وتحديداً مع قبائل الطوارق والعناصر المناوئة فيها للتواجد الفرنسي كما أشرنا إليه في ورقة ” ضيف جديد للعناصر المحلية الداعمة .. الطوارق ونشاط الاستخبارات التركية في الصحراء الكبرى

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى