ليبيا

مؤتمر برلين … فرص وتحديات التسوية السياسية في ليبيا

وجهت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” الدعوة لعدد من رؤساء الدول المعنية بالشأن الليبي؛ لحضور مؤتمر التسوية السياسية للأزمة الليبية والذي يعقد اليوم الأحد 19يناير في العاصمة برلين، ويتوقع أن يحضر القمة زعماء 11 دولة مهتمة بالأزمة، الى جانب القائد العام للجيش الليبي المشير “خليفة حفتر” ورئيس المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق “فايز السراج”، فضلاً عن ممثلي الهيئات الدولية كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الافريقي والجامعة العربية. 

يمثل مؤتمر “برلين” أهمية كبرى للأطراف الدولية والمحلية الفاعلة في ليبيا؛ حيث يضم الأطراف ذات المصالح والاشتباكات المباشرة بالصراع، وكونه يأتي في أعقاب فشل توقيع اتفاق الهدنة في موسكو والمتعلق بوقف إطلاق النار،13يناير2020، وهو فتح الباب أمام تجدد دورة الصراع مرة أخرى، وانخراط الأطراف الدولية بشكل يصعد من حدة المواجهات، ويقلص فرص التسوية السياسية.

تتناول هذه الورقة ما جرى الكشف عنه من البنود المصاغة لمسودة المؤتمر، وفرص إقرار تلك البنود في ضوء مجريات الصراع الميدانية التي تم وقف إطلاق النار على حدودها، فضلاً عن التداعيات المُحتملة إذا ما اتجه المشاركون بالمؤتمر لإقرار تلك المسودة بشكل نهائي وإجازة بنودها دون توافق شامل لكافة الأطراف، والسناريوهات المُرجحة لتطور الازمة في أعقاب المؤتمر.

“مسودة برلين” بين الخطة الأممية وهدنة موسكو

مثَّلت خطة البعثة الأممية لمؤتمر برلين الركيزة الأولى التي أسست موسكو -بتعاون تركي مشترك- عليها فكرة اتفاق الهدنة ووقف إطلاق النار، وأصبحت اتجاهات المشاركين في مؤتمر برلين والمسودة التي ستخرج عنه متفقةً مع خطة البعثة في كونها مُركزةً على مجموعة من المحاور الأساسية، ويمكن إبرازها فيما يلي:

أولاً: حفظ سيادة ووحدة الدولة الوطنية الليبية:

تؤكد مسودة مؤتمر برلين على سيادة الدولة الليبية ووحدتها الوطنية، وهو ما يسعى المؤتمر لدعمه عبر تفعيل العملية السياسية، ودعم الحل السياسي للصراع. وترتكز الخطة الخاصة ببعثة الأمم المتحدة في شقها السياسي على حل كافة السلطات التنفيذية القائمة، بالتزامن مع توحيد المؤسسات الوطنية، وهو ما تم صياغته بمسودة مؤتمر برلين بإنشاء مجلس رئاسي فاعل وتشكيل حكومة وطنية واحدة معتمَدة من مجلس النواب. ولتحقيق ذلك اعتمدت الخطة الأممية تعديل هيكل المجلس الرئاسي ليصبح بصيغة (2+1) ويضم رئيس وزراء “جديد” ونائبين، ثم يقوم رئيس الوزراء بتشكيل الحكومة وفقًا لـ “تفاهمات تونس”، نوفمبر عام2017، وهي تحدد صلاحيات المجلس الرئاسي والحكومة. وبعد ذلك تقدم الحكومة تشكيلها للبرلمان ويتم اعتمادها بأغلبية ثلثي الأصوات، وإذا لم تنل ثقة البرلمان يتم اعتمادها تلقائيا. كما تضمنت الخطة الانتهاء من الإجراءات التشريعية اللازمة لإنهاء المرحلة الانتقالية، حيث تم انتخاب المجالس المحلية قبل من منتصف عام 2020، وتفعيل قانون رقم 59 بشأن تشكيل المجلس الأعلى للحكم المحلي.

ثانيًا: تعزيز فرص استدامة الهدنة ووقف العمليات العسكرية:

تدعو مسودة المؤتمر إلى بناء هدنة شاملة ودائمة وإنهاء التحركات العسكرية، واتخاد تدابير لبناء الثقة وتبادل الأسرى والجثامين بين القيادة العامة للجيش الوطني وحكومة الوفاق بطرابلس، بالإضافة الى فرض عقوبات من مجلس الأمن على من ينتهك وقف إطلاق النار. كذلك ضبط التحركات الدولية الفردية بالأزمة، وحثّ الجهات الدولية على الالتزام بالامتناع عن التدخل الخارجي في ليبيا. وقدمت البعثة الأممية في خطتها لبرلين وضع مسؤولية حظر السلاح في ليبيا بيد الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، والتزام الدول المشاركة في المؤتمر بالحظر، مع تنسيق دولي لمراقبة الحدود بواسطة الأقمار الصناعية، وتطوير آلية لجنة الخبراء، وتعيين نقاط اتصال والتنسيق مع فريق الخبراء والجانب الليبي، وممارسة الضغط على الأطراف الليبية للالتزام بالحظر، وتشكيل لجنة دولية من الدول الأطراف في مؤتمر برلين + الأمم المتحدة لمراقبة الحدود البحرية والجوية والبرية لليبيا.

 ثالثاً: توحيد القوات المسلحة وحل المليشيات:

تشتمل مسودة برلين على استعادة الدولة للاستخدام المشروع للقوة، وتوحيد قوات الأمن الوطني والقوات المسلحة تحت سلطة مركزية، ونزع سلاح المجموعات المسلحة بإشراف الأمم المتحدة، ومطالبة الأطراف بالانفصال عن الجماعات الإرهابية، كذلك حظر السفر وتجميد الأموال للأطراف المرتبطة بالجماعات الإرهابية. واقترحت البعثة الأممية أن يتزامن إنهاء المظاهر المسلحة مع المسار السياسي لحل الازمة، وتضمنت خطتها تشكيل لجنة عسكرية أمنية (5+5) من الطرفان ويكون عملها برعاية أممية، وتتولى مهام استدامة الهدنة ونزع السلاح من المليشيات، وتسليح القوات النظامية وإعادة الإدماج الكتائب داخل المؤسسة العسكرية والأمنية الموحدة، كذلك مكافحة الإرهاب والترتيبات الأمنية ومراقبة الحدود. بالإضافة لتشكيل لجنة “تسريح المقاتلين” وتقوم بإحصاء التشكيلات المسلحة وتحديد العناصر الإرهابية والإجرامية فيها، ومسح شامل للأسلحة الثقيلة بما فيها المستوردة حديثا، وتسريح المقاتلين صغار السن والشباب. كما دعت البعثة لإنشاء محكمة خاصة بمكافحة الإفلات من العقاب على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والجرائم الخطيرة المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

مؤتمر برلين … فرص التسوية الشاملة

فعلت مسودة مؤتمر برلين قطاع كبير من الخطة الأممية المقترحة لمسارات الحل السياسي وتوحيد المؤسسات الليبية، ومع وجود جانب دولي كبير من الأطراف الدولية المهتمة بالصراع، إلى جانب الجانبين الداخليين الموجهين للعمليات العسكرية والمسيطران على قنوات التسوية السياسية، تتضح فرص كبرى لانتهاء “مؤتمر برلين” إلى خطوات ناجزة نحو تفعيل المسار السياسي لحل الازمة وفقًا لصيغ ومحددات تدعم سبل إنهاء المظاهر المسلحة وحل المليشيات ومكافحة الإرهاب. ولكن تبقى تلك المسارات مرهونة بالتحديات التي تصدرها الدول التي استثمرت بشكل كبير في تدعيم تلك الحالة الصراعية في ليبيا، والفواعل بالداخل المرتبطين بالحشد الميليشياوي والجماعات المتطرفة والمسلحة، ومن خلفهم وسطاء ومديري عمليات الدعم والتمويل للمجموعات التي قد تخضع للحل والملاحقة القضائية دوليًا. 

وتقود تلك الدول والمجموعات المليشياوية بشكل واضح اتجاهات تعاطي حكومة الوفاق والمجلس الرئاسي بطرابلس، وهو ما يجعل قراءة المشهد تتجه الى احتمالات محدودة لخطوات حكومة “فائز السراج” أمام الضغط الدولي الذي سيكون بشكل واضح متجه نحو إنجاح المؤتمر في صياغة ترتيبات مستقبلية ناجزة، تقابلها تحركات تركية للضغط على الجانب الأوروبي لحفظ “الوفاق” وعدم التخلي عن بقاءها. وهو ما ارتبط بتهديدات الرئيس التركي “أردوغان” والتي صاغها في خطابة المنشور بمجلة بوليتيكو الأمريكية، 18يناير2020، وأوضح أن تخلي أوروبا عن دعم الوفاق هو خيانة، ستصدر للقارة العجوز جملة من التهديدات والتحديات بملفات الهجرة غير الشرعية واللاجئين، كذلك ستكون ساحة لنشاط تنظيمي القاعدة وداعش والتنظيمات المتطرفة الأخرى. 

وأكد على التزام أنقرة بتقديم مساعدات عسكرية لحكومة الوفاق، وتنفيذ الاتفاقيات الأمنية والعسكرية بين الطرفان، وتأمين بقاء المجلس الرئاسي بالسلطة، وجدد أردوغان أن بلاده ستقوم بتدريب قوات الأمن الليبية ومساعدتها على محاربة الإرهاب والاتجار بالبشر. وبذلك يكون أردوغان قد وضع أول تصنيف لمخرجات مؤتمر برلين، بين مخرجات تحفظ بقاء وسلطة حكومة الوفاق، وتدعم البرامج التركية في ليبيا لدعم الإسلام السياسي وتصدير المقاتلين واستنزاف الثروات الليبية. وأخرى لا تحرص على كيان الرئاسي وتشكل دعمًا للأطراف السياسية والشرعية الأخرى كالبرلمان الليبي والقيادة العامة للقوات المسلحة، وهي التي ستعارضها أنقرة ولن تلتزم بها.

مُجمل القول،

 تصريحات أردوغان الأخيرة ومحاولاته لصياغة اتفاق ملزم بوجود كيان الوفاق والحشد الميليشياوي بطرابلس ضمن ترتيبات التسوية السياسية، وحرص أنقرة البالغ على إيجاد موطئ قدم عبر لجان مراقبة وقف إطلاق النار باتفاق الهدنة -الذي فشل إنجازه في موسكو يناير الجاري- كلها طموحات تركية هدفت لضمان مصالحها في ليبيا قبل مؤتمر برلين؛ لعلم تركيا أن وجود أطراف عربية وإقليمية ودولية ترغب في تسوية جادة سيقود بالضرورة إلى الاضرار بأطماعها. وتظل المجموعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية الفعالة كشركاء لحكومة الوفاق من أبرز العقبات للتسوية السياسية؛ كونها سترفض أية حل لكياناتها، وسيرفض الجيش الوطني دمج العناصر الإرهابية والمتطرفة داخل تلك المليشيات بالكيان العسكري الموحد، كما سيعقد المشهد أكثر إذا لم ترتبط بنود حل المليشيات وسحب السلام منها على إطار زمني وإجراءات محددة. 

ختامًا، 

سيتحتم على مؤتمر برلين التعاطي بشكل فاعل مع الأجندة التركية، وغيرها من الأهداف دون الوطنية الفعالة بالميدان الليبي، وستقع المسئولية الأكبر والتحديات الأبرز على الجانب الأوروبي؛ إذ تسعى أنقرة للضغط عليه لتوجيه المخرجات الخاصة بالمؤتمر بما يتماشى ورغباتها أو تصدير المزيد من العقبات أمام الدول الأوروبية، وقيادة حكومة الوفاق نحو تعطيل مسار مفاوضات برلين حتى تفريغه من مضمونه، وصولاً لاحتمالية أكبر بمعارضة أردوغان لأي اتفاق لا يضمن مصالحه، وإن تطلَّب التدخل التركي المباشر في الصراع الليبي وتعطيل مسارات الحل السياسي.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى