الصحافة الدولية

إصرار ماكرون على إصلاح نظام التقاعد رغم استمرار الإضرابات.. دلالات وتحديات

أشار الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في خطابه السنوي إلى الأوضاع الصعبة التي مرت بها البلاد خلال العام السابق، إذ شهد مقتل عدد من الجنود في مالي، وعدد من رجال الشرطة داخل البلاد، علاوة على حريق كاتدرائية “نوتردام” ورحيل الرئيس السابق “جاك شيراك”. كما أثار بعض قضايا السياسة الخارجية مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مُعربًا أن البريكست يمثل تحديًا إلا إنه “سيحاول الحفاظ على علاقة قوية بين بلدينا”.

بجانب الدفاع عن برنامجه الإصلاحي الذي دعا إليه منذ بداية توليه السلطة في مايو 2017، لضمان تحقيق المساواة بين الفرنسيين على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، وأكد على أهمية الالتزام بتنفيذ مشروعه الخاص بإصلاح أنظمة التقاعد، رغم استمرار تعبئة النقابات ضده والقيام بعدد من الإضرابات التي بدأت منذ 5 ديسمبر 2019 وحتى الآن.  مطالبا “إدوارد فيليب” رئيس الحكومة بالتوصل إلى تسوية سلمية معهم تمهيدًا لعودة الاستقرار، متعهدًا باتخاذ إجراءات جديدة لم يوضح تفاصليها للتصدي لـ “القوى التي تقوض الوحدة الوطنية”.

يذكر  أن الإضرابات ضد مشروع القانون الخاص باستبدال أنظمة التقاعد الحالية تعد الأطول، مقارنةً بإضرابات عام 1995 التي استمرت 22 يوم، وأسفرت عنها تراجع الحكومة عن إقرار القانون، واقترحت انتخابات جديدة، ساهمت في عودة الاشتراكيين مقابل خسارة الحكومة اليمينية، ومن المحتمل استمرار الإضرابات لحين استئناف المشاورات في 7 يناير 2020، قبل اليوم المقرر للاحتجاج الوطني في 9 يناير، ليتخطى بذلك فترة الـ 28 يوم الخاصة بإضراب وسائل النقل في 1986-1987.

كما أوضح إنه سيأخذ في الاعتبار أن يكون سن التقاعد في وقت مبكر خاصة لأصحاب المهن الشاقة. كما وعد بتقليل الضرائب، وإلغاء ضريبة السكن لمعظم الفرنسيين خلال عام 2020، فضلاً عن إعلانه خطة جديدة لمواجهة التغير المناخي لتقليل الاحتباس الحراري، سيتم الإعلان عنها في النصف الأول من عام 2020.

دلالات الخطاب

  • إصرار “ماكرون” على تنفيذ إصلاح نظام التقاعد الحالي المرتكز على مستويات مختلفة من الامتيازات والاشتراكات، الذي يبلغ عددهم 42 نظام تقاعدي، إلى نظام شامل يستند على نهج واحد لجميع القطاعات يعرف بنظام “النقاط”؛ إذ يدفع كل عامل واحد يورو بشكل يومي، ليكون محصلة هذه الأموال هي الأجر التقاعدي للجميع بشكل متساوي. بجانب رفع سن التقاعد إلى 64 عامًا بدلًا من 62. وذلك نتيجة يقينه إن برنامجه الإصلاحي آتى ثماره بشكل نسبي؛ حيث أشار في خطابه “أن سياساته الإصلاحية نتج عنها “توفير 500 ألف وظيفة جديدة منذ العام 2017، بالإضافة إلى إنشاء العديد من الشركات الجديدة وزيادة الاستثمارات الأجنبية وفتح مصانع جديدة لأبوابها”.
  • تعمد “ماكرون” تفادي المواجهة المباشرة للتعامل مع الإضرابات التي اجتاحت البلاد من خلال تفويض حلها لرئيس الحكومة، للتوصل إلى تهدئة سلمية، مصرًا على عدم التراجع عن هذه الخطوة، ومستفيدًا من تجاربه مع احتجاجات “السترات الصفراء” التي مثلت نقلة نوعية للدولة الفرنسية، بالتزامن مع استمرار حالة الاستياء العام من سياسات “ماكرون”.  علاوة على أن المرة الوحيدة التي تحدث فيها عن الإضرابات كانت إبان جولته الأفريقية، داعيًا إلى التهدئة، وتحقيق مصالح المواطنين من خلال تسهيل حركة التنقل.
  • بالرغم من تأكيده على أن الإصلاحات ستأخذ في الاعتبار العاملين في القطاعات المختلفة وخاصة التي تعمل في قطاعات عمل شاقة ويتقاعد أصحابها مبكرًا، إلا إنه لم يتطرق في خطابه إلى تعديل سن التقاعد للحصول على معاش كامل. 
  • تعد السياسات الإصلاحية التي يتبنها “ماكرون” جوهر التحديات التي يواجهها على كافة الأصعدة، وهنا تكمن إشكالية إصراره على استكمال برنامجه، لأن التراجع سيساهم في تراجع مصداقيته، خاصة أمام رجال الأعمال، وقوى اليمين التي تنظر إلى النقابات بإنها يسارية استطاعت توظيف الدعم الحكومي للعاملين في القطاعات المختلفة لتكون فاعل سياسي قوي، يعارض الحكومة. 
  • لم يكن الخطاب السنوي جديد في توجيه رسائل إلى المحتجين للدعوة إلى التهدئة، وبحث سبل التسوية، ففي نهاية عام 2018 وجه “ماكرون” خطابًا لمُحتجي “السترات الصفراء” للحوار  تزامنًا مع ما شهدته باريس من مظاهرات تصاعدت إلى حد اندلاع العنف والحرائق في عدد من المدن الفرنسية، رفضًا للنهج الحكومي الخاص بإقرار ضرائب جديدة على الوقود، وعليه فقد سعت الحكومة إلى التهدئة من خلال إقرار عدد من الإجراءات التي تضمن التصدي لهذه الاحتجاجات، من خلال تراجع الحكومة عن بعض قراراتها كنتاج للحوار الوطني الذي استمر ما يقرب من 3 شهور للوصل إلى تسوية وطنية متوافق عليها.
  • أشار “ماكرون” عن أهم تحدي يواجه فرنسا بشكل خاص والدول الأوروبية بشكل عام وهو خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، فمازالت عملية الخروج يكتنفها المزيد من الغموض، فضلاً عن رغبته في استمرار التعاون معها بعد الخروج، من خلال اتفاقيات للتعاون المشترك على كافة الأصعدة، علاوة على دعم وضمان الأمن الأوروبي بعد خروجها.

تحديات قادمة

تتزامن التحديات الداخلية الناجمة عن سياسة “ماكرون” الذي يصفه الكثير إنه “رئيس الأغنياء”، مع اقتراب الانتخابات المحلية؛ إذ يرغب حزبه “الجمهورية إلى الأمام” المشاركة في الانتخابات التي من المحتمل أن تشهد صعود للقوى اليمينية والاشتراكية، علاوة على استمرار تنامي الحركات الاحتجاجية التي تحظى بتأييد الرأي العام الفرنسي بشكل نسبي، كما أن هناك تخوف من تنامي الضغوط على حكومة الأمر الذي يدفعها إلى الإعلان عن انتخابات مبكرة نتيجة تعقد المشهد السياسي الداخلي.

بجانب التحديات الخارجية، واستمرار حالة عدم التوافق بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين على إدارة عدد من الملفات الدولية ذات الاهتمام المشترك، فضلاً عن العلاقات المستقبلية مع المملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. واستمرار العلاقة الجدلية مع ألمانيا في الآونة الأخيرة نتيجة انتقادات “ماكرون” لحلف شمال الأطلسي، والرغبة في ريادة الاتحاد بدور جيوسياسي قوي.

 وفيما يتعلق بأزمات الشرق الأوسط، فقد تراجعت جهود باريس في سياق الوساطة في الملف الإيراني نتيجة عدم القدرة على تحقيق التقارب بين واشنطن وطهران، فضلاً عن استمرار التوتر مع تركيا نتيجة نهجها التوسعي في المنطقة، والتدخل العسكري في سوريا بدون تنسيق مع أعضاء الناتو.

بجانب الأوضاع في ليبيا والسودان واليمن فما زالت القيادة الفرنسية تتبني سياسة الترقب الحذر المرتكز على ضبط النفس، والالتزام بالحل السلمي بين الفرقاء تمهيدًا لعودة الاستقرار والحفاظ على وحدة الأراضي وسيادتها من الانتهاكات الخارجية، دون التدخل بشكل مباشر تخوفًا من إعادة انتاج نموذج سوري جديد، علاوة على استهدافها مع قبل بعض الجماعات الإرهابية انتقامًا منهم، وتجنبًا لتنامي موجات الهجرة غير الشرعية التي أصبحت ورقة ضبط على أوروبا بشكل عام.

اما منطقة الساحل مازالت تواجه باريس تهديد من تنامي الجماعات الإرهابية رغم تمركز قواتها في مالي منذ 2014، إذ فقدت عدد من جنودها نتيجة استهدافهم من قبل بعض الجماعات الإرهابية. وعليه يسعى “ماكرون” إلى إعادة هيكلية سياساته الداخلية، دون مواجهة مباشرة تكاد تعصف بمستقبله السياسي، في ظل المتغيرات المتلاحقة.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

آية عبد العزيز

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى