
فرص واشكاليات .. خطة البعثة الأممية لمؤتمر برلين
كشفت تقارير عن خطة البعثة الأممية المقترحة لحل الأزمة الليبية والتي ستناقشها بمؤتمر برلين، المزمع عقد خلال الأسابيع الأولى من العام 2020؛ لتكون بمثابة الإطار العام للمناقشات، ووضع حد لدورات الصراع المتجددة في الدولة المأزومة منذ قُرابة تسعة أعوام. وتتسم ورقة البعثة ومقترحاتها بالاعتماد على العديد من الاتفاقات والتفاهمات السابقة، التي جمعت ممثلي البرلمان الليبي والقيادة العامة للقوات المسلحة الى جانب المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق، ومنها محادثات القاهرة ومخرجاتها، وتفاهمات “تونس” التي تم إقرارها في نوفمبر 2017، بالإضافة الى القانون رقم (59) الخاص بالحكم المحلي.
وتتناول الورقة ابعاد الازمة الليبية بكافة جوانبها سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا، بالإضافة للجوانب الإنسانية والقانونية. ويتناول التقرير الملامح الأساسية لخطة البعثة الأممية في هذه الملفات، وصولاً الى فُرص التطبيق التي قد تقدمها تلك المبادرة، وما تطرحه من إشكاليات في مسار التطبيق؛ انطلاقًا من أهمية تلك الخطة كأول طرح يصدر عن طرف فاعل بمؤتمر برلين؛ لاعتبارات تتعلق باتصالات البعثة الواسعة بأطراف الصراع الليبي، والدول المعنية بالأزمة. بالإضافة الى كون توصياتها محدد بالغ التأثير في توجيه مسارات الحوار، والمخرجات التي يُمكن أن تصدُر عن جلسات المؤتمر.
إعادة إحياء العملية السياسية
وضعت البعثة الأممية مجموعة من الخطوات لإعادة إحياء مسارات التسوية السياسية للازمة بشكل رئيسي، ومن أبرزها حل كافة السلطات التنفيذية القائمة، بالتزامن مع توحيد المؤسسات الوطنية، وكذلك تعديل هيكل المجلس الرئاسي ليصبح بصيغة (2+1) ليضم رئيس وزراء “جديد” ونائبين. وتنص الخطة على أن يقوم رئيس الوزراء بتشكيل حكومة وفقًا لـ “تفاهمات تونس” والتي جرى إقرارها في نوفمبر عام2017، وتحدد تلك التفاهمات طبيعة صلاحيات المجلس الرئاسي والحكومة، وأن يتم اعتماد الحكومة من قبل البرلمان بأغلبية ثلثي الأصوات، وفي حالة فشل البرلمان في ذلك يتم اعتمادها تلقائيا. بالإضافة الى الانتهاء من الإجراءات التشريعية اللازمة لإنهاء المرحلة الانتقالية، والانتهاء من جميع المجالس المحلية قبل من منتصف عام 2020، وتفعيل قانون رقم 59 بشأن تشكيل المجلس الأعلى للحكم المحلي.
وبذلك تكون خطة البعثة -على الصعيد السياسي- قائمةً على مخرجات الجولة الثالثة من الحوار الليبي الذي جرت في تونس بتاريخ 15نوفمبر2017، واعتمدها البرلمان الليبي بأغلبية أعضاءه، رغم معارضة المجلس الأعلى للدولة للتعديلات الصادرة بتلك الجولة على نص الاتفاق السياسي. وتنص تعديلات الاتفاق السياسي (اتفاق الصخيرات)، جرى صياغته بالمغرب عام2015، على اختيار مجلس النواب الليبي لأعضاء المجلس الرئاسي، وهو ما يتم من قوائم المرشحين لشغل منصب رئيس مجلس الدولة ونائبيه. وطالب المجلس الأعلى للدولة بمشاركة مجلس النواب في الاختيار ولم يتم تضمين ذلك بالتعديلات. كما أقر مجلس النواب مقترح المبعوث الأممي لتعديل المواد المتعلقة بالسلطة التنفيذية، وتم فصل مجلس رئاسة الدولة عن مجلس الوزراء، وتقليص عدد أعضائه لرئيس ونائبين، على أن يتخذ قراراته بالإجماع، فضلًا عن توليه مهام القائد الأعلى للجيش.
هيكلة القطاع الاقتصادي عبر الخبرات الدولية والجهود الوطنية
وتضمنت خطة البعثة الاممية اقتصاديًأ نحو توحيد مصرف ليبيا المركزي قبل انعقاد “مؤتمر برلين”، وإجراء عملية التدقيق والمراجعة المالية من قبل مؤسسات دولية، والالتزام بالقوانين والإجراءات المصرفية فيما يتعلق بصلاحيات أعضاء مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي. ودعم المؤسسات الدولية لإجراء مراجعة مالية لهيئة الاستثمارات الخارجية، وتحسين الشفافية في أداء المؤسسة الوطنية للنفط، وتقديم الدعم اللازم لتطوير قطاع النفط. واقترحت الخطة تشكيل صندوق ليبيا للإنشاء والتعمير؛ لتسهيل عملية الإنفاق على برامج البنية التحتية الحيوية. كذلك تكوين لجنة خبراء اقتصاديين، تضم مسؤولين حكوميين وخبراء اقتصاديين ليبيين، ويراعى فيها التوزيع الجغرافي والمؤسساتي في ليبيا؛ لتتولى تحقيق تناغم بين السياسات المالية والاقتصادية.
ضبط الامن وإنهاء المظاهر المسلحة كركيزة للاستقرار
وقدمت البعثة مقترحًا تضمن إعادة بناء المؤسسات الأمنية عبر انهاء المظاهر المسلحة، واحتكار عملية الاستخدام الشرعي للقوة على الدولة ومؤسساتها، على أن يتزامن هذا المسار مع المسار السياسي. وتقوم الخطة الأمنية على تشكيل لجنة عسكرية مشتركة (5+5) من الجيش والشرطة برعاية أممية، ويتأسس عملها على محادثات القاهرة والوثائق الصادرة عنه، وينبثق عن هذه اللجنة فرق عمل تتولى مواضيع الهدنة ونزع السلاح والتسليح وإعادة الإدماج، ومكافحة الإرهاب، والترتيبات الأمنية ومراقبة الحدود. وتمهد الخطوة السابقة، لإعلان وقف إطلاق النار تحت إشراف اللجنة العسكرية المشتركة.
ويتضمن المقترح إنشاء لجنة أخرى تختص بـ “تسريح المقاتلين”، وتتولى مهام إحصاء للتشكيلات المسلحة بالتعاون مع وزارة الداخلية والدفاع والقيادة العامة، ويكون من أنشطتها تكوين “فريق عمل” يعني بالنزاهة وتحديد العناصر الإرهابية والإجرامية في التشكيلات المسلحة، وإجراء مسح شامل للأسلحة الثقيلة بما فيها المستوردة حديثا، ووضع مجموعة من الضمانات والحوافز لقادة التشكيلات المسلحة المثيرة للجدل، كما تتولى برامج علاج الجرحى، وتسريح المقاتلين صغار السن والشباب، ووضع استراتيجية إدماج وإعادة ادماج لأعضاء التشكيلات المسلحة بعد إجراء عملية التدقيق. كما نصت الورقة على أن تقوم وزارتي الداخلية والدفاع في حكومة الوحدة الوطنية الجديدة بتنفيذ الترتيبات الأمنية الانتقالية عبر توفير الدعم الخارجي عند الحاجة.
إشكاليات حظر التسليح والأوضاع الانسانية
وقد تناولت الخطة وضع مسؤولية حظر السلاح في ليبيا بيد الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، والتزام الدول المشاركة في المؤتمر بالحظر، مع تنسيق دولي لمراقبة الحدود بواسطة الأقمار الصناعية، وتطوير آلية لجنة الخبراء، وتعيين نقاط اتصال والتنسيق مع فريق الخبراء والجانب الليبي، وممارسة الضغط على الأطراف الليبية للالتزام بالحظر، وتشكيل لجنة دولية من الدول الأطراف في مؤتمر برلين + الأمم المتحدة لمراقبة الحدود البحرية والجوية والبرية.
ودعت البعثة الأممية عبر مقترحها إلى دعم المؤسسات القضائية لمراجعة وفحص السجناء وتعزيز الإجراءات القانونية اللازمة، واتخاذ خطوات ملموسة لإنهاء الاحتجاز التعسفي للمهاجرين واللاجئين، والإغلاق التدريجي لمراكز الاحتجاز وإنشاء بدائل. ودعم عملية توثيق انتهاكات القانون الدولي الإنساني والإبلاغ عنها ومحاسبة مرتكبيها، ودعم إنشاء لجنة تحقيق دولية تابعة للأمم المتحدة من خلال جلسة مجلس حقوق الإنسان التي ستنعقد في مارس2020، وإنشاء محكمة خاصة لمكافحة الإفلات من العقاب على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والجرائم الخطيرة المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
فُرص وإشكاليات التطبيق
ومما سبق، فقد اعتمدت خطة البعثة الأممية لمؤتمر برلين مسار سياسي يحظى بدعم البرلمان الليبي بقدر كبير، إلا أن تحفظات المجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي ستكون حاضرة وبقوة بشكل عام، لاسيما مع إدراك “فائز السراج” أن وجوده لن يكون قائمًا بالترتيبات القادمة، فضلاً عن تخوفات كافة الأطراف من وقوع سلطة القيادة العامة للقوات المسلحة في يد الآخر. ومن المحتمل أن تثير ضوابط نيل ثقة البرلمان للحكومة المقترح تشكيلها إشكالية أخرى؛ حيث تتضمن خطة البعثة الأممية أن تقدم الحكومة تشكيلها للبرلمان مرة واحدة، ويتم التصويت عليها بأغلبية ثلثي الأصوات وفي حالة فشل البرلمان في ذلك يتم اعتمادها تلقائيًا، وهو ما قد يكون مقوضًا لدعائم الاستقرار وإعادة لسيناريو حكومة الوفاق من جديد.
وبهذا المسار الاقتصادي المقترح، تصبح هناك إجراءات لإعادة هيكلة القطاع المصرفي الليبي، وتطبيق نموذج رقابي على أعضاء الجهاز المصرفي، ما يحقق شفافية بالإجراءات والتزام بضوابط القانون. ويبقى أن تحييد إدارة تلك المؤسسات يمهد لكشف ملابسات الأعوام السابقة كالتمويل والثروات التي جرى توجيهها لدعم المليشيات، أو تلك التي جرى السطو عليها بصورة غير قانونية. وبالتالي ستكون تلك الإجراءات الاقتصادية مستهدفةً بالإحباط من طرف المستفيدين من السيطرة غير المنتظمة على القطاع المصرفي وقطاع النفطي، وسيركزون جهودهم على تقويض تلك الخطوات الرقابية، أو العمل على تهميشها وإضعاف دورها.
ويبدو بشكل عام، أن خطة البعثة الأممية الى ليبيا ستنال تأييدًا من جانب البرلمان الليبي، وكذلك كافة الأطراف الدولية الداعمة لمسار الحل السياسي ووقف العمليات العسكرية، وإن جاءت متحفظةً في مواقفها من بعض تلك البنود. ويُرجح أن تكون “الخطة” محل رفض -صريح أو ضمني- من الدول الداعمة للقوى التي تستثمر في الحرب الدائرة، وتتحصل عبر الصراع الليبي على مكاسب عبر دعم المليشيات وإدارة تحركات المقاتلين العابرين للحدود. وبالتالي ستسعى تلك القوى الى عرقلة سير المؤتمر حتى تضمن بقاء رموزها بالسلطة أو الذهاب بالمؤتمر الى حالة من اللاجدوى.
ومجمل القول، فإن الطرح الذي تقدمه البعثة الأممية يحوي فيما بين سطوره الكثير من الفرص والاشكاليات، والتي قد تثير حالة من التراجع خلال جلسات الحوار بما يجعل مخرجات المؤتمر -حال نجاحه- غير محققة لطموحات الليبيين في إنهاء جولات الصراع المتجددة منذ 2011. ولكن يظل مؤتمر برلين وحتميات عقدة بوابة عبور هامة للدولة الليبية، وتحقيق الاستقرار وبناء مؤسسات قادرة على إدارة المشهد، والترتيب لمرحلة انتقالية جديدة تتضمن اجراء انتخابات ووضع دستور يحدد ملامح الدولة الليبية بعد آتون الصراع المتأجج. ولذلك يجب استثمار التوافق الدولي على إيجاد حل للازمة يضمن تحقيق تقدم ملموس، ووقف التدخلات الخارجية التي تدفع ليبيا نحو مزيد من الحرب والانقسام.