
دلالات ونتائج زيارة”أردوغان” لقطر ..تعميق لمصالح “العثمانيين الجدد” على حساب “العرب”
تأتي الزيارة “الـ26 خلال 60 شهرا” التي قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووفده الحكومي الكبير إلى العاصمة القطرية الدوحة، بداية لفصل جديد من فصول العلاقة بين البلدين، وهي علاقة بعيدة كل البعد عن الندية، وتبدو أقرب الى العلاقة بين بلد ضعيف وصغير ونظام لرئيس يرى في نفسه “قوة إقليمية كبيرة”.
خلال هذه الزيارة جرت وقائع الاجتماع الخامس للجنة الاستراتيجية العليا بين البلدين، وقد أُسست هذه اللجنة عام 2014، واستضافت العاصمة القطرية أولى اجتماعاتها في ديسمبر 2015.
الوفد الذي صاحب الرئيس التركي كان كبيرا وضم عدد كبير من الوزراء في مختلف المجالات، وإن كان الجانب الاقتصادي هو الأبرز في هذا الوفد.
أهمية هذه الزيارة أنها تأتي في ظل مرحلة شابت فيها العلاقات المشتركة بين البلدين بعض بوادر الفتور، عقب تراشق إعلامي مكتوم بينهما على خلفية تغطية النسخة الإنجليزية من قناة “الجزيرة” القطرية للعملية العسكرية التركية في شمال شرق سوريا، والمسماة “نبع السلام”، والتي رأت الصحف التركية وعلى رأسها صحيفة “صباح” اليومية إنها كانت تغطية منحازة وقد تتسبب في أضرار بالعلاقات المشتركة بين البلدين على المدى الطويل، كما أن عودة بعض وسائل الإعلام للحديث عن محاولات كويتية لإحداث “مصالحة” بين دول الخليج ومصر من جهة وقطر من جهة أخرى، جعلت لهذه الزيارة قيمة مضافة، حيث تحاول تركيا وقطر التأكيد على مواقفهما الحالية وعلى تحالفهما الاستراتيجي، الذي فيه تحولت قطر إلى مستثمر في الاقتصاد التركي، وتحولت تركيا إلى “قوة حماية” تتمركز في الأراضي القطرية، وتعتزم فتح قاعدة عسكرية جديدة هناك.
ضم الوفد التركي بالإضافة الى أردوغان كل من وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، ووزير الدفاع خلوصي آقار، وزير الصناعة مصطفى فارانك، وزير البيئة مراد كروم، وزيرة التجارة أوهسار باكجان، وزير الخزانة والمالية بيرات البيرق، وزير الشباب والرياضة محمد كاسب أوغلو. يضاف اليهم كل من مدير المخابرات هاكان فيدان، ومدير معهد المعايير الصناعية آدم شاهين، ومحافظ البنك المركزي مراد أويصال، وعدد من كبار موظفي الرئاسة التركية منهم رئيس مكتب التمويل جوكسل شاهين، ورئيس مكتب الاستثمار آردا إرموت، ورئيس مكتب الإتصالات فخر الدين ألتون، والمتحدث بإسم الرئاسة إبراهيم كالين.
الإقتصاد أولاً
خلال الاجتماعات الأربع السابقة لهذه اللجنة، تم إبرام ما يقرب من 40 اتفاقية بين الجانبين، ونص البيان المشترك للاجتماع الخامس بين الجانبين على توقيع سبع مذكرات تفاهم، جميعها تتعلق بالشأن المالي والإقتصادي وهي:
1- مذكرة تتعلق بتعديلات تم التوافق عليها بين الجانبين على اتفاقية تم توقيعها سابقاً بخصوص تنظيم تبادل العملات الوطنية بين البنوك المركزية لكلا الدولتين بقيمة ثلاثة مليارات دولار، وهي اتفاقية وقعها الجانبين بمبادرة من قطر في أغسطس 2018، كجزء من الإسهام القطري في محاصرة آثار الأزمة التي تعرضت لها حينها الليرة التركية، وأدت الى انخفاض حاد في قيمتها أمام العملات الأجنبية.
2. مذكرة تنظم بنود التعاون الصناعي والتكنولوجي بين حكومتي البلدين، خاصة في ما يتعلق بإنتاج وتصنيع المواد الغذائية.
3. مذكرة تفاهم بين هيئة مركز قطر للمال ومكتب التمويل التابع لرئاسة الجمهورية التركية.
4. مذكرة تفاهم بين وكالة ترويج الاستثمار في دولة قطر “التي تم تشكيلها في شهر يوليو الماضي” ومكتب الاستثمار التابع لرئاسة الجمهورية التركية.
5. مذكرة تفاهم للتعاون في مجال التخطيط المدني بين حكومتي البلدين.
6. إعلان نوايا مشترك بشأن إنشاء مختبرات لقياس الجودة وحماية المستهلك بين الهيئة العامة للمواصفات والتقييس التابعة لوزارة البلدية والبيئة القطرية والمعهد التركي للمواصفات.
7. مذكرة تفاهم للتعاون في مجال الفحص ومعايير الجودة بين هيئة الأشغال العامة القطرية ومعهد المعايير التركي.
التعاون الاقتصادي بين البلدين يتصاعد بشكل مطرد منذ مطلع عام 2015، فحسب تصريحات صحفية للسفير التركي في الدوحة لوكالة الأناضول التركية، فإن التبادل التجاري بين البلدين وصل الى نحو 2.4 مليار دولار بنهاية العام الماضي، تتضمن صادرات تركية لقطر بقيمة تتجاوز مليار وثلاثمائة مليون دولار. كما ارتفعت الصادرات التركية إلى قطر منذ أوائل العام الجاري وحتى شهر سبتمبر الماضي بنسبة ثمانية بالمائة، حيث بلغت قيمتها 838 مليون دولار، في المقابل بلغت الصادرات القطرية الى تركيا عام 2018 1.53 مليار دولار، ومنذ أوائل العام الجاري وحتى شهر سبتمبر الماضي بلغت هذه الصادرات 209 مليون دولار فقط.
قطر ترى تركيا كبوابة اقتصادية أساسية في ظل مقاطعة معظم دول الخليج بالإضافة الى مصر لها، حيث تكفلت أنقرة بمهمة تعويض النقص في المواد الغذائية بالأسواق القطرية من خلال جسر جوي وبحري مستمر منذ عام 2015 وحتى الآن. كما توسعت الشركات التركية في السوق القطرية، خاصة في قطاع الإنشاء والتعمير، الذي يشمل البنية التحتية ومشاريع الإسكان، باستثمارات تصل إلى 16 مليار دولار، وتشمل هذه الاستثمارات المشاركة التركية في مشاريع تطوير البنية التحتية المتعلقة ببطولة كأس العالم لكرة القدم التي تقام في الدوحة عام 2022. وقد تعدى عدد الشركات المشتركة بين البلدين 200 شركة تعمل في السوق القطرية، تضاف إليها نحو 26 شركة يمتلكها القطاع التركي العام والخاص.
على الجانب الآخر، قامت قطر بالاستثمار في تركيا بشكل مكثف عن طريق قطاعيها العام والخاص، حيث وصلت استثماراتها هناك إلى 23 مليار دولار، وتتركز الاستثمارات القطرية على قطاعات “المصرفي والسياحي والصناعي والعقاري والزراعي”، ومؤخراً على الجانب العسكري. يضاف إلى ذلك تعهد الحكومة القطرية في أغسطس 2018 باستثمار 15 مليار دولار في السوق التركي، وهو ما بدأ فعلياً منتصف العام الجاري، ويستثمر القطريون في قطاع العقارات التركي بصورة متزايدة، ويتوقع أن يتداول القطريون ما يقرب من 1500 عقار تركي خلال العام الجاري. يضاف الى ذلك قطاع السياحة التركي الذي يعد القطريون من أهم رواده.
العلاقات العسكرية … تطورات غير مفهومة وغير واضحة الأسباب
خلال زيارة الوفد التركي الى الدوحة، تجدد الحديث عن “قاعدة جديدة” للجيش التركي في قطر، وهي في الواقع ليست سوى خطوة “دعائية” تختلف تماماً عن الواقع، وليس لها أي أهمية استراتيجية او سبب واضح. ففي شهر أغسطس الماضي، تحدثت الصحافة التركية عن اعتزام القيادة التركية افتتاح قاعدة جديدة في قطر الخريف المقبل، تضاف الى قاعدة “الريان” القائمة حالياً في الدوحة، والتي تم إصدار قرار بنائها بموجب اتفاق للتعاون العسكري تم توقيعه بين الجانبين في أبريل 2014، ضمن خارطة طريق تنتهي نهاية العام الجاري. دشنت تركيا جنوبي العاصمة الدوحة قاعدة “الريان/طارق بن زياد” عام 2016، التي بلغت تكلفتها نحو 39 مليون دولار، على اساس ان تكون قاعدة للتدريبات المشتركة بين الجانبين، تتسع هذه القاعدة الى ما بين 3000 الى 5000 جندي. قبل هذا الاتفاق وقع الجانبين أعوام 2002 و2007 و2012 اتفاقيات مماثلة للتعاون العسكري.
بدء وصول الوحدات التركية الى القاعدة الجديدة على دفعات بداية من أكتوبر 2015، ليصل عدد القوات التركية المتواجدة حالياً في هذه القاعدة الى 2870 جندي، بواقع 1500 جندي مشاة و272 من عناصر القوات الجوية و228 من القوات البحرية و760 من وحدات الدعم المتخصصة، بالإضافة الى 108 ضابط في القيادة المشتركة بين الجانبين، والتي تم تشكيلها في ديسمبر 2017. جدير بالذكر هنا أن الجانبين وقعا عامي 2016 و2018 اتفاقيات عسكرية أخرى لم يتم الإعلان عن بنودها، لكن اتفاقية عام 2016 كانت تتعلق بإمكانية تنفيذ عمليات خارجية تركية انطلاقا من الأراضي القطرية.
بشكل عام، يشوب كافة هذه الاتفاقيات بين الجانبين الغموض، خاصة وأن المواد المعلنة من بنودها لا تبرر بشكل واضح الأسباب الموضوعية لنشر مثل هذه القوات في بلد صغير مثل قطر. كما أن الغرض الأساسي المعلن في البداية من نشر هذه القوات هو التدريب والتعاون العسكري، لكن في مطلع العام الماضي فوجئ المراقبون بتصريحات للسفير التركي في الدوحة يؤكد فيها انه قريباً ستتمركز بشكل دائم وحدات بحرية وجوية تركية في قطر، وتبع هذا في مارس من نفس العام توقيع بروتوكول بين الجانبين يسمح بإنشاء قاعدة بحرية تركية في قطر.
بناء على ما سبق، وحديث الصحافة والقيادة في تركيا عن قاعدة تركية جديدة في قطر، سنصل الى خلاصة مفادها أن جل ما يحدث هذا الشهر هو توسيع للقاعدة الموجودة منذ عام 2015، وزيادة في التسليح التركي الموجود على الأراضي القطرية، والذي اقتصر في ما مضى على مدفعية ذاتية الحركة من عيار 155 ملم وعربات مدرعة. وهنا لابد من الإشارة الى ان الجانب الاقتصادي يتداخل أيضاً في العلاقات العسكرية بين الجانبين، فبالإضافة إلى شراء قطر للمنظومات القتالية والطائرات دون طيار التركية الصنع، منحت تركيا قطر حقوق تشغيل وإدارة أحد مصانع الدبابات التركية لمدة 22 عام مقبلة، وتلق الجيش القطري منذ أشهر دفعات من العربات المدرعة التي تنتجها شركة “بي أم سي” التي يمتلكها البلدين مناصفة فيما بينهما.
ما بين التابع والمتبوع
تسير العلاقات بين الجانبين بوتيرة تستفيد فيها تركيا استفادة أكبر بمراحل من الاستفادة القطرية، فقطر التي تريد مورد غذائي وصناعي لها، وجيشاً يوفر لها حماية من تهديدات عسكرية محتملة، تلعب هنا دور الحاضن والممول، في حين أن الجانب التركي ينظر إلى هذه العلاقة من وجهة نظر استراتيجية بحتة يتخللها ايضاً جانب اقتصادي مهم، تركيا تريد موطئ قدم لها على أعتاب الخليج تستفيد منه اقتصادياً أولا وأخيراً “في الحالة القطرية”، ويضاف الى سلسلة من القواعد التركية الخارجية، ما بين قاعدتها الأكبر في الخارج جنوبي العاصمة الصومالية مقديشو، والتي تم تدشينها في أكتوبر 2017، بتكلفة بلغت 50 مليون دولار، وعلى مساحة تبلغ 4 كيلو متر مربع، وتواجدها العسكري المكثف في شمالي العراق وسوريا، وفي قبرص التركية، ومباحثاتها حول إنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي. لكن إذا ما قارنا قطر بكل هذه الدول السابق ذكرها، سنجدها تأتي في المرتبة الأخيرة على مستوى الأهمية الاستراتيجية، وتكاد تمثل بالنسبة لتركيا فقط “كومة دولارات هائلة”، يستزيد منها النظام التركي مستغلاً في ذلك الظرف الإقليمي والخليجي، والرهانات الخاطئة لنظام الدوحة في ما يتعلق بالسياسة الداخلية والخارجية، ولا مشكلة لدى الأتراك في زيادة عدد ونوعية قواتهم وأسلحتهم في الدوحة، طالما ظلت خزائن النظام القطري مفتوحة، توفر نفقات الإعاشة للوحدات التركية المرابطة على الأراضي القطرية، وطالما ظل القطري وراء التركي على طول الخط، حتى في سياسة أروغان تجاه مصر وليبيا والخليج، وتجاه سوريا، التي مول القطري العملية العسكرية العدوانية ضدها، وأعلن عن توافقه مع تركيا على خطة التغيير الديموغرافي للتشكيلة السكانية شمالي شرق سوريا، والتي من خلالها ستقوم تركيا بتوطين ألاف اللاجئين السوريين في مناطق تختلف عن مناطق تواجدهم الأصلية.
باحث أول بالمرصد المصري