
رسخت مصر بخطى واثقة تحركات سياستها الخارجية وشراكاتها لتعزيز علاقاتها مع كافة ربوع العالم. وفي هذا السياق، شهدت العلاقات المصرية الأوروبية تطوراً ملحوظاً على المستويات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والتي تستند إلى تاريخ طويل من العلاقات والتعاون والمصالح المشتركة، يمتد لعقود من زخم الشراكة الاستراتيجية المشتركة، خاصة أن الاتحاد الأوروبي يعد أحد الداعمين الرئيسيين لمصر إقليميًا ودوليًا، باعتبارها ركيزة أساسية للاستقرار في الشرق الأوسط وإفريقيا، فالعلاقة بين الجانبين ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للطرفين.
وشهدت العلاقات المصرية الأوروبية دفعة قوية على مدار السنوات الأخيرة، على المستويين الثنائي أو متعدد الأطراف، من خلال الزيارات المتبادلة على المستوى الرئاسي أو رؤساء الوزراء، أو الوزاري لعدد من دول القارة الأوروبية، والتي شهدت تعزيز آليات التعاون والشراكة متعددة الأطراف بين مصر وأوروبا مثل دعم العلاقات مع دول فيشجراد، والتعاون الثلاثي مع قبرص واليونان. وعززت الحرب الغاشمة الواقعة بقطاع غزة من أواصر الصلة والتشاور المستمر بين الجانبين، حيال تطورات الأوضاع بالقطاع، من قبل كبار مسئولي الاتحاد والمفوضية الأوروبية وقادة البلدان الأوروبية، باعتبار مصر المنفذ الرئيسي لإنفاذ المساعدات الإنسانية إلى داخل القطاع. وسبق أن ثمنت رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي، وعدد من رؤساء وقادة عدة دول، الدور المصري في ضمانة إرسال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة عبر معبر رفح.
ويأتي ذلك في ضوء العلاقات المتشعبة بين مصر والاتحاد الأوروبي، بالإضافة لكون الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري واستثماري لمصر، وباعتبار الاتحاد شريك رئيس في عملية التحديث التي تشهدها مختلف القطاعات التنموية في مصر. فسبق أن أكد سفير الاتحاد الأوروبي بالقاهرة كريستيان برجر، أن التنمية الاقتصادية المستدامة لمصر أمر بالغ الأهمية بالنسبة للاتحاد الأوروبي. وتتعدد أطر التعاون وتوافق الرؤى السياسية والقضايا المشتركة، ومن أهمها الأمن والسلم والأمن الطاقي على جانبي المتوسط وشمال الصحراء الإفريقية، وكذلك قضايا مكافحة الهجرة غير الشرعية ومقاومة الجريمة والإرهاب، والإرهاب العابر للحدود.
مصالح مشتركة
وخلال الآونة الأخيرة، تضاعفت زيارات واتصالات قيادات الدول الأوروبية للتباحث حول الأوضاع في المنطقة وتحديدًا الحرب في قطاع غزة، والأزمة الإنسانية بالسودان، ويشكل استمرار تصاعد الأزمات بالمنطقة خطر جاسم على المنطقة بل والعالم أجمع. إذ دأب الاتحاد الأوروبي على تسريع وتيرة الترابط وتعميق العلاقات مع مصر، من أجل دفع الجهود لدعم التنمية الاقتصادية في مصر وتخفيف تأثير الأزمة الجارية؛ وذلك نظرا للأهمية الاستراتيجية للقاهرة، والمخاوف بشأن زيادة تدفقات اللاجئين، بما في ذلك من الدول الإفريقية مثل السودان.
ووفقًا لوكالة بلومبرج الامريكية، وصحيفة فاينانشال تايمز، فالاتحاد الأوروبي بصدد تجهيز خطة تتضمن عدة أولويات أهمها الاقتصاد، والاستثمار، والهجرة، والأمن، تهدف إلى دعم الاقتصاد المصري وسط مخاوف من أن يؤدي الصراع في غزة والسودان إلى تفاقم المشاكل المالية في البلاد. ووفقًا لتقديرات فالاتحاد الأوروبي يعد حزمة بقيمة 7.4 مليار يورو (ما يعادل 8.08 مليار دولار). في شكل منح وقروض حتى نهاية عام 2027، ويمكن دفع نحو مليار يورو من المساعدات المالية الطارئة فوراً. كما تشمل الحزمة 4 مليارات يورو مرتبطة بالإصلاحات في إطار البرنامج الموقع مع صندوق النقد الدولي الموسع قيد المناقشة، وبحاجة إلى موافقة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
حيث يزور وفد أوروبي رفيع المستوى يضم كلًا من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين ورئيس وزراء بلجيكا ألكسندر دي كروو ورئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس ومستشار النمسا كارل نيهامر ورئيس قبرص نيكوس خريستودوليدس ورئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، القاهرة الأحد، برفقة رؤساء وزراء اليونان وإيطاليا وبلجيكا، لاستكمال المحادثات والإعلان عن اتفاقية رسمية، ترنو إلى ضخ استثمارات- في الدولة الأكبر اقتصادا والأكثر كثافة سكانية في شمال أفريقيا- في قطاعات مثل المبادرات الرقمية والطاقة والزراعة والنقل، كما تستهدف الحد من الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا من خلال مساعدة مصر في إدارة الحدود، وإجراءات مكافحة التهريب، والعودة الطوعية، والمساعدة في تحصين حدود مصر مع ليبيا، حيث يعبر الناس البحر الأبيض المتوسط في طريقهم إلى أوروبا.
فالاتحاد الأوروبي أكد مرارًا على أن مصر شريك حيوي ورئيسي للاتحاد ولها دور حاسم في تحقيق الأمن والاستقرار للمنطقة في الظروف الصعبة، كما أن الفرص الاستثمارية بها واعدة.
تعاون ممتد

تربط مصر والقارة العجوز علاقات تاريخية تمتد لعشرات العقود، وخلال السنوات القليلة الماضية بذلت الخارجية المصرية جهودًا حثيثة لدفع العلاقات للأمام، فتم تنظيم عدد من اللقاءات الرئاسية والوزارية، ومن أهمها استضافة قمة بين أعضاء الجامعة العربية وأعضاء الاتحاد الأوروبي في مدينة شرم الشيخ، وتحديدا في 24 فبراير من العام 2019. وفي عام 2021، التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، مفوض الاتحاد الأوروبي لسياسية الجوار أوليفر فارهيلي، كما اجتمع مع شار ميشال، رئيس المجلس الأوروبي في العاصمة الفرنسية، وتحديدا في شهر نوفمبر عام 2021. وفي الخامس عشر من شهر نوفمبر 2021 أعلن وزير الخارجية سامح شكري إطلاق “الجولة الثالثة للحوار بين مصر والاتحاد الأوروبي”.
وعلى المستوى الاقتصادي، فإن مصر والاتحاد الأوروبي تربطهما علاقات قوية في هذا الملف، وفي تصريحات صحفية لـسفير الاتحاد الأوروبي بالقاهرة “كريستيان برجر”، فإن حجم الدعم الأوروبي لمصر وصل إلى 11 مليار يورو حتى 2021، بينما وصلت التزامات الاتحاد نحو مصر في شكل منح إلى 1.3 مليار يورو. وقد مول الاتحاد الأوروبي مشروعات في مصر بقمية 500 ميلون يورو في الفترة ما بين 2017ـ 2021.
إلى ذلك،يعد الاتحاد الأوروبي، أهم شريك تجاري لمصر، ويمثل حوالي 25% من إجمالي حجم التبادل التجاري مع مصر، وتضاعفت التجارة الثنائية في السلع 3 مرات تقريبا منذ دخول اتفاقية التجارة الحرة حيز النفاذ، ونمت من 8.6 مليار يورو في عام 2003 “السنة التي سبقت دخول اتفاقية الشراكة حيز التنفيذ” إلى 24.5 مليار يورو في عام 2020، وتصدر مصر في الغالب إلى الاتحاد الأوروبي الوقود والمنتجات التعدينية والكيماويات والمنتجات الزراعية.
ويعتبر الاتحاد الأوروبي، أيضا المستثمر الرائد في مصر، ويبلغ رصيد الاستثمار المتراكم حوالي 38.8 مليار يورو تمثل حوالي 39% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر، وتظل مصر ثاني أكبر متلقٍ للاستثمار الأجنبي المباشر من الاتحاد الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
فإن الاتحاد الأوروبي ـ وفق البيانات الرسمية ـ هو أكبر الشركاء التجاريين لمصر، وفي 2022 وصل قرابة 24 % من حجم التجارة المصرية، وقد وصل حجم التبادل التجاري بين الطرفين إلى 24 مليار يورو في 2020، وارتفعت واردات الاتحاد من مصر إلى 6.4 مليار يورو. ووفق البيانات المنشورة عبر موقع الاتحاد الأوروبي الرسمي، فإن صادرت الاتحاد إلى مصر سجلت 18.1 مليار يورو حتى 2020.
إلى ذلك، تم تدشين “وثيقة أولويات المشاركةالمصرية الأوروبية (2021 – 2027)” والتي تحدد مسارات التعاون بين الجانبين، والموقعة بين الطرفين، ونصت على مواصلة التعاون للعمل على حل التحديات السياسية والاقتصادية في المنطقة، والقارة الإفريقية. كما أكدت على ضرورة تنفيذ المبادرات الأساسية المتعلقة بالخطة الاستثمارية، لأجندة منطقة البحر المتوسط الجديدة، مع تعزيز التعاون لتحقيق التعافي الاقتصادي طويل الأجل، والتنمية المستدامة، في أعقاب الأزمات العالمية المتلاحقة بعد فيروس كورونا. واستمرار العمل معا في التصدي للهجرة غير الشرعية، بالإضافة إلى دعم الجهود المصرية في تحديث استراتيجية مصر للطاقة، والتي تسعى في النهاية لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
مجالات التعاون
التحديات المشتركة التي تواجه الطرفين على ضفتي المتوسط، وكذلك التداعيات السلبية التي خلفتها الأزمات الدولية المتتالية خلال الفترة الأخيرة على الاقتصاد الدولي بشكلٍ عام، لا سيما في مجالي الطاقة والأمن الغذائي، وأخيرًا أزمتي غزة والسودان وسط مخاوف أوروبية من تصاعد موجات الهجرة غير الشرعية، كانت سبيلا لتعزيز علاقات التعاون المشترك بين الطرفين.
وكان من أبرز قطاعات التعاون قطاع الطاقة بشكل عام، والغاز الطبيعي المسال بشكل خاص، وذلك في إطار الموارد الغنية والبنية التحتية المتميزة التي تتمتع بها مصر في هذا الإطار ومحطتي تسييل الغاز الطبيعي في إدكو ودمياط، فضلاً عن التعاون في قطاع الطاقة النظيفة والمتجددة لاستغلال ما تمتلكه مصر من موارد، لا سيما الطاقة الشمسية والرياح.
وسبق أن تم توقيع مذكرة تفاهم ثلاثية بشأن التعاون في مجال “تجارة ونقل وتصدير الغاز الطبيعي بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي”، تحت مظلة منتدى غاز شرق المتوسط، يونيو 2022، في وقت بدأت فيه روسيا بالفعل ما يسمى “حرب الغاز” ضد أوروبا وأعلنت تقليص إمدادات الغاز لألمانيا بنسبة 40 بالمئة، لتضخ 100 مليون متر مكعب يوميا بدلا من 160 مليون متر مكعب عبر خط أنابيب نورد ستريم، حينها.
ومن المرجح أن تقيم مصر مؤتمر الاستثمار الدولي في مايو 2024، وسيكون هدفه هو ترسيخ المبادلات التجارية من أجل تعزيز بيئة الأعمال بشكل عام وتشجيع الاستثمارات الأوروبية العامة والخاصة للاستفادة من إمكانيات الاستثمار المتاحة في مصر، ويشمل ذلك الامتيازات التي تمنحها قناة السويس بوصفها أهم طريق تجاري وبحري يربط الشرق بالغرب، والذي سيؤدي في النهاية إلى تعزيز دور مصر في سلاسل إمدادات الاتحاد الأوروبي.
أخيرا، تُعتبر مصر شريكاً مهماً للاتحاد الأوروبي في إيجاد حلول لمواجهة عدد من التحديات الاستراتيجية، التي تتخطَّى الحدود القومية إلى المنطقة الأورو-متوسطية – بما في ذلك السيطرة على الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط، ومكافحة الإرهاب، والسعي لحل الصراعات الكبرى التي دمرت دولاً بعينها في الشرق الأوسط مثل السودان وفلسطين وليبيا وسوريا واليمن، إلى جانب مواطن التعاون الاقتصادي المشترك خاصة بمجالات الأمن الطاقي وذلك في ضوء المقومات المصرية التي تتمتع بها مصر في هذا الإطار. فرغم التحديات المشتركة بين الطرفين إلا أن أفق التعاون والتكامل بين الطرفين مازالت تتسع لمزيد من المجالات ذات الاهتمام المشترك.
باحث أول بالمرصد المصري