أوروبا

 القوة الأوروبية “أسبيدس ” وأمن البحر الأحمر.. دوافع ورسائل وتحديات محتملة

في التاسع عشر من فبراير 2024، أطلق الاتحاد الأوروبي القوة البحرية للاتحاد “Aspides” للمساعدة في حماية سفن الشحن في البحر الأحمر، في ظل استمرار ضربات جماعة “أنصار الله” (الحوثيين) في اليمن عبر استهداف سفن الشحن المارة عبر البحر الأحمر، والتي ردت عليها الولايات المتحدة وبريطانيا بتوجيه ضربات عسكرية متكررة تحت مظلة عملية “حارس الازدهار” لمواقع تمركز جماعة الحوثي بهدف تدمير بنيتها التحتية العسكرية وتقويض قدراتها على شن هذه الضربات التي تهدد سلامة وأمن حركة الملاحة الدولية، وسلاسل الإمداد العالمية، وهو ما دفع المجتمع الدولي عبر تكتلاته الإقليمية- بما في ذلك الاتحاد الأوروبي- للتباحث بشأن سُبل الحد من هذا التهديد الخطير، الذي بطبيعته يُؤثر على الاقتصاد العالمي، وهو ما يدفع للتساؤل حول:  دوافع ورسائل تشكيل القوة البحرية الأوروبية  Aspidesوما تواجهه من تحديات؟  

أولًا: عملية أسبيدس وأمن البحر الأحمر.. ما الجديد؟

عقب مباحثات جادة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشأن سُبل استعادة أمن واستقرار ممر البحر الأحمر، وحماية حركة التجارة الدولية المارة عبره، ورفع التهديدات الواقعة على سلاسل الإمداد العالمية، أعلن الاتحاد الأوروبي عن إطلاق القوة البحرية للاتحاد الأوروبي “Aspides” – وهي كلمة يونانية تعني “الدرع”- من قلب مدينة لاريسا في وسط اليونان، حيث موطن القوات الجوية اليونانية ومقر حلف شمال الأطلسي، تحت قيادة العميد البحري اليوناني “فاسيليوس جريباريس”، بينما ستوفر إيطاليا قائد القوة، وستوفر فرنسا نائبًا لقائد القوة. وستتضمن المهمة البحرية ثلاث سفن حربية أوروبية كبداية تعمل تحت قيادة الاتحاد الأوروبي. وأنظمة إنذار مبكر محمولة جوًا إلى البحر الأحمر وخليج عدن والمياه المحيطة، كما ستضم على الأقل  نحو أربع فرقاطات وستعمل بكامل طاقتها خلال “أسابيع قليلة”. 

وأعلنت ألمانيا عن مساهمتها في العملية الأوروبية بفرقاطة هيسن (F 221) الُمجهزة برادارات تمكنها من اكتشاف الأهداف على مسافة تصل إلى 400 كيلومتر (248 ميلًا)، وتمتلك صواريخ لإسقاط أهداف مثل الصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار على مدى يزيد عن 160 كيلومترًا، والتي غادرت ميناء فيلهلمسهافن متجهة إلى البحر الأحمر، والتي لا يزال يرتهن مشاركتها  في المهمة على تفويض من الاتحاد الأوروبي وموافقة برلمانية وطنية متوقعة في نهاية فبراير. كما ستُساهم  بلجيكا بفرقاطة، بينما أعلنت فرنسا وإيطاليا وبلجيكا عن تخطيطها للمساهمة بسفن.

علاوة على ذلك، قال وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني إن رومانيا وألبانيا، المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، أعربتا عن اهتمامهما بالانضمام إلى البعثة، بينما تدعو روما إلى إتاحة الفرصة للدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وغير الأعضاء في الناتو للانضمام إلى المهمة.

مهمة دفاعية بحتة لا تهدف لشن هجوم استباقي 

أوضح الاتحاد الأوروبي في بيانه الذي أعلن من خلاله موافقة وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي على إطلاق عملية Aspides، أن العملية تأتي في إطار  تفويضها الدفاعي، من أجل توفير الوعي بالوضع البحري ومراقبة السفن البحرية وحمايتها من هجمات محتملة متعددة، مع التأكيد على أن العملية البحرية أسبيدس لن تُشارك في أي ضربات عسكرية وستعمل فقط في البحر. 

وأشارت وزيرة الخارجية الألمانية “أنالينا بيربوك” أنه “ليست السفن الأوروبية فقط هي التي تتعرض للخطر بشكل متكرر بسبب صواريخ الحوثيين في البحر الأحمر، ولكن صناعة الشحن الدولية بأكملها”، مُضيفةً أنه بصرف النظر عن حماية السفن الأوروبية، فإن المهمة “توضح أننا كمجتمع دولي نقف معًا في مواجهة الهجمات الإرهابية على حرية الممرات البحرية”.

خريطة (1): الهجمات الحوثية على السفن المارة عبر البحر الأحمر

كما سبق أن أوضحت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، أن مهمة الاتحاد الأوروبي لحماية السفن التجارية من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر ستكون “دفاعية بحتة” ولن تقوم “بأي نوع من الهجوم”، وأن أسبيدس ستتلقى أوامر بإطلاق النار على الحوثيين فقط إذا هاجموا أولا ولن يُسمح لها بإطلاق النار بشكل استباقي. كما أوضحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن قرار نشر عملية أسبيدس يأتي”جنبًا إلى جنب مع شركائنا الدوليين”.

ثانيًا: دوافع ورسائل الإعلان عن تشكيل عملية أسبيدس الأوروبية

تتعدد الدوافع التي تقف وراء إطلاق القوة البحرية الأوروبية “أسبيدس”، ناهيك عما يحمله بيان الإعلان عن التشكيل من رسائل، أبرزها التالي: 

1- فك الارتباط بين عملية اسبيدس الأوروبية  وعملية حارس الازدهار  الأمريكية 

حرص الاتحاد  الأوروبي خلال إعلانه عن تشكيل عملية أسبيدس لحماية حركة التجارة الدولية على البعث برسالة واضحة ومهمة لجماعة الحوثيين، ولواشنطن وحلفائها في عملية حارس الازدهار مفاداها، ضرورة التمييز بين عملية أسبيدس الأوروبية، وعملية حارس الازدهار، وأن أسبيدس لا تهدف لتوجيه ضربات للحوثيين أو أي ضربات استباقية، على غرار الضربات الأمريكية والبريطانية، وإنما تهدف لحماية حركة التجارة الدولية وحركة الملاحة الدولية، مع التأكيد على أن هدف العملية “دفاعي بحت”، وهو ما يكشف في مجملة عن اختلاف الرؤى حول الاستراتيجية الأمريكية للتعامل مع تطورات الوضع في البحر الأحمر، إلى جانب حرص الكتلة الأوروبية على تجنب الضغط الأمريكي من المشاركة في حرس الازدهار، عبر تقديم نموذجها واستراتيجيتها للتعامل مع التصعيد في البحر الأحمر من خلال عملية أسبيدس الأوروبية.

فمن الجدير بالذكر، أن دول الاتحاد الأوروبي كانت مترددة عقب إعلان واشنطن إطلاق عملية “حارس الازدهار”، والدعوة للانضمام لها؛ فبعدما حصلت العملية على دعم 6 دول أوروبيين، نأت ثلاث منها بنفسها عن المهمة كفرنسا وإيطاليا، وذلك لعدة أسباب من بينها؛ تجنب الضربات الحوثية للسفن التابعة للدول التي ستعلن مشاركتها، ولعدم تصعيد الوضع الأمني في البحر الأحمر، واتساع رقعته في المنطقة، بينما دعمت دولتان أوروبيتان (الدنمارك وهولندا) الضربات الأمريكية والبريطانية. ومع شن واشنطن ولندن ضرباتهما ضد مواقع وتمركزات حوثية، نأت الكتلة الأوروبية بنفسها عن هذه الضربات، في ظل تأكيد دبلوماسي كبير في الاتحاد الأوروبي على أن أسبايدس”لن تقوم بتحييد تهديد على الأرض بشكل هجومي” وأن “قواعد العمل هي الدفاع عن النفس بشكل صارم”.

كما تبعث عملية أسبيدس الأوروبية برسالة إلى المجتمع الدولي مفاداها بأن مواجهة التصعيد في البحر الأحمر، تتطلب حضورًا دوليًا طويل الأمد عبر استراتيجية محددة تتجاوز أية خلافات ممكنة أو محتملة من أجل ضمان إعادة الأمن وحرية الملاحة في البحر الأحمر، في ظل غياب إشارات لفك تعقيدات الوضع في غزة والتوصل لصفقة نهائية لوقف إطلاق النار وتحرير المحتجزين الإسرائيليين.

2- تضرر الاقتصاد الأوروبي من أزمة الملاحة في البحر الأحمر مع استمرار التصعيد 

فرضت أزمة الملاحة الدولية في البحر الأحمر نفسها على رأس أجندة تحركات دول الاتحاد الأوروبي المُلحة، مع استمرار التصعيد والضربات بين الحوثيين حيث استهداف سفن الشحن من جانب، والضربات الأمريكية والبريطانية للمواقع الحوثية من جانب آخر، لا سيما في ظل تطوير التكتيكات القتالية لجماعة الحوثي التي انعكست في إعلان  القيادة المركزية الأمريكية سنتكوم بأن الحوثيين استخدموا لأول مرة مركبةً مُسيَّرةً تحت الماء في هجماتهم.

وبالتالي، أسفر هذا التصعيد المتبادل عن انخفاض معدل الأمن البحري في هذا الممر، مما دفع سفن الشحن لاختيار مسار رأس الرجاء الصالح كمسار بديل، والذي نجم عنه طول أمد الرحلة وزيادة أوقات تسليم الشحنات بين آسيا والاتحاد الأوروبي بمقدار 10 إلى 15 يومًا، مع ارتفاع تكاليف الشحن، والذي قد ينجم عنه ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا وأسعار السلع الأساسية في الفترة القادمة ما لم يتم توفير تطمينات دفاعية لشركات الشحن، وهو ما حذر منه المفوض الأوروبي للاقتصاد باولو جنتيلوني في يناير 2024؛ انطلاقًا مما يُمثله البحر الأحمر من أهمية جيوستراتيجية تتمثل أحد أبعادها في مرور نحو 12% من إجمالي التجارة العالمية، ونحو 30% من حركة الحاويات العالمية، بالإضافة إلى نحو 40% من التجارة بين آسيا وأوروبا من خلاله، وبالتالي فإن استمرار التصعيد في البحر الأحمر يعني تعطيل التدفقات التجارية، وتهديد سلامة سلاسل الإمدادات إلى أوروبا، مما يفرض على الكتلة الأوروبية سرعة التحرك لاستعادة عنصر الردع في هذا الممر.  

ثالثًا: مستقبل أسبيدس وتحديات محتملة   

على الرغم من تأكيد الكتلة الأوروبية على أن الهدف من تشكيل أسبيدس دفاعي بحت، وأنها لن تُقدم على تنفيذ أية هجمات استباقية ضد الحوثيين، وأن هدفها يتمثل في حماية حركة الملاحة الدولية وحركة السفن، إلا أن أبرز التحديات التي تواجهها عملية أسبيدس تتمثل في أن العديد من السفن التي تُديرها دول أوروبية تعرضت لإطلاق نار على مدار الأشهر الماضية، وأنه من المحتمل أن تتعرض سفن أوروبية لإطلاق نار عقب تشكيل أسبيدس، خاصة عقب تصريح العضو السياسي الأعلى محمد علي الحوثي، قائلًا:” النتائج ستكون عكسية، وستكون هذه الدول ومثيلاتها شريكة لأميركا وبريطانيا في تهديد الملاحة البحرية الدولية والإضرار بها، وستتحمل النتائج معهما، وستكون الكلفة باهظة عليها”، مُضيفًا” نقول لدول الاتحاد الأوروبي إن الحل يكمن في الضغط لإيقاف العدوان وإنهاء الحصار على غزة، فهذا ما ينسجم مع المبادئ والقيم والأخلاق”.

ناهيك عن تحدى آخر في غاية الخطورة، يتمثل في أن هناك دول أوروبية (هولندا ) دعمت بالفعل الضربات الأمريكية والبريطانية المستهدفة جماعة الحوثي، مما قد يُثير القلق بشكل دورها في تورط عملية أسبيدس في التصعيد الدائر بين جماعة الحوثيين وعملية حارس الازدهار، خاصة أنه من المحتمل أن يكون هناك تنسيق عملياتي ولوجيستي بين عملية حارس الازدهار وعملية أسبيدس في الميدان، مما يُعزز من فكرة تورط الأخيرة في دعم حارس الازدهار، أو على أقل اتهامها بالدعم السياسي للضربات الأمريكية البريطانية لمواقع الحوثيين، مما قد ينجم عنه تصعيد الوضع في البحر الأحمر على العكس من المستهدف. ومن ثم، هناك قلق بالغ بشأن سياسة الرد الممكنة للعملية أسبيدس، وهل من الممكن أن تخرج العملية عن هدفها عبر توجيه ضربات ضد جماعة الحوثي، ردًا على استهداف أي من السفن الأوروبية، أم أن الكتلة الأوروبية ستلجأ لسياسة الرد عبر مستويات، آخرها الرد العسكري. 

يُضاف إلى ذلك تحدٍ آخر، يتمثل في اختلاف الرؤى والمواقف الأوروبية بشأن منطلقات ومسببات التصعيد في البحر الأحمر ما بين تيار يربط بين الحرب على غزة والتصعيد في البحر الأحمر، وتيار آخر ذي منظور ضيق يرفض الربط بين الوضع في غزة والتصعيد في البحر الأحمر، ويتبنى رؤية أن الخطر يكمن في جماعة الحوثيين التي تتبنى التصعيد وتُهدد سفنها وحركة الملاحة البحرية، ناهيك عن مخاوف البعض الآخر من تعرضه للاستهداف عقب الموقف الحوثي السالف الإشارة له، مما يكشف عن عدم وجود موقف أوروبي موحد بشأن عملية أسبيدس في ظل غياب معلومة ثابتة بشأن عدد الدول الأوروبية التي ستُشارك في العملية التي أُعلن عنها في عُجالة.

نهاية القول، يبدو أن إعلان الاتحاد الأوروبي عن تشكيل عملية أسبيدس ما هو إلا محاولة أوروبية سريعة لاتخاذ موقف بشأن التصعيد في البحر الأحمر وتهديده لسفن الشحن الأوروبية وسلاسل الإمداد العالمية، وما لذلك من تداعيات على الاقتصاد الأوروبي، وتفتقد القوة البحرية في حقيقتها الكثير من المقومات الرئيسة لضمان فعالية العملية، أبرزها اختلاف الرؤى الأوروبية حول مسببات التصعيد في البحر الأحمر، وما لذلك من انعكاسات على وحدة الموقف الأوروبي بشأن تشكيل هذه العملية، ومن ثم على فعاليتها في تنفيذ أهدافها، ناهيك عن حدود الالتماس والتشابك بينها وبين عملية حارس الازدهار في ميدان العمليات.

Website |  + posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى