استقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اليوم 29 فبراير رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد قوات الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، في زيارة ليست الأولى منذ بدء الاقتتال العسكري في السودان في 15 أبريل 2023، لكنها في الوقت ذاته تبعث بعدة دلالات ورسائل، انطلاقًا من تطورات الوضع الميداني للحرب، ناهيك عن أن زيارة البرهان للقاهرة تأتي ضمن جولة إقليمية يُجريها البرهان، سبقها لليبيا، وتتزامن مع جولة إقليمية لنائبه مالك عقار. من ثم، تهدف المقالة لمناقشة ما تحمله زيارة البرهان إلى القاهرة من دلالات وتبعثه برسائل، وذلك على النحو التالي:
1- التفوق الميداني المحدود للبرهان في ساحة الحرب السودانية
بعدما تمكنت قوات الدعم السريع من تحقيق عدة مكاسب ميدانية خلال الأشهر الماضية، استطاعت قوات الجيش من استجماع قواها وتنفيذ هجمات محدودة اسفرت عن تحرير مقار سلاح المهندسين في الخرطوم والذي ظل محاصرًا لمدة 10 أشهر، إلى جانب إعلان قوات الجيش تقدم قواته في المحور الشرقي لأم درمان وبسط سيطرته على أحيائها الوسطى، وانتشارها في حي بيت المال وسيطرته على حي أبو روف الاستراتيجي الواقع شمال مقر الإذاعة والتلفزيون الواقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع ، والذي من المتوقع أن تتمكن قوات الجيش من استعادة سيطرتها عليها في الفترة القادمة في خضم ما تفرضه من حصار على المقر، وهو ما يكشف في مجمله عن تغيير الجيش السوداني لاستراتيجيته القتالية من الدفاع إلى الهجوم.
ولعبت عدة تحولات رئيسة في الفترة الأخيرة دورًا فعالًا في بدء استعادة قوات الجيش السوداني توازنها – ولو بشكل محدود- في ساحة الحرب، أولها؛ هو انخراط المقاومة الشعبية في ساحة القتال إلى جانب قوات الجيش؛ حيث إن غالبية خريجي المعاهد والجامعات والمدارس قد مروا بفترات تدريب عسكرية خلال دراستهم فيما يعرف بـ”الخدمة الإلزامية”، أهلتهم على حمل السلاح والانخراط في القتال، والتي جاءت تزامنًا مع تصاعد دعوات الحشد والتعبئة الشعبية لدعم قوات الجيش، لا سيما في معظم المناطق التي تقع تحت سيطرة الجيش السوداني والتي لاقت استجابة واسعة في أوساط الشباب، بالإضافة إلى ماقدمته الحكومات المحلية في عدد من المناطق والولايات من دعم إما عبر توفير السلاح أو تدريب المواطنين أو تنسيق الحراك الشعبي.
أما بالنسبة لثاني التحولات فتتمثل في تخلي بعض الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا، عن مسار الحياد، وإعلان وقوفها إلى جانب قوات الجيش في ساحة الحرب، ومن بينها حركات “مني أركو مناوي ومصطفى طنبور وجبريل”، وهو ما ساهم في مد قوات الجيش في ساحة المعارك بالرجال والعتاد اللازمين، واستعادة الجيش قدر من توازنه في الحرب، بالإضافة إلى رفع الروح المعنوية للقوات، عقب ما منيت به من خسائر خلال الفترة الماضية، ناهيك عن جبح جماح قوات الدعم السريع من السيطرة والتقدم إلى ولايات في شمال وشرق وجنوب السودان عقب سيطرته على عاصمة ولاية الجزيرة “ود مدني”.
بينما تتمثل ثالث التحولات التي لعبت دورًا في الفترة الأخيرة في حرص البرهان على مد جذور التواصل والتعاون مع طهران بعقده لقاء مفاجئ مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في نوفمبر 2023، على هامش القمة العربية الإسلامية التي استضافتها السعودية، والتي كان أبرز نتائجها قبول طهران مد البرهان بطائرات غير مأهولة إيرانية من طراز “مهاجر”، تمكنت الأقمار الصناعية فيما بعد من إلتقاط صور لها في قاعدة “وادي سيدنا” العسكرية في أم درمان.
ومن ثم، فإن تمكن قوات الجيش السودانية بقيادة البرهان من استعادة قدر من توازنه بسيطرته على أم درمان، قد يفتح له الباب لتحقيق مزيد من الانتصارات الميدانية، انطلاقًا مما تتمتع به المدينة من أهمية استراتيجية؛ لكونها تُشكل مدخلًا مهمًا للعاصمة الخرطوم من الناحيتين الشمالية والغربية، كما تضم قاعدة كرري العسكرية وسلاح المهندسين والسلاح الطبي، ونظرًا لأنها مدينة مفتوحة على مساحات جغرافية واسعة تجعل منها عمقًا استراتيجيًا للبلاد، ناهيك عما تمثله من رمز تاريخي وسياسي لكونها عاصمة الدولة المهدية التي حكمت السودان في نهاية القرن التاسع عشر، كما أنها موطن حركات التحرر من الاحتلال البريطاني والعاصمة الثقافية للسودان.
2- التأكيد على شرعيته السياسية وتعزيز موقفه في أي مفاوضات محتملة
من اللافت عقب تمكن قوات الدعم السريع من تحقيق مكاسب ميدانية خلال الأشهر الأخيرة من العام 2023، حرص قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) على توظيف انتصاراته الميدانية، بتحقيق عدة مكاسب على المستوى السياسي، أبرزها التشكيك في شرعية البرهان السياسية وأنه ممثل الدولة السودانية، مع حرصه على انتزاع اعتراف إقليمي بهذه الشرعية عبر إجراء جولة خارجية إقليمية ضمت إثيوبيا وجيبوتي وجنوب أفريقيا وكينيا وأوغندا ورواندا. ومن ثم، تأتي زيارة البرهان إلى القاهرة واستقباله الرسمي وإجراءه مباحثات مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حول تطور العلاقات الثنائية بين البلدين والتباحث بشأن مجريات الحرب، وإجراءه من قبل زيارة لليبيا، والتي قد يتبعها مزيد من الجولات الخارجية الإقليمية والدولية، للتأكيد على أن البرهان هو الممثل الشرعي للدولة السودانية.
كما تكشف الجولة الإقليمية لنائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي مالك عقار خلال شهر فبراير 2024، والتي ضمت أوغندا ورواندا وجنوب السودان، عن حرص مجلس السيادة الانتقالي على بناء حراك دبلوماسي يؤكد على شرعية البرهان السياسية، وتقويض فعالية أية جولات خارجية يُجريها قائد قوات الدعم السريع، تهدف للتشكيك في شرعية البرهان، والترويج الخاطئ لضعف الموقف الميداني لقوات الجيش السوداني.
يُضاف إلى ذلك، أنه في خضم ما يدور من حديث وما يُطرح من مبادرات آخرها المبادرة الليبية لدفع طرفي الحرب (البرهان وحميدتي) على الجلوس على طاولة المفاوضات، فإن تمكن قوات الجيش السوداني من تحقيق مكسب ميداني – حتى وإن كان محدود لكنه يُعزز من احتمالية تمكن البرهان من حصد مزيد من الانتصارات الميدانية على المدى القريب- سيُعزز من موقف البرهان في أية مفاوضات محتملة، ويقوي من موقفه في طرح أية شروط للقبول بتسوية سياسية، على الرغم من أنه من المتوقع ألا يقبل البرهان ببدء أية مفاوضات إلا عقب استعادة سيطرته على المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع.
3- محورية القاهرة كداعم للسلام ومسار التسوية لإنهاء الحرب
مع تعدد الاضطرابات والأزمات في الإقليم والتي يأتي من بينها الأزمة السودانية، باتت القاهرة هي نقطة الارتكاز الأساسية لأية مباحثات تهدف نحو التسوية والتفاوض انطلاقًا من عدة اعتبارات، أولها؛ الدور التاريخي المصري للحفاظ على أمن وسلامة دول الشرق الأوسط، ثانيها؛ أن الترابط الجغرافي ووحدة التاريخ واللغة والدين بين القاهرة والخرطوم، تجعل القاهرة على دراية كاملة بتركيبة المجتمع السوداني وتطلعاته في خضم ما يواجهه من أزمات سياسية واقتصادية وهو يفرض على القاهرة مسؤولية الوساطة والتهدئة من أجل دفع طرفي الحرب للتسوية وإنهاء الاقتتال العسكري، حفاظًا على وحدة وتماسك البلاد، وحقنا لدماء الشعب السوداني، في حين تُمثل ثالث الاعتبارات في أن الأمن القومي السوداني يُعد امتداد لأمن مصر القومي وهو ما يُفسر تصدر الأزمة السودانية قائمة اهتمام القيادة السياسية.
نهاية القول، تحمل زيارة البرهان إلى القاهرة عدة دلالات ورسائل، تتضمن تمكن قوات الجيش السوداني من تحقيق انتصار ميداني طفيف، قد يكون بداية لعدة انتصارات ميدانية على المدى القريب، كما تعكس مدى إدراك قادة السودان بمحورية وأهمية الدور المصري في قيادة مسار التسوية والتهدئة، انطلاقًا من الدور القيادي لمصر من جانب، ولكون الأمن القومي السوداني يُعد امتدادًا للأمن القومي المصري من جانب آخر، وأن الأزمة السودانية هي أحد المحددات الرئيسة لأمن الإقليم.