
الصوت الأفريقي في “بريكس”: نحو عدالة قواعد التجارة والاستثمار الدولي
اجتذبت قمة “بريكس” الخامسة عشر التي عُقدت خلال الفترة من 22 حتى 24 أغسطس في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا، تحت شعار “بريكس وأفريقيا: شراكة من أجل النمو المتسارع والتنمية المستدامة والتعددية الشاملة بشكل متبادل” أنظار القوى الدولية؛ نظرًا للسياق الجيوسياسي والدولي الذي عُقدت خلاله القمة، حيث تصاعد حالة الاستقطاب الدولي، ورغبة الصين وروسيا في إعادة صياغة النظام الدولي وقواعد التجارة والنظام المالي الدولي على نحوٍ عادل تجد فيه الاقتصادات الناشئة فرصًا للنمو والتنمية العادلة.
وتتشارك أفريقيا مع تلك الأهداف، حيث تتضرر الاقتصادات الأفريقية من نظم التمويل والاقتراض الدولي وعبء الديون الواقع عليها، بما يعرقل خطط النمو والتنمية، بما يدفع الدول الأفريقية للبحث عن تكتلات اقتصادية وتنويع التعاون والتكامل الاقتصادي، وإزالة الحواجز التجارية.
حالة استقطاب جيوسياسي
أبدت نحو 40 دولة رغبتها في الانضمام إلى “بريكس”، ورغم عدم استيفاء الكثير من الدول معايير العضوية التي نوقشت خلال القمة، كان هناك ترحيب أولي بضم العديد من الدول خاصة من جانب الصين وروسيا وجنوب أفريقيا، لذا أفردت القمة الخامسة عشر مساحة لمزيد من النقاش والتوافق حول معايير القبول، حتى خرجت القمة بقرار ضم ست دول جديدة هي: مصر، وإثيوبيا، والسعودية، والإمارات، وإيران، والأرجنتين.
وتعكس الرغبة في توسيع نطاق العضوية حالة التنافس الدولي والرغبة في خلق تكتل جيوسياسي جديد تلعب من خلاله الصين وروسيا أدوارًا اقتصادية ودبلوماسية مؤثرة؛ إذ تنظر الصين إلى “بريكس” كتكتل يمكنها من خلاله توسيع نطاق تأثيرها العالمي، خاصة وأنها تمثل نحو 70% من إجمالي الناتج المحلي للمجموعة، مما يجعلها صاحبة تأثير قوى في إطار التجمع، ويجعل “بريكس” ساحة يمكن من خلالها أن تلعب الصين ومن ورائها روسيا دورًا مؤثرًا فيما يتعلق بإعادة التوازن بين الجنوب العالمي والشمال.
وهو الأمر الذي يجعل هناك حالة من التنافس بين أعضاء “بريكس” على الهيمنة والتأثير. وتبرز أهمية مجموعة “بريكس” كذلك من كونها ممتدة على نطاقات جغرافية واسعة، علاوة على أنها النطاق الذي يمكن من خلاله أن تمارس الاقتصادات الناشئة تأثيرًا عالميًا مقارنة بالتجمعات الأخرى التي تضم الدول الصناعية الكبرى. لكن في المقابل ترى التقديرات أن تأثير مجموعة “بريكس” في صياغة الخطاب العالمي أقل بكثير مما تمارسه مجموعة السبع التي تتفق في رؤيتها مع الولايات المتحدة حول الكثير من القضايا، مما يجعل “بريكس” محاولة لإعادة الاصطفاف في مواجهة تعاظم النفوذ الغربي.
وما يؤشر على التحديات التي تواجه آليات العمل في إطار التجمع هي حالة التناقض بين الدول الأعضاء مقارنة بمجموعة السبع على سبيل المثال، حيث يضم دولًا ليبرالية ديمقراطية مقارنة “ببريكس” الذي يضم من الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية، فضلًا عن أن هناك حالة تنافس فيما بينهم مثل الصين والهند حيث التوتر الحدودي بينهما ومخاوف الهند من الهيمنة الصينية رغم محاولات الصين لتحسين العلاقات معها.
ومن هذا المنطلق، كانت الصين ومن ورائها روسيا من تدفع في اتجاه توسيع العضوية لضم المزيد من الاقتصادات الناشئة، مما يمنح الدولتين فرصة لموازنة الضغوط وقواعد التجارة الغربية، وخلق استقطاب جيواقتصادي يمكن من خلاله تحييد الضغوط الاقتصادية الغربية، وهي الرغبة التي تتشارك فيها الهند رغم مخاوفها، حيث رغبتها في تحقيق التنمية الاقتصادية وتعظيم التعاون مع الجنوب العالمي.
فكانت الصين الدافعة وراء توسيع العضوية وأيدتها كل من روسيا وجنوب أفريقيا، فيما كانت الهند والبرازيل متخوفتين من هيمنة الصين، وقد قال الرئيس الصيني في القمة: ” إن دول “بريكس” هي جميع الدول ذات النفوذ المهم، وتتحمل مسؤوليات مهمة تجاه السلام والتنمية في العالم، ويرى الدول الأعضاء أن تجمع أكبر من شأنه أن يواجه هيمنة مجموعة السبع، ومنح “الجنوب العالمي” مزيدًا من النفوذ في الشؤون العالمية وفي مواجهة النفوذ الغربي”.
وترغب دول بريكس في التغلب على مبدأ العقوبات العالمي الذي تمارسه الولايات المتحدة والغرب، وخاصة ضد روسيا والصين. لكن في المقابل فإن الهند رغم رغبتها في موازنة تقاربها مع الغرب ورغبتها في التواصل مع الجنوب العالمي وضمان عدم التقارب الروسي الصيني على حسابها، لا ترغب في تبني أية قرارات في إطار “بريكس” تثير حفيظة الولايات المتحدة أو توثر على علاقاتها مع الغرب. وبالمثل قال رئيس الوزراء البرازيلي لولا دا سيلفا إن التجمع هدفه إعادة تنظيم الجنوب العالمي وليس تحدي مجموعة السبع أو الولايات المتحدة، ما يعكس المخاوف والتناقضات المهيمنة على توجهات الدول الأعضاء.
تقليص الاعتماد على الدولار
البحث في سبل تسريع الاعتماد على العملات المحلية جاء على رأس جدول أعمال القمة، لكن دون خطط لإزالة الدولرة من المعاملات بوصف الدولار العملة العالمية للتداول التي لا يمكن إنكار سيطرتها، لكن يرغب أعضاء “بريكس” في إيجاد طريقة أخرى للمعاملات المالية والتجارية، دون الحديث عن إطلاق عملة للبريكس في الوقت الراهن.
ودارت المناقشات حول تعزيز التبادل التجاري بالعملات المحلية للدول الأعضاء، والاتفاق على آليات لتسوية المدفوعات بعيدًا عن الدولار، وكذلك الاقتراض بالعملات المحلية بفوائد مخفضة. وتأتي هذه الأهداف المتعلقة بالتعامل بالعملات المحلية كتوجه عام غير قاصر على مجموعة “بريكس” فحسب، بل هناك توجه من دول الجنوب العالمي بتعزيز التجارة بالعملات المحلية؛ فقد كان التعامل بالعملات المحلية واحدًا من أهداف منطقة التجارة الأفريقية التي تعمل عليها.
وقد قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كلمته أمام القمة إن عملية إلغاء الدولرة بين الكتلة لا رجعة فيها، وإن حصة الدولار الأمريكي في التجارة آخذة في التناقص، إذ بلغت حصة الدولار في المعاملات التجارية بين الدول الأعضاء العام الماضي 28.7% فقط. واتصالًا بهذا التوجه، بدأ العديد من البنوك المركزية الأفريقية تنفيذ نظام دفع أفريقي لتسهيل التجارة باستخدام العملات المحلية، بما يوفر مليارات الدولارات من تكاليف تحويل العملات.
وهناك تقدير آخر بأن الدول الأعضاء رغم رغبتهم في التداول بعملاتهم المحلية وتقوية هذه العملية، فإن هناك مخاوف من تنامي قوة اليوان الصيني، بعدما أصدر بنك التنمية الجديد التابع “لبريكس” قروضًا باليوان، وهو الأمر الذي دفع الهند إلى اللموافقة على مبدأ التداول بالعملات المحلية، واشترت نفطًا روسيًا بالروبية، لكنها دعت للتدقيق في الأمر خلال القمة الأخيرة. وقالت ديلما روسيف، رئيسة بنك التنمية الجديد إن الخطط جارية لبدء الإقراض بعملتي جنوب أفريقيا والبرازيل من أجل تقليل الاعتماد العالمي على الدولار الأمريكي؛ كخطوة نحو خطط البنك لتطوير نظام مالي عالمي متعدد الأقطاب.
وضع جنوب أفريقيا
جاءت قمة “بريكس” في جوهانسبرج بعد أسابيع من التوتر بين جنوب أفريقيا والولايات المتحدة على وقع اتهام الأخيرة للأولى بتزويد روسيا بشحنات من الأسلحة، بعد مشاهدة السفينة “أر” في مياه جنوب أفريقيا، وكذلك رؤية طائرة في جنوب أفريقيا تحمل أسلحة لروسيا. وفي أغسطس 2022، كان قرار التصويت ضد روسيا في الأمم المتحدة كاشفًا للتقارب بين جنوب أفريقيا وروسيا في مقابل تراجع علاقاتها بالولايات المتحدة، حيث كانت جنوب أفريقيا واحدة من الدول التي امتنعت عن إدانة روسيا، وعززت جنوب أفريقيا مكانتها بين دول عدم الانحياز؛ لذا فإن جزءًا من أهمية استضافة جنوب أفريقيا لقمة “بريكس” هذه هو أنها تؤكد على مكانتها كزعيم أو أحد قادة الكتلة الأفريقية على الساحة الدولية، فضلًا عن أنها تعد الاقتصاد الأكثر أهمية في القارة، كونها أصبحت العضو الأفريقي في “بريكس” في وقت مبكر منذ عام 2010،
وتتشارك الصين وجنوب أفريقيا في وجهة النظر حول توسيع عضوية “بريكس” وكذلك حول التداول بالعملات المحلية؛ في رغبة من الصين لمنافسة مجموعة السبع، وإضافة وزن كبير لمجموعة “بريكس”، بالنسبة للصين، فهذه فرصة لتعزيز العلاقات مع جنوب أفريقيا وأفريقيا على نطاق أوسع، إذ أجرى شي جن بينج حوارًا مع رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا لتعزيز العلاقات مع جنوب أفريقيا والاحتفال بذكرى مرور 25 عامًا على العلاقات بين البلدين.
وبالنظر إلى حجم تجارة جنوب أفريقيا مع التجمع مقارنة بتجارتها مع العالم الخارجي في 2022، جاء إجمالي واردات جنوب أفريقيا من التجمع بقيمة 33,606,508 مليار دولار، مقارنة بحجم واردات يصل إلى 111,878,211 مليار دولار من العالم الخارجي، بينما تصل قيمة صادرات جنوب أفريقيا إلى دول التجمع لعام 2022 بقيمة 17,862,364 مليار دولار من إجمالي صادراتها التي وصلت 123,614,816 مليار دولار؛ مما يعكس اعتماد جنوب أفريقيا بشكل رئيس في تجارتها الخارجية من حيث الاستيراد على دول “بريكس”، بينما هناك فارق شاسع بين حجم صادرات وواردات جنوب أفريقيا لدول “بريكس” بشكل يجعل نسبة تصديرها أقل بكثير من استيرادها.
وبالنظر إلى الميزان التجاري بين جنوب أفريقيا ودول “بريكس” لعام 2022، فإن هناك اختلالًا في الميزان التجاري لصالح البرازيل بقيمة 1,100,766 مليار دولار، وهناك اختلال لصالح الصين بقيمة 10,573,796 مليار دولار، وبقيمة 3,222,535 مليار دولار لصالح الهند، وبقيمة 264,449 مليون دولار لصالح روسيا.
وتعكس هذه الأرقام أن انضمام الاقتصادات الأفريقية والناشئة للتجمع لا يعني كونها ضمن الاقتصادات الكبرى، لكن المزايا والتسهيلات التجارية والمالية من حيث إيجاد نظام مالي دولي عادل للاقتراض لتمويل التنمية وكذلك قواعد تجارية ميّسرة بعيدة عن قيود الدولار؛ يمكن أن توفر مجالًا يمكن من خلاله للاقتصادات الأفريقية والناشئة الاندماج في النظام الاقتصادي العالمي بشكل عادل.
في الأخير، يمكن لجنوب أفريقيا ومصر وإثيوبيا بعد انضمامهما إلى “بريكس” تعزيز الطموحات الاقتصادية الأفريقية؛ من خلال التعبير عن الأولويات التنموية الأفريقية، ومحاولة التأثير في إطار تعاون الجنوب جنوب من أجل خلق نظام اقتصادي ومالي عالمي متعدد الأطراف، تحتل فيه الدول الأفريقية مكانتها، وفقًا لأولويات التنمية الأفريقية وخطة التنمية الأفريقية، وبما يتكامل مع أهداف منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية



