الأزمة الأوكرانية

الاستهداف المتبادل للعمق.. دلالات الضربات الجوية المتبادلة بين كييف وموسكو

في خلفيات المعارك المستمرة في جبهات شرق أوكرانيا، وبالتزامن مع انتهاء المعركة “الطويلة” للسيطرة على مدينة “باخموت” في إقليم الدونباس لصالح القوات الروسية، تُجرى عمليات “مُسيّرة” حثيثة ودؤوبة لفرض معادلات ميدانية موازية لما يحدث على الأرض، عنوانها الأول هو “العمق بالعمق”، وعنوانها الثاني هو نقل القتال عمليًا إلى الأراضي الروسية بأشكال متنوعة برًا وبحرًا وجوًا، بشكل يعطي للداخل الروسي -والمحيط الأوروبي أيضًا- انطباعًا مشابهًا لما تولد لدى سكان المدن الألمانية خلال المرحلة الأخيرة من القتال في الحرب العالمية الثانية.

لعل أهم الملامح التكتيكية للمشهد الحالي في الأزمة الأوكرانية هو تموضع الجانب الروسي -في مواقف عدة- في مواضع دفاعية يكون فيها هو المتلقي وصاحب ردود الفعل، عوضًا عن كونه الطرف المهاجم وصاحب التفوق العسكري. ورغم أن هذا الملمح لا يعد -من حيث المبدأ- مؤشرًا على تراجع روسي ميداني بالنظر إلى أن العمليات القتالية واسعة النطاق قد تقتضي عند الحاجة اتخاذ مواضع دفاعية أو تنفيذ وقفات تعبوية؛ إلا أنه في نفس الوقت لا يمكن تجاهل وصول “حالة الردع القريب” الروسية إلى هذا المستوى من عدم اليقين، ناهيك عن أن موسكو قد حذرت مرارًا -خاصة في بداية العمليات العسكرية في أوكرانيا- أنها لن تسمح بحدوث أي هجمات على الأراضي الروسية، لكن ما حدث عمليًا كان عكس ذلك تمامًا.

فقد تكررت الهجمات على المقاطعات الروسية المتاخمة للحدود مع أوكرانيا بشكل شبه دوري، وشهدت هذه الهجمات تطورًا نوعيًا منذ بداية العام الجاري؛ فقد كانت الهجمات الأوكرانية -حتى ديسمبر 2022- تقتصر على تنفيذ الرمايات المدفعية -والصاروخية في أحيان قليلة- على المناطق الروسية القريبة من الحدود، خاصة مقاطعة “بيلجورود”. لكن تطورت هذه الهجمات بشكل لافت على عدة مستويات؛ فعلى مستوى النطاق الجغرافي أصبحت الهجمات الأوكرانية تشمل نطاقًا يمتد من شبه جزيرة القرم جنوبًا، مرورًا بمقاطعات روسية عدة مثل “ريازان” و”ساراتوف” و”بريانسك”، وصولًا إلى مقاطعات “سمولينسك” و”كورسك” ومن خلفهما العاصمة موسكو. 

أما على مستوى طرق الهجوم، فباتت هذه الهجمات تشمل التقنيات الجوية المسيرة، وعمليات الإغارة بوحدات المشاة، وهجمات الزوارق المسيرة، وأصبحت تستهدف البنية الاقتصادية والمؤسسات السياسية الروسية، بجانب المواقع والمرافق العسكرية، وهو ما أسس في المجمل معادلة ميدانية مختلفة كليًا عن المشهد خلال المرحلة الأولى من العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا.

استهداف موسكو… مجددًا

تعرضت العاصمة الروسية موسكو في الثلاثين من مارس الماضي لهجوم جوي باستخدام تشكيلة من الطائرات المسيرة استهدفت التخوم الغربية والجنوبية الغربية للعاصمة، بما في ذلك مواقع تحمل دلالات سياسية واستراتيجية مهمة، خاصة نطاق مطار “Vnukovo” رابع أهم مطارات روسيا من حيث عدد المسافرين، والذي تستخدمه بشكل رئيس النخبة السياسية الروسية، بجانب حي “Rublyovka” السكني المرموق في الجانب الغربي من العاصمة والذي يضم مقرات إقامة النخبة الروسية، وعلى رأسها مقر إقامة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. 

هذا الهجوم، الذي جاء في نفس الشهر الذي تمت في بدايته عملية الهجوم بطائرتين مسيرتين على مبنى الكرملين، شكل تطورًا مهمًا بالنظر إلى أنه تم استخدام عدد أكبر من الطائرات المسيرة خلاله -مقارنة بهجوم الكرملين- بجانب استخدام عدة أنواع من الطائرات المسيرة في نفس التوقيت، وكذا تزامن الهجوم على موسكو مع هجمات تمت في نفس التوقيت على عدة مواقع روسية أخرى، من بينها مصفاة نفط في منطقة “كراسنودار” أصيبت بشكل مباشر بطائرة مسيرة، ومناطق عدة في مقاطعة “بيلجورود”.

الدفاعات الجوية الروسية داخل العاصمة كانت -على عكس هجوم الكرملين- نشطة بشكل مكنها من التصدي لمعظم الطائرات المسيرة التي استهدفت العاصمة الأوكرانية، وإن نجحت بعض هذه الطائرات في إصابة الطبقات العليا في بعض المباني، لكن طبيعة ما تم استخدامه من طائرات مسيرة دللت على أن الهدف من هذا الهجوم لم يكن إلحاق أضرار واضحة بالعاصمة الروسية، بقدر ما استهدف نقل المشاهد التي اختبرها سكان العاصمة الأوكرانية خلال الأشهر الماضية إلى سكان العاصمة الروسية، خاصة أن هذه الهجمات قد أسفرت -في مقاطعة “بيلجورود”- عن خسائر بشرية، تضاف إلى الخسائر المادية التي تكررت منذ اوائل العام الجاري، خاصة في القطاع النفطي الروسي، حيث تعرضت المصافي النفطية في المقاطعات الروسية القريبة من الحدود مع أوكرانيا لهجمات مُسيرة متكررة.

في ما يتعلق بالطائرات المسيرة التي استُخدمت في الهجوم الأخير على العاصمة الروسية ومدن أخرى قرب الحدود مع أوكرانيا، فقد تألفت من ثلاثة أنواع  -على عكس الهجوم السابق الذي استُخدم فيه نوع واحد فقط- أولها هو طائرة ظهرت كثيرًا خلال العمليات العسكرية الأوكرانية وهي الطائرة المسيرة “UJ-22″، التي تعمل في الأساس كطائرة استطلاعية لكن قامت القوات الأوكرانية بتعديلها مؤخرًا لتحمل شحنات من متفجرات “سي-4” وتحديدًا شحنات “إم 112” الكندية الصنع التي تبلغ زنتها سبعة عشر كيلو جرام. الطائرة الثانية التي استُخدمت في هذا الهجوم هي طائرة لم يسبق أن رُصد وجودها ميدانيًا، وتشبه في آلية عملها الذخائر الجوالة أو الطائرات المسيرة الانتحارية. أما الطائرة الثالثة فهي مروحية بدون طيار تم تحويرها لتتمكن من حمل شحنة متفجرة من نوع “KZ-6″، وهي للمفارقة نفس الشحنة المتفجرة التي تتضمنها الذخائر الروسية الجوالة “Lancet-3” التي تستخدمها القوات الروسية في أوكرانيا، وتبلغ زنتها 1.8 كيلو جرام.

وبغض النظر عن نجاح هجوم الثلاثين من مارس على العاصمة الروسية من عدمه، يمكن إذا نظرنا لهذا الهجوم في سياق تطور الهجمات التي طالت الأراضي الروسية منذ أواخر العام الماضي، اعتباره بمثابة تكريس معادلة جديدة تجعل العاصمة الروسية في زاوية مماثلة للزاوية التي تقبع فيها العاصمة الأوكرانية منذ بداية المعارك، بحيث يمكن القول إن “معادلة ردع جوية” شُكّلت عمليًا بحيث يتبادل كلا الطرفين قصف عاصمة الطرف الآخر، وهو ما يخالف المعادلة التي كانت قائمة حتى أواخر العام الماضي، وفيها كانت العاصمة الأوكرانية هدفًا دائمًا للضربات الصاروخية والجوية الروسية، على عكس العاصمة الروسية التي كانت في منأى عن ردود الفعل الأوكرانية.

من منظور عام، يمكن أن نعد نقطة البداية لتشكيل هذه المعادلة الجديدة هي الهجوم الذي تم في الخامس من ديسمبر الماضي باستخدام عدة طائرات مسيرة، واستهدف قاعدة “إنجلس” الجوية في مقاطعة “ساراتوف”، ومطار “دياغيليف” العسكري بمقاطعة “ريازان”. هذا الهجوم كان بمثابة صدمة كبيرة لمعادلة الردع الروسية؛ نظرًا لأن كلا المطارين يقعان على بعد 500 – 650 كيلو متر من خط الحدود مع أوكرانيا، بجانب أن هذه الهجمة تسببت في مقتل ثلاثة عسكريين روس، وإلحاق أضرار بقاذفتين استراتيجيتين من نوع “توبوليف-22” في مطار “دياغيليف”، ناهيك عن أن هذا الهجوم  -على المستوى التكتيكي- وضع قوة القاذفات الاستراتيجية الروسية المتمركزة في كلا القاعدتين، والتي تشارك بشكل دوري في العمليات العسكرية في أوكرانيا في مرمى الاستهداف المباشر.

منذ ذلك التوقيت، سار منحنى العمليات الجوية المسيرة -غير المعلنة بشكل رسمي من الجانب الأوكراني- في اتجاه تصاعدي على مستوى الكم والنوع والنطاق الجغرافي انطلاقًا من مقاطعتي “سومي” و”تشيرنيهيف” الأوكرانيين، حيث بدأت الهجمات بالطائرات المسيرة في الاقتراب بشكل كبير من العاصمة الروسية بداية من أواخر فبراير الماضي، حين اكتشفت السلطات الروسية حطام طائرة أوكرانية بدون طيار من نوع “UJ-22″، قرب محطة ضخ غازية في منطقة “كولومنا”، على بعد مئة كيلو متر من العاصمة الروسية، ونحو خمس مئة كيلو متر من الحدود مع أوكرانيا. 

هذا الهجوم كان نوعيًا رغم عدم نجاحه في إصابة المحطة؛ نظرًا إلى أن هذه النقطة كانت -حتى ذلك التوقيت- أقرب نقطة وصلت إليها الهجمات المسيرة الأوكرانية نحو العاصمة الروسية، وقد ظهر هذا النوع من الطائرات مرة أخرى في الثالث والعشرين والرابع والعشرين من أبريل الماضي، حين عثرت السلطات الروسية على حطام طائرة من نفس النوع، بالقرب من مدينة “نوجينسك”، على بعد نحو 50 كيلومترًا شرقي موسكو.

الاقتراب الحثيث من العاصمة موسكو تُوّج بهجوم الكرملين الذي تم أوائل الشهر الماضي، والذي رافقته عدة هجمات بالطائرات المسيرة استهدفت مناطق روسية أخرى، منها مجمع لخزانات الوقود في منطقة “تامان” في شبه جزيرة القرم قرب مضيق “كيرتش” -وهو الهجوم الرابع عشر ضد المرافق العسكرية والمدنية في شبه جزيرة القرم منذ مطلع العام الجاري- وهجوم بخمس طائرات مسيرة على مطار “Seshcha” العسكري شمال غرب مدينة “بريانسك”، وهجوم آخر استهدف خزانًا للمياه في مدينة “بيلغورود”، وكذا مهاجمة طائرة مسيرة لمحطة تكرير نفط في قرية “Volna” قرب مدينة “كراسنودار”، وهجوم مماثل على قرية “تتكينو” قرب مدينة “كورسك”. 

وتضاف هذه الهجمات جميعًا إلى محاولات هجومية بالطائرات المسيرة، تم شنها بشكل متتالي خلال العام الجاري على شبه جزيرة القرم ومرافقها العسكرية المختلفة، بما في ذلك المطارات وقاعدة أسطول البحر الأسود في ميناء “سيباستوبول”.

بالعودة إلى هجمات الثلاثين من مايو على العاصمة الروسية، ربما كان مشهد تصدي منظومات الدفاع الجوي الروسية من نوع “بانتسير” للطائرات الأوكرانية المغيرة داخل أحياء العاصمة مشهدًا لم يسبق أن اختبرته معظم الأجيال الروسية الحالية، التي لم يتسن لها العيش داخل العاصمة أثناء تعرضها لموجات القصف المتتالية على يد القاذفات الألمانية بعيدة المدى بين يوليو 1941 ويونيو 1943، وهو نفس المشهد الذي عاشته العاصمة الأوكرانية ومدن أخرى منذ فبراير 2022، وبالتالي يمكن وضع هذه المشاهد ضمن أهم الأهداف التي أرادت كييف والأطراف الداعمة لها تحقيقها من خلال هذه الغارة المسيرة وما سبقها من غارات.

زعزعة الثقة بالدفاعات الجوية الروسية -وبنجاعة الاستراتيجية العسكرية الروسية في المجمل- تعد أيضًا من أهم أهداف الغارات المسيرة على الأراضي الروسية، خاصة أن استمرار حدوث هذه الغارات في حد ذاته يعد من الناحية العسكرية دليلًا على وجود خلل ما في قدرات الرصد والتتبع الخاصة بالدفاعات الجوية الروسية، مع العلم أن عملية رصد الطائرات المسيرة المستخدمة في هذه الغارات صعبة من الناحية التقنية، وتحتاج إلى تضافر عدة إمكانيات عسكرية تتنوع بين: رادارات مراقبة الطائرات بدون طيار، وأنظمة الحرب الإلكترونية، ونقاط المراقبة بالنظر. 

كان لافتًا إشارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -ضمنيًا- إلى وجود نقص في جاهزية الدفاعات الجوية الروسية التي تحمي العاصمة موسكو، حيث أشار إلى هذا الأمر من زاوية المشاكل التي واجهتها الدفاعات الجوية الروسية التي تولت تأمين قاعدة “حميميم” الجوية الروسية في سوريا، خلال تصديها للهجمات المتكررة التي تعرضت لها القاعدة منذ عام 2016. 

نقل المعركة إلى الأراضي الروسية … بعدة طرق

من الجانب الاستراتيجي، يمكن النظر إلى الهجمات المسيرة على الأراضي الروسية من زاوية أوسع تكون فيها هذه الهجمات ضمن مجهود عسكري أكبر يستهدف توسيع نطاق المواجهة ليشمل نطاقات بعيدة عن جبهات القتال الميدانية في شرق وجنوب أوكرانيا. هذا المجهود يشمل تنفيذ هجمات خاطفة باستخدام زوارق مسيرة ضد ميناء “سيباستوبول” في شبه جزيرة القرم، والقطع البحرية الروسية الموجودة في البحر الأسود كما حدث سابقًا في أكتوبر ونوفمبر 2022، ومارس 2023. 

هذا “التكتيك” شهد منتصف الشهر الماضي تطورًا لافتًا، حين هاجمت ثلاثة زوارق مسيرة سفينة استطلاع وتنصت من الفئة “يوري ايفانوف” تابعة لأسطول البحر الأسود الروسي. أهمية هذا الهجوم تكمن في موقع حدوثه؛ إذ تم على بعد 115 كيلو متر فقط شمال شرق مضيق البوسفور، وهي نقطة بعيدة للغاية عن مواقع الهجمات المماثلة السابقة في محيط ميناء “سيباستوبول” والمناطق الشمالية للبحر الأسود.

النقطة الأهم والأبرز فيما يتعلق بعملية “توسيع ميادين القتال” ونقل المعركة إلى الأراضي الروسية هي بدء وحدات عسكرية متطوعة تنفيذ عمليات إغارة محدودة عابرة للحدود في اتجاه مقاطعة “بيلوجرود” الروسية، والحديث هنا هو عن ثلاث عمليات جرت خلال الأسابيع الأخيرة؛ في الأولى نفذت وحدات أوكرانية مزودة بمنظومات للدفاع الجوي كمينًا في منطقة “بريانسك”، لتشكيل من الطائرات الروسية كانت تتجمع تمهيدًا لتنفيذ ضربات جوية غرب إقليم الدونباس، وأُسقطت فيها مروحية من نوع “مي-8″، وقاذفة من نوع “سوخوي-34”. 

العملية الثانية تسللت فيها سريتا مشاة من الجانب الأوكراني نحو بلدة “جرايفورون”، التي تقع جنوب غرب مقاطعة بيلوجرود، ونفذتا عمليات تخريب واستهداف للمنشآت هناك. هذا الهجوم كان مباغتًا بشكل اضطر الجيش الروسي إلى إرسال قاذفات “سوخوي-34″، لتقوم بقصف نقطة التفتيش الموجودة على تخوم هذه البلدة، بعد أن دخلتها الوحدات القادمة من الجانب الأوكراني.

أما العملية الثالثة من هذا النوع فجرت في الأول من الشهر الجاري، كردة فعل على الغارة الصاروخية التي نفذتها روسيا على العاصمة الأوكرانية في اليوم السابق، باستخدام صواريخ “إسكندر-إم” الباليستية التكتيكية. الهجوم الأوكراني الثاني تم أيضًا باستخدام سريتي مشاة لكن كانتا مدعومتين بعربات مدرعة ودبابات، توغلت هذه القوة بعمق ما بين 5 إلى 7 كيلو مترات في أراضي مقاطعة بيلوجرود الروسية، نحو بلدة “نوفايا تافولجانكا” ومعبر “شيبيكينو” الحدودي البري. 

القوة التي نفذت هذا التوغل تنتمي لما يعرف بـ “فيلق المتطوعين الروسي” و”فيلق روسيا الحرة”، وهي وحدات يوحي اسمها بأنها تتكون من متطوعين روس، لكن تشير بعض التحليلات إلى أن هذه الوحدات هي في الأساس قوات أوكرانية سُمّيت بهذا المسمى عملًا بالسياسة الأوكرانية التي تتجنب أي اعتراف علني بالهجمات التي تتم على الأراضي الروسية. كان لافتًا في هذا التوغل تعمد كييف استخدام وسائط قتالية أمريكية الصنع، وتحديدًا عربات “هامفي” الخفيفة، والعربات المقاومة للألغام “ماكس برو”، وهو تعمد يحمل في طياته رسالة أوكرانية وغربية واضحة، يمكن وضعها في سياق زيادة الضغوط على موسكو.

بالنظر إلى ما سبق، يمكن القول إن المعادلة الجوية والصاروخية و”المسيرة” بين الجانبين قد تم تعزيزها وتكريسها خلال الشهر المنصرم، خاصة أن ردود الفعل الروسية أصبحت متوقعة ولا تمثل تصعيدًا “نوعيًا” أو مختلفًا عن ما قامت به من أعمال قتالية خلال الأشهر الماضية؛ فبالإضافة إلى ضربة صواريخ “إسكندر” على العاصمة الأوكرانية، نفذت موسكو خلال الشهر الماضي -انتقامًا من الهجمات المسيرة عليها- نحو 20 هجومًا بالطائرات المسيرة والذخائر الجوالة على العاصمة الأوكرانية.

استهدفت هذه الضربات بشكل مركز المراكز العسكرية والاقتصادية الأوكرانية، مثل المقر الرئيسي للمخابرات الأوكرانية -الظاهر في الصورة- والمطارات العسكرية مثل مطار “خميلنيتسكي” غربي أوكرانيا، ومطار “جوليانا” الدولي في قلب كييف، الذي كان النقطة الأولى لانتشار بطاريات منظومة الدفاع الجوي “باتريوت”، ما تسبب في أضرار متوسط بالبطارية التي كانت تتمركز فيه، ناهيك عن استهداف القوات الجوية الروسية لآخر قطعة بحرية عاملة في البحرية الأوكرانية، وهي سفينة الإنزال “يوري أوليفيرينكو” في ميناء أوديسا جنوبي غرب البلاد.

خلاصة القول إن القتال في الميدان الأوكراني بات يتضمن أيضًا -بطريقة أو بأخرى- جزءًا من الأراضي الروسية، بما في ذلك أجواء العاصمة موسكو، وهو ما قد يشير إلى أن “الهجوم” الأوكراني المنتظر قد يكون في الواقع على نسق “هجمات خاصة وخاطفة نحو الأراضي الروسية”، وهو ما يحمل في طياته احتمالات واسعة لتصعيد النزاع في اوكرانيا بشكل أكبر، خاصة أن الأدوار الغربية الداعمة لكييف باتت “تلامس” أحد أهم محاذير موسكو في هذه الأزمة ألا وهي تقديم الدعم “المباشر” للقوات الأوكرانية كي تنفذ هجمات على الأراضي الروسية بطرق متعددة. 

هذا إن وضعناه جنبًا إلى جنب مع تزويد القوات الجوية الأوكرانية بصواريخ “ستورم شادو” الجوالة، وقرب دخول مقاتلات “إف-16” إلى الميدان الأوكراني، نصل إلى قناعة أن استمرار الوضع القائم يقلص بشكل كبير الحيز الذي يمكن أن تلعب فيه الدبلوماسية دورًا في المدى المنظور، ويفتح الباب واسعًا أمام خيارات “أكثر دراماتيكية” على المستوى الميداني، مثل إعادة تفعيل جبهة “شمال كييف”، أو إطلاق عمليات هجومية روسية نحو ميناء أوديسا أو نحو إقليمي “خاركيف” و”سومي” شمال شرق البلاد.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى