استعادة المبادرة.. الميدان الأوكراني بين الدفاع النشط والهجوم التدريجي
مع دخول فصل الشتاء، والانتهاء “العملي” لهجوم الصيف الذي بدأ خلال الشهور الماضية الذي حاولت من خلاله القوات الأوكرانية تحقيق اختراقات أساسية في الخطوط الدفاعية الروسية في الجبهة الجنوبية شمال شبه جزيرة القرم، بدأت مطلع العام الحالي، تظهر بشكل واضح دلائل عدة على التناقص الحاد في فرص كييف في تحقيق الإنجازات الميدانية المستهدفة، وهو ما يقابله تصاعد فرص القوات الروسية في تحقيق نتائج إيجابية خلال المرحلة المقبلة في الجبهتين الشرقية والجنوبية.
بشكل عام، يمكن وصف الموقف العملياتي الأوكراني بأنه “متراجع”، حيث بدأت القوات الروسية والأوكرانية في تبادل الأدوار التكتيكية التي كانت سائدة خلال الأشهر الماضية، حيث بدأت الوحدات الروسية – خاصة في الجبهة الجنوبية – في التحول من “الدفاع النشط”، إلى تنفيذ موجات هجومية منسقة ومستمرة، في حين تحولت القوات الأوكرانية في الجبهة الجنوبية إلى حالة دفاعية، تستهدف الحفاظ على المناطق التي سيطرت عليها خلال هجوم الصيف، في حين تحاول في الجبهة الشرقية شن هجمات مضادة لتخفيف تأثيرات الزخم الهجومي الروسي، الذي بات يشمل كافة محاور شرق أوكرانيا، وتحديدًا جبهات إقليم “دونيسك”.
نظرة للموقف الميداني في جبهات أوكرانيا
في الجبهة الجنوبية، يشهد المحوران الأساسيان للمعارك “زابوروجيا” و”خيرسون”، عمليات قتالية مكثفة، خاصة في محور “خيرسون”، نظرًا لمحاولة القوات الروسية، استعادة المواقع التي خسرتها في وقت سابق من هذا العام في الضفة الجنوبية لنهر الدنيبر، وتحديدًا مدينة “روبوتين”، التي تعتبر النقطة الأبعد التي سيطرت عليها القوات الأوكرانية خلال هجوم الصيف. في الوقت الحالي تشتبك القوات الروسية مع القوات الأوكرانية في عدة نقاط قرب هذه المدينة، مثل شمال وغرب منطقة “فيربوف” شرقي المدينة، وبالقرب من منطقة “نوفوفيدوريفكا” في شمالها الشرقي، وفي محيط منطقة “نوفوبروكوبيفكا” جنوب المدينة. كذلك شهد محور “زابوروجيا”، عمليات قتالية فرعية أقل حدة في المنطقة الحدودية بين إقليم “زابوروجيا” وإقليم “دونيتسك”، وتحديدًا مدينتي “بريوتني” ومدينة “ستارومايورسك”، بجانب مدينة “هولايبولي” التي يشهد محيطها الجنوبي معارك عنيفة.
بالنسق الحالي للعمليات الروسية، يتوقع أن تضطر القوات الأوكرانية للانسحاب أكثر نحو مناطق قريبة من نهر الدنيبر، من أجل تأمين دفاعات فعالة حول مدينة “روبوتين”، رغم استماتتها الحالية في الحفاظ على مواقعها في الضفة الجنوبية للنهر، خاصة منطقة “كرينكي”، التي تشهد حاليًا قتالًا عنيفًا، في ظل محاولة القوات الروسية استعادتها منذ منتصف ديسمبر الماضي، لكن الواضح أن الموقف الأوكراني في هذه الجبهة لا يبشر بإمكانية تحقيق أية تقدمات إيجابية، وفي أغلب الظن ستضطر إلى الانسحاب شمالًا نحو الضفة الأخرى لنهر الدنيبر، وهو ما أن حدث، سيكون بمثابة ضربة قاصمة لأهم أهداف الهجوم المضاد الأوكراني.
تبدو الجبهة الشرقية، أكبر تعبيرًا عن تزايد الزخم الهجومي الروسي، مقابل تراجع القوات الأوكرانية نحو تكتيكات أكثر دفاعية، حيث تهاجم القوات الروسية على طول هذه الجبهة من كوبيانسك شمالًا إلى مارينكا جنوبًا. من الشمال، وبدأت الهجمات الروسية في محور “كوبيانسك” في جبهة “لوهانسك”، وهو المحور الذي يمثل مثلث التواصل بين أقليم “لوهانسك” وإقليم “دونيسك” وإقليم “خاركيف”، في التصاعد شيئًا فشيئًا منذ مطلع أكتوبر الماضي، وحققت مؤخرًا تقدمًا واضحًا في المناطق المحيطة بمدينة “كرامينا”، حيث تقاتل حاليًا القوات الأوكرانية على طول خط كوبيانسك – سفاتوف – كرامينا، ويشمل هذا النطاق معارك في غرب منطقة “ديبروفا” الواقعة جنوب غرب كريمينا، ومنطقة “سينكيفكا” الواقعة شمال شرق كوبيانسك، ومنطقة نوفوسيليفسكي شمال غرب سفاتوف، وفي اتجاه المناطق الشمالية لمدينة “هريوريفكا” الواقعة جنوب كريمينا.
تستهدف القوات الروسية في هذا المحور التقدم شرقًا للسيطرة على مدينة “كوبيانسك”، والوصول إلى نهر “أوسكال” وإعادة التواجد في مقاطعة خاركيف، ويبدو التركيز الروسي أكبر على مدينة “كوبيانسك”، التي اقتربت المعارك من تخومها الشمالية وتحديدًا قرية “سينكوفكا”.
تتمركز بقية محاور الجبهة الشرقية في مناطق إقليم “دونيسك”، وتتمحور حول ثلاثة اتجاهات رئيسة، وهي اتجاه غرب وجنوب غرب مدينة “باخموت”، واتجاه شمال وشرق وجنوب مدينة “أفديفيكا”، واتجاه جنوب شرق مدينة “سيفرسك”. في محور “باخموت”، وهو أحد المحاور الرئيسة في جبهة إقليم دونيسك شرقي أوكرانيا، وتنشط القوات الروسية على النطاق الغربي لمدينة باخموت، حيث تتقدم في اتجاه الشرق نحو مدن “كروموف” و”إيفانوفسكي” و”بوغدانوفكا” و”هورليفكا” واندريفكا، وتمكنت بالفعل من الدخول إلى الضواحي الشمالية لمدينة “بوغدانوفكا”، كما أحرزت هذه القوات تقدمًا جنوبي غرب باخموت، في اتجاه مدينة “أندريفكا”، وتحاول التقدم في اتجاه مدينة “تشاسوف يار”، إحدى المدن الرئيسة التي تستهدفها في هذا المحور.
أما محور مدينة “أفديفيكا”، فتعمل حاليًا القوات الروسية في محاورها الشمالية والشرقية والجنوبية، بهدف تطويقها، وقد حققت خلال الأيام الأخيرة، تقدمًا كبيرًا في المناطق الشمالية المتاخمة لها، خاصة شمال مدن “ستيبوف” و”أوشيريتينو” و”نوفوكالينوفو” الواقعة شمالي أفديفيكا، ومدينة “كامينكا” جنوب شرق المدينة، وأصبحت المعارك حاليًا في التخوم الشمالية والشرقية لمدينة أفديفيكا، التي يتوقع أن تسقط في يد القوات الروسية خلال الأيام المقبلة.
زخم هجومي أقل يشهده محور جنوب شرق مدينة “سيفرسك”، وهو المحور الثالث في جبهة شرق أوكرانيا، حيث نفذت القوات الروسية عمليات هجومية نحو مدينة “سبرين”، ومن الواضح أن التركيز الأساسي للقوات الروسية في الجبهة الشرقية، يتركز في هذه المرحلة على المحورين الأول والثاني السالف ذكرهما، كما شهدت محاور فرعية في جنوب دونيسك، تحركات عسكرية روسية خلال الأيام الأخيرة، منها تحركات تستهدف التقدم من مدينة “مارينكا” غربًا نحو منطقة “كوراخوفا”، وكذلك من التقدم من المحور الجنوبي نحو قرية “نوفوميخايلوفكا”، التي تحاول القوات الروسية دخولها منذ أكثر من أسبوعين من الجنوب، في ظل مقاومة أوكرانية عنيفة. كذلك يشهد المحور القريب من مدينة “ليمان”، محاولات روسية مستمرة للتقدم من غرب مدينة “كرامينا” نحو مدينة ليمان، عبر محاولة عبور نهر “زربتس”، ومهاجمة القرى القريبة مثل قرية “تيرني”، التي سيطرت عليها القوات الروسية لفترة وجيزة، قبل أن تستعيدها القوات الأوكرانية مرة أخرى.
جدير بالذكر، أن كلا الجانبين تبادلا خلال الساعات الأخيرة عمليات القصف الجوي والصاروخي، حيث استمرت كييف في استهداف العمق الروسي بالطائرات المسيرة، ونفذت في ليلة 30 ديسمبر 2023، ضربة مركزة بالطائرات المسيرة، تألفت من 70 طائرة، استهدفت البنية التحتية العسكرية الروسية والمنشآت الصناعية الدفاعية بالقرب من مدن موسكو وبيلجورود وتولا وتفير وبريانسك. وقد تم اعتبار هذه الضربات، ردًا أوكرانيًا على الضربات الصاروخية الروسية التي تمت في التاسع والعشرين من ديسمبر 2023. وقد تكثفت الضربات الصاروخية والمسيرة المتبادلة بين الجانبين بشكل لافت منذ اليوم الأول من العام الجديد، ويلاحظ هنا أن القوات الأوكرانية قد بدأت في الاعتماد بشكل أكبر على ما يتوفر لديها من إمكانات صاروخية ومسيرة محلية الصنع، خاصة صواريخ “نبتون” البحرية، والذخائر الجوالة “UJ-25″، وهو مؤشر مهم بالنظر لما سيتقدم من معلومات.
تطورات غزة تضفي مصاعب “تسليحية” متزايدة أمام كييف
يبدو من الجائز وضع المعضلات التسليحية المتشعبة التي طرأت على الدعم الغربي للجيش الأوكراني، على رأس قائمة الأسباب التي أدت إلى انكفاء الهجوم المضاد الأوكراني. المفارقة هنا أن للتطورات الجارية حاليًا في قطاع غزة، ارتباطات وثيقة بهذا الوضع، فمع اندلاع المعارك في القطاع مطلع السابع من أكتوبر 2023، طرأت عدة تحديات أمام صانع القرار في الولايات المتحدة، حيال الالتزامات المطلوبة من واشنطن تجاه تل أبيب – خاصة على المستوى التسليحي والعسكري – وهي التزامات لم تكن لتشكل – في الظروف العادية – تحديًا كبيرًا أمام المؤسسة العسكرية الأمريكية، لكن بالنظر إلى الموقف الحالي في أوكرانيا، ورغبة كييف في استدامة الدعم العسكري الأمريكي الموجه لها – خاصة على مستوى الذخائر – طرأت معضلة ترتبط بشكل أساسي بضرورة إيجاد نقطة توازن يمكن من خلالها للولايات المتحدة الأمريكية، دعم كلا الجانبين – كييف وتل أبيب – دون الاضطرار إلى تقديم تنازلات على المستوى الداخلي أو على المستوى الاستراتيجي.
وقد قدمت الولايات المتحدة الأمريكية لكييف خلال الفترة الماضية مساعدات عسكرية متنوعة على المستوى التسليحي، بلغت قيمتها حسب أحدث التقديرات 44 مليار دولار، أما أكبر المانحين الأوروبيين لأوكرانيا على مستوى الدعم العسكري فهي ألمانيا، التي ساهمت بمساعدات قيمتها 18 مليار دولار. لكن منذ اندلاع الحرب في غزة في 7 أكتوبر 2023، تلمست كييف تراجع الدعم الأمريكي والغربي لها على المستوى الاستراتيجي، لدرجة دفعت الرئيس الأوكراني للإعلان صراحة عن قلقه من أن تؤدي الحرب على غزة إلى سحب أنظار العالم عن الحرب في أوكرانيا.
حقيقة الأمر، أن مستوى الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل يعتبر من مباعث قلق كييف بشكل عام، لأنه يمس في بعض جوانبه بأصول ووسائط كانت مخصصة بالأصل للجيش الأوكراني، والحديث هنا يرتكز بشكل أساسي على ثلاثة اتجاهات رئيسة، أولها هو ما يتعلق بقذائف المدفعية. النقطة الأساسية فيما يتعلق بهذا الصدد، ترتبط باحتياج كل من كييف وتل أبيب، لأنواع متشابهة من الأسلحة والذخائر والمنظومات القتالية، وهنا يمكن الحديث بشكل محدد عن قذائف المدفعية من عيار 155 ملم. فمنذ اندلاع العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، أرسلت واشنطن إلى الجيش الأوكراني أكثر من مليوني قذيفة مدفعية من هذا العيار، لاستخدامها في مدافع الهاوتزر ذاتية الحركة “M-109” التي تم تسليمها للجيش الأوكراني، وتقدر بنحو 200 مدفع. كذلك سلمت دول أوروبية عدة ما يقدر بـ نصف مليون قذيفة من نفس العيار.
لكن باتت المخزونات الأمريكية والغربية من هذه القذائف، تعاني من تناقص حاد منذ فترة، وهو ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية في يناير 2023، إلى إعلان بدء سحب كميات كبيرة من مخزون هذا العيار من القذائف، من المخازن الأمريكية الموجودة على الأراضي الإسرائيلية، نحو المخازن الأمريكية في ألمانيا ودول أخرى، من أجل استدامة تزويد الجيش الأوكراني بهذا النوع، وبالفعل تم شحن حوالي نصف القذائف الموجودة في هذا المخزون، أي نحو 57 ألف قذيفة شديدة الانفجار.
ومع بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، طلبت تل أبيب من واشنطن دعمها بالقذائف المدفعية من هذا العيار، نظرًا لأن مدفع الهاوتزر الأساسي في التسليح الإسرائيلي، هو المدفع الأمريكي من عيار 155 ملم “M-109″، وبالتالي أعلنت واشنطن عقب السابع من أكتوبر مباشرة، عن بدء إعادة المخزون الأمريكي من هذه القذائف، من المخازن الأمريكية في أوروبا، إلى المخازن الموجودة على الأراضي الإسرائيلية، مع توجه واشنطن إلى إزالة القيود المفروضة على جميع فئات الأسلحة والذخيرة، التي يُسمح لإسرائيل بالوصول إليها من مخزونات الأسلحة الأمريكية في إسرائيل، والمعروفة باسم “WRSA-I”.
وبما أن هذه القذائف كانت مخصصة في الأساس لدعم الجيش الأوكراني، تسبب نقلها إلى تل أبيب في تناقص حاد في المخزونات المتوفرة التي يمكن أن تعوض منها كييف الذخائر التي يتم استخدامها في ميادين القتال، وقد أعلن الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، بالفعل عن انخفاض شحنات قذائف المدفعية التي تحصل عليها بلاده بشكل عام، خاصة أن جهود الدول الأوروبية لإنتاج ما يصل إلى مليون قذيفة مدفعية من هذا النوع، تواجهها مصاعب مالية ولوجستية، ناهيك عن أن هذه الخطة طويلة المدى، ولن توفر الاحتياجات الحالية للجيش الأوكراني، وهو الوضع الذي يجعل من الجائز جدًا أن تلجأ الولايات المتحدة الأمريكية – في حالة استمرار القتال في غزة لفترة أطول – إلى الاستمرار في دعم تل أبيب بهذه القذائف، على حساب كييف.
النقطة الثانية في هذا الصدد، تتعلق بقذائف الدبابات، فعلى الرغم من اعتماد الجيش الأوكراني بشكل كبير على دبابات القتال شرقية المنشأ، إلا أنه تلقى عدة أنواع من الدبابات غربية المنشأ، التي تتزود بمدافع رئيسية من عيار 120 ملم، بواقع 31 دبابة من نوع “إبرامز” أمريكية الصنع، و61 دبابة من نوع “ليوبارد” ألمانية الصنع، و14 دبابة من نوع “تشالينجر” بريطانية الصنع. وبطبيعة الحال تحتاج هذه الدبابات إلى مخزونات متوفرة من القذائف المخصصة لهذا العيار.
لكن بعد بدء العمليات الإسرائيلية في غزة، بدا أن الجيش الإسرائيلي قد استنزف مخزوناته من قذائف الدبابات عيار 120 ملم، الخاصة بـ دبابات ميركافا-3″ و”ميركافا-4″، التي تتسلح بمدفع رئيسي من عيار 120 ملم، فطلبت تل أبيب من واشنطن، تزويدها بكميات كبيرة من هذه القذائف، وقد وافقت وزارة الخارجية الأمريكية بالفعل في الثامن من ديسمبر 2023، على صفقة محتملة لإسرائيل لبيع قرابة 45 ألف قذيفة دبابات من عيار 120 ملم من أنواع مختلفة – من بينها 14 ألف قذيفة شديدة الانفجار من نوع “M830A1” – بتكلفة تقديرية تصل إلى 106.5 ملايين دولار.
وقد استخدمت إدارة بايدن سلطة الطوارئ الاستثنائية، للموافقة على هذه الصفقة، دون انتظار مراجعة الكونجرس التي تتم بشكل معتاد على صفقات السلاح لإعطاء الموافقة النهائية، وكان الغرض الأساسي لهذه الصفقة هو تعويض النقص الذي حدث في المخزونات الإسرائيلية من هذه القذائف، ليس فقط من أجل استخدامها لاحقًا في غزة، بل أيضًا استعدادًا لاحتمالات توسع العمليات العسكرية البرية الإسرائيلية، نحو جنوب لبنان، وهو ما يتطلب وجود احتياطي كبير ومستقر من قذائف الدبابات، وهذا في المجمل أثر على ما يتم توفيره من قذائف دبابات للجيش الأوكراني، وإن كان هذا التأثير أقل بكثير من التأثير المتعلق بقذائف المدفعية، بالنظر إلى اعتماد كييف بشكل أكبر على الدبابات شرقية المنشأ.
يضاف إلى هاتين النقطتين، نقطة أخرى “محتملة”، ترتبط بالذخائر الجوالة، حيث يحتمل نشوء معضلة إضافية تتعلق بالذخائر الجوالة، حيث سبقت الإشارة إلى طلب تل أبيب عدد 200 ذخيرة جوالة أمريكية الصنع من نوع “سويتش بلايد-600” – لم تتوفر دلائل ملموسة حتى الآن على حصولها عليها – وبما أن الجيش الأوكراني قد تلقى بالفعل مئات الذخائر من هذا النوع، فإن إنتاج مزيد من الذخائر من هذا النوع، وتوفيره لكل من تل أبيب وكييف، ربما قد يشكل معضلة خلال المدى المنظور، خاصة في حالة طلب تل أبيب مزيد من الكميات خلال الفترة المقبلة.
مصاعب أمريكية وأوروبية وإعادة تفكير في التكتيكات
يضاف إلى ما سبق، بعض النقاط المتعلقة بالجوانب الداخلية الأمريكية والأوروبية على المستوى السياسي والمالي، والتي بدأت منذ أشهر في التفاعل بشكل ألقى بظلاله على فعالية الدعم المقدم للجيش الأوكراني، منها التغيرات اللافتة التي ظهرت في التوجهات الاستراتيجية الأمريكية نحو أوكرانيا على الجانب العسكري، فقد بدأت واشنطن أوائل سبتمبر 2023، في إعادة تقييم استراتيجيتها في أوكرانيا، فيما يتعلق بالدعم العسكري المقدم لكييف، بعد أن اتضح عدم تحقيق كييف على مستوى هجومها المضاد، نتائج ميدانية معتبرة، وهو ما دفع واشنطن للبدء في إعادة تكوين استراتيجية عسكرية محافظة، ترتكز على الحفاظ على الأراضي الموجودة حاليًا تحت سيطرة الجيش الأوكراني، وتعزيز الإمدادات والقوات على مدار العام، وهي استراتيجية لا تتوافق مع الاستراتيجية الأوكرانية المتبعة حتى الآن، والتي ترتكز على مواصلة العمليات الهجومية، سواء عبر تحركات ميدانية متقدمة، أو الضربات الصاروخية والمسيرة بعيدة المدى. الاستراتيجية الأمريكية التي يتم إعدادها، تتمحور بشكل رئيس حول تكتيك “الإمساك بالأرض والتطوير الذاتي للقدرات العسكرية”، بحيث يتم التركيز على عدم فقدان أراضٍ جديدة، وفي نفس الوقت تعظيم عمليات تصنيع الأسلحة محليًا في أوكرانيا، وهي بنود ترى الولايات المتحدة أنها ستضمن لكييف التصدي بشكل فعال لأية عمليات هجومية روسية مقبلة.
كييف من جانبها، ما زالت ترى أن هجومها المضاد لم يكن فاشلًا بشكل كامل، وأن الضربات الصاروخية والمسيرة التي تم تنفيذها في عمق الأراضي الروسية وفي شبه جزيرة القرم، كانت ناجحة للغاية وألحقت خسائر مهمة في الجانب الروسي على المستوى التسليحي والاستراتيجي. هذه الرؤية تتقاطع بعض زواياها مع جانب من التوجهات الأمريكية، التي ترى أنه يمكن البناء على النجاحات الأوكرانية في هذا الصدد خلال العام المقبل، بحيث تستمر هذه الضربات كوسيلة “ردع” وليست كوسيلة لتدعيم الهجمات البرية. في هذا الصدد تطرأ زاوية تتعلق بمدى الإمكانات المتوفرة لكييف على المستوى التسليحي لتعويض تراجع الدعم العسكري الأمريكي، وهنا يمكن القول إن كييف تستطيع زيادة الاعتماد على الوسائط المدفعية شرقية المنشأ، والتي تمتلك قاعدة تصنيع كبيرة لها، بجانب توسيع الشركات الأوكرانية العاملة في مجال تصنيع الطائرات بدون طيار، عمليات تطوير الطائرات الهجومية بدون طيار، وباتت تعتمد على الطائرات محلية الصنع في هجماتها على الأراضي الروسية وشبه جزيرة القرم، وكذلك على التعديلات محلية الصنع التي تم إجراؤها على الطائرات التجارية بدون طيار، والتي تعمل على نمط منظور الشخص الأول “FPV”.
وقد أصبح ملحوظًا بالنسبة لأوكرانيا، تصاعد المصاعب المتعلقة بإقرار حزم المساعدة المالية المخصصة لها في الكونجرس الأمريكي، فمن جانب، وافق مجلس النواب الأمريكي الذي يسيطر عليه الجمهوريون، بشكل سلس، على مشروع القانون الخاص بحزمة المساعدات العسكرية المخصصة لتل أبيب، بقيمة 14.3 مليار دولار، في حين يعارض الجمهوريون منح المزيد من المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا، مطالبين بالتركيز على دعم إسرائيل، في حين يطالب نواب آخرون برؤية استراتيجية جديدة قبل التصويت لصالح أي أموال إضافية لكييف، وهو ما تسبب في المجمل في وصول الدعم الأمريكي المقدم لكييف إلى نقطة حرجة، دفعت إدارة بايدن للتحذير بشكل واضح، من أنه بحلول منتصف نوفمبر 2023، تم إنفاق نحو 97 % من المساعدات العسكرية التي تمت الموافقة عليها سابقًا لأوكرانيا، وبالتالي ما تبقى من تمويل أمريكي مصرّح به لدعم أوكرانيا هذا العام، لما يعد يكفي سوى لحزمة إضافية واحدة، قبل أن يتعين على الكونجرس المصادقة على مساعدات جديدة لكييف.
وحقيقة الأمر أن موقف الجمهوريين هذا، يعزى في جزء كبير منه إلى امتعاضهم من تفضيل إدارة بايدن خلال الفترة الماضية، تقديم الدعم لأوكرانيا، على حساب قضايا أمريكية داخلية، مثل أمن الحدود، لذا عرقلوا مؤخرًا محاولة إقرار حزمة إنفاق طارئة، كانت ستمنح كييف 61.4 مليار دولار من المساعدة العسكرية، وبالتالي لم يعد متوفرًا سوى 300 مليون دولار فقط من التمويل العسكري لكييف، تضمنتها الميزانية الدفاعية لعام 2024، والتي أقرها الكونجرس مؤخرًا، علمًا أن الكونجرس قد أقر قانونًا بشأن التمويل المؤقت لعمل الحكومة حتى 19 يناير 2024، لا يشمل مساعدات لجبهتي الحرب في غزة وأوكرانيا.
بالتالي، بات من الصعب على إدارة بايدن جراء هذا الوضع، الوفاء بما تعهدت به سابقًا بشأن حزمة مساعدات عسكرية جديدة لكييف بقيمة 61 مليار دولار، خاصة أن عوامل إضافية أخرى تعمل ضد هذا التوجه، منها الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في نوفمبر القادم، وكذلك اندلاع القتال في قطاع غزة، ونشوء أصوات داخلية لا تحبذ تمويل حربين في آن واحد، وتطالب بوضع أولوية أساسية للولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصدد، نظرًا لتجاوز الديون الأمريكية حاجز 33 تريليون دولار، وهو رقم قياسي غير مسبوق يشكل نحو 11 % من إجمالي الديون على مستوى العالم.
أوروبيًا، وعلى الرغم من أن الدعم الأوروبي العسكري لكييف وصل إلى ذروته أوائل العام الماضي، إلا أن كييف بدأت تلاحظ تراجع الدعم الألماني والفرنسي المقدم لها في هذا الصدد خلال الأشهر الأخيرة، وهو تراجع ساهم في بروز بعض الأصوات الأوروبية، المطالبة بأن تتولى بريطانيا قيادة تحالف جديد من الدول الأوروبية، لتقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا، خاصة أن الحزمة الأوروبية الحالية التي تم رصدها من أجل تقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، والبالغة قيمتها 18 مليار يورو، أوشكت على النفاذ، وأصبحت الدول الأوروبية حاليًا في نقاش حول رصد حزمة مساعدات جديدة بقيمة 21 مليار يورو.
النقاشات حول هذا الأمر تشوبها مصاعب متزايدة، نتيجة وجود أصوات أوروبية ترى أن الهجوم الأوكراني المضاد لم يؤدي إلى نتائج إيجابية، ولا يتضمن استراتيجية واضحة على المستوى التكتيكي والميداني، خاصة بعد أن تبين أن الخطوط الدفاعية للجيش الروسي أقوى بكثير مما كان متوقعًا، وأن الجيش الروسي لم يواجه مشاكل فيما يتعلق بالذخائر والأسلحة المتوفرة، نتيجة لجوئه إلى دول أخرى، وتفعيله بشكل أكبر لعمليات إعادة تأهيل المدافع والدبابات الموجودة في مخازنه، وكذا حفاظه على مستويات عالية من التصنيع العسكري، وهو ما أسهم في المجمل في تماسك الخطوط الروسية، خاصة في الجبهة الشرقية.
يضاف إلى ذلك، أن بعض الدول الأوروبية، أصبحت تواجه مصاعب مالية أو سياسية، تحد من قدرتها على إدامة الدعم العسكري لكييف، ومن أمثلة ذلك إيطاليا، حيث أعلن وزير الدفاع الإيطالي، غويدو كروزيتو، في شهر ديسمبر 2023، أن بلاده بصدد إعداد الدفعة الثامنة من المساعدات إلى أوكرانيا، لعرضها بنهاية العام الجاري، على اللجنة البرلمانية لأمن الجمهورية، نظرًا لأن مرسوم إرسال الأسلحة الإيطالية إلى أوكرانيا، أوشك على الانتهاء، وسيتعين على مجلس النواب الإيطالي، تحديد ما إذا كان سيمدد هذا المرسوم أم لا، خاصة أن عدة كتل برلمانية إيطالية، تعارض تمديد هذا المرسوم، ومنها حركة “خمس نجوم” المعارضة. هولندا تعتبر مثالًا إضافيًا على ذلك، فقد صرح زعيم حزب الحرية الفائز بالانتخابات الأخيرة، خيرت فيلدرز، أن السلطات الهولندية لا ينبغي لها أن تقدم الدعم لكييف، في حين أنها غير قادرة على تأمين الدفاع عن البلاد.
أما بالنسبة لألمانيا، التي أعلنت مؤخرًا أنها ستضاعف التمويل لأوكرانيا ليصل إلى 8 مليارات يورو، العام المقبل، لا ترغب في نفس الوقت، في المساهمة ماليًا في مخصصات الاتحاد الأوروبي لدعم أوكرانيا، وهو نفس موقف دول أخرى مثل المجر. أما سلوفاكيا، فقد أوقفت حكومتها الجديدة، بقيادة فيكتور أوربان، حزمة مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة 40.3 مليون يورو، كانت أعدتها الحكومة السابقة، وأعلنت أنها لن تقدم أية مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا، على الرغم من تأكيدها في نفس الوقت، أنها تحترم العقود التي جرى توقيعها مع شركات خاصة بالبلاد لتوريد أسلحة لأوكرانيا.
وعلى الرغم من أن حلف الناتو قد جدد منذ أيام، تأكيده على مواصلة تقديم الدعم العسكري لكييف، إلا أن هذا التأكيد لم يتضمن الكشف عن أية توريدات محددة من الأسلحة، وتضمن في طياته فقط الحديث عن “تعزيز الدفاعات الجوية الأوكرانية”، وهو تأكيد يحمل في حد ذاته إشارة إلى النظرة الأوروبية “الدفاعية” لمستقبل العمليات العسكرية في أوكرانيا. يضاف إلى ذلك بروز احتمالات كبيرة لعجز الولايات المتحدة الأمريكية عن الاستمرار في تزويد الجيش الأوكراني بصواريخ الدفاع الجوي “باتريوت”، لنقص في التمويل المتاح، حيث تصل تكلفة إنتاج الصاروخ الواحد إلى أربعة ملايين دولار، وهنا تبدو بوادر أزمة تسليحية جديدة أمام الجيش الأوكراني، الذي أعترف المتحدث باسم قواته الجوية مؤخرًا، بوجود نقص حاد في الصواريخ الموجهة المضادة للطائرات، علمًا أن الطلبات الأوكرانية الأخيرة حيال هذا الأمر، لم تتم تلبيتها سوى من إسبانيا، التي أعلنت مؤخرًا أنها سترسل ست بطاريات إضافية من منظومات الدفاع الجوي الأمريكية الصنع “هوك”.
في الخلاصة، يمكن القول إن العوامل السابقة تشير إلى وجود تفكير أوروبي وأمريكي – حتى من قبل اندلاع معارك غزة – في تقليل الدعم العسكري المقدم لكييف، وهو توجه أشارت صحف غربية عدة إلى أنه بات يستهدف إجبار كييف، في مرحلة لاحقة، على التفاوض مع روسيا، خاصة بعد أن اتضح عجز الجيش الأوكراني عن تحقيق مكاسب ميدانية أساسية من خلال هجومها المضاد. وفاقم بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، من هذا الوضع، على الرغم من أن التداخل بين الدعم العسكري المقدم لكييف والدعم المقدم لتل أبيب يبقى محدودًا، ومنحصرًا بشكل رئيس في قذائف المدفعية، وجزئيًا في قذائف الدبابات والذخائر الجوالة، لكن الأكيد أن واقع الحال يشير إلى أن تل أبيب تمثل أولوية بالنسبة لواشنطن أكبر من كييف، وبالتالي سواء استمرت العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة أو لم تستمر، فإن واشنطن تواجه عوامل عديدة تجعلها تسعى في المدى المنظور، للتقليل من هامش دعمها العسكري لكييف، وعليه فإن تأثير ذلك على كييف سيكون جذريًا خاصة على المستوى الميداني، وهو ما بدأت بوادره في الظهور.