مصر وموريتانيا: تحولات نوعية في العلاقات الثنائية
تأتي زيارة الرئيس الموريتاني “محمد ولد الشيخ الغزواني” إلى القاهرة اليوم (الرابع من يونيو 2023)، في ضوء التغيرات الجيوستراتيجية الإقليمية عربيًا وأفريقيًا، وكذلك على صعيد مساعي الجانبين لتدارك تلك التغيرات وتطلعهما لتوطيد الشراكات الأمنية والاقتصادية بما يحقق مصالحهما المشتركة. وتمثل هذه الزيارة الأولى لـ”ولد الشيخ الغزواني” منذ انتخابه رئيسًا لموريتانيا، بما يعزّز من مسار التحول في علاقات البلدين. وتأتي هذه الزيارة بعد جولة خارجية خليجية قام بها الرئيس الموريتاني خلال شهر مارس من العام الجاري، شملت كلًا من الدوحة وأبو ظبي، بما يعكس الإدراك الموريتاني لأهمية الانخراط وتعزيز الوجود على صعيد دوائر التكتلات الرئيسة في الإقليم الخليجية والعربية.
مجالات مُحفزة
إن زيارة “ولد الشيخ الغزواني” لمصر تأتي في خضم ما تشهده العلاقات المصرية الموريتانية من تطور ملحوظ في الآونة الأخيرة، برز في الزيارات المختلفة التي قام بها عدد من المسؤولين الموريتانيين رفيعي المستوى، مثلما هو الحال بالنسبة لزيارة وزير الدفاع الموريتاني “حننا ولد سيدي” في الثلاثين من يناير 2023 والتي تعكس حجم التطلع الموريتاني لتعزيز تعاونها العسكري مع مصر في ضوء التحولات الجيوستراتيجية في ملف مواجهة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء.
ليس هذا فحسب، بل تبع هذا المسار زيارة مماثلة للسيد “محمد سالم ولد مرزوك” وزير الشئون الخارجية والتعاون الموريتاني في مايو 2023؛ والتي تبرهن على المساعي الثنائية نحو نقل العلاقات المتبادلة لمستوى استراتيجي على الصعيد السياسي والدبلوماسي والعسكري وكذلك الاقتصادي؛ وهو ما أكده الرئيس عبد الفتاح السيسي على هامش اللقاء الذي جمعه ووزير الخارجية الموريتاني.
أما على الصعيد الاقتصادي فتجمع مصر وموريتانيا شراكة اقتصادية وتجارية برزت فيما شهدته قيمة التبادل التجاري بينهما من ارتفاع خلال عام 2022 والتي بلغت نحو 42.9 مليون دولار بعدما كانت قرابة 38 مليون دولار في عام 2021.
وينخرط في هذا الأمر بعد آخر يتجلى في ورقة الطاقة وخاصةً الغاز التي باتت آلية للتعاون وكذلك للصراع؛ وفي ضوء ما تمتلكه مصر من وضعية متفردة في هذا القطاع وما تتطلع له موريتانيا في التوظيف الأمثل والاستفادة من مصادر الطاقة لديها خاصة المقُدرة بنحو 80 تريليون قدم مكعبة -وفقًا لما صرّح به “أحمد فال ولد محمدن” المستشار المكلف بالتعاون والاتصال لدى وزارة البترول والمعادن والطاقة الموريتانية على هامش مشاركة موريتانيا في الاجتماع الوزاري الرابع والعشرين لمنتدى الدول المصدّرة للغاز الذي انقعد بالقاهرة في الخامس والعشرين من أكتوبر 2022- ومن ثم فإن هناك دورًا يتشكّل لكل من مصر وموريتانيا في مشهد الطاقة الإقليمي الجديد، ويحقق تعاونًا في مجال صناعة البترول والغاز والتعدين بما يحقق مصالحهما المتبادلة.
وتاريخيًا تشهد العلاقات المصرية الموريتانية تفاعلًا بنّاءً؛ إذ إن مصر كان لها دور رئيس في تصفية الخلاف الموريتاني السنغالي في عام 1989، وإبرام اتفاقية سلام مشتركة. وتصطف نواكشوط كذلك في خط القاهرة في ضوء القضايا الإقليمية الأفريقية والعربية، وتدعم كذلك القاهرة في المنظمات الدولية والأفريقية.
أهداف متعددة
تأتي زيارة الرئيس الموريتاني إلى القاهرة في ضوء مساعي القاهرة ونواكشوط لتحقيق شراكة استراتيجية تنتقل من التعاون الاقتصادي والسياسي إلى مزيد من التنسيق الأمني والعسكري، في ضوء متغيرات عدة في مقدمتها خطط إعادة الانتشار العسكري الغربي في منطقة الساحل والصحراء. ولعل الأهداف الكامنة وراء زيارة “ولد الشيخ الغزواني” للقاهرة يمكن بلورتها في النقاط التالية:
مواءمة التغيرات الاستراتيجية في الشمال الأفريقي: واحد من بين تطلعات الجانب الموريتاني هو موازنة معادلة التفاعلات الإقليمية الراهنة في دائرة المغرب العربي، في ضوء تنامي العلاقات المغربية الإسرائيلية في مقابل تزايد وتيرة التفاعل الجزائري الإيراني، بما يُشكل بيئة نحو نقل التصعيد الإسرائيلي الإيراني للمسرح المغاربي، لذا فمن الأهمية بمكان توطيد شراكة موريتانيا الأمنية والعسكرية لمواءمة تلك المتغيرات.
فك الارتباط وتعدد الشركات الإقليمية: واحد من بين أهداف تلك الزيارة هو مساعي موريتانيا نحو تعزيز ثقلها الإقليمي بالتعاون مع القوى الفاعلة إقليميًا؛ خاصةً بعدما افتقدت الورقة المغربية في إطار تفاعلاتها البينية على ضوء تصدع العلاقات الجزائرية المغربية. لذا تستهدف موريتانيا فك الارتباط المغاربي -في ضوء ما يشهده من استقطابات متعددة- والبحث عن شراكات إقليمية داعمة لسياساتها الأمنية والاقتصادية على المستويين العربي والأفريقي.
تعزيز الأمن في الساحل والصحراء: واحد من مجالات الاهتمام المشترك بين مصر وموريتانيا يتمثل في التعاون العسكري في ملف مكافحة الإرهاب؛ في ضوء ما تمتاز به مصر من خبرات وتجربة حقيقية في التصدي لموجات الإرهاب المختلفة وطنيًا وإقليميًا؛ وكذلك في إطار تأسيسها مركز مكافحة الإرهاب لتجمع دول الساحل والصحراء الذي يستهدف تنسيق الجهود الإقليمية وتبادل المعلومات الاستخباراتية في ضوء المواجهة الشاملة للإرهاب، هذه الآليات تتوافق مع ما تشهد موريتانيا من تحوّل لدورها الإقليمي والتعويل الغربي (حلف الناتو على وجه التحديد) عليها في هذا الملف، خاصة في أعقاب عمليات إعادة الانتشار للقوى الغربية الموجودة في مناطق التوتر داخل هذا النطاق الإقليمي.
وإجمالًا؛ إن العلاقات المصرية الموريتانية تشهد نشاطًا مكثفًا منذ النصف الأول من العام الجاري، بما يعكس مساعي القاهرة ونواكشوط نحو أهمية التنسيق المشترك في مواجهة الملفات الإقليمية ذات الاهتمام المشتركة وفي مقدمتها الأمن الإقليمي وخاصة في الساحل والصحراء، إلى جانب إيلاء أهمية كبرى نحو تعزيز انخراط ومشاركة موريتانيا في معالجة القضايا الإقليمية وقيامها بدور مؤثر في تلك القضايا، إلى جانب ضروريات العمل المشترك على الصعيد الاقتصادي وخاصة في مجال الطاقة، بما يحقق منفعة متبادلة للجانبين؛ فمصر رقم مهم بالنسبة للمعادلة الأمنية والاقتصادية الموريتانية، وكذلك باتت نواكشوط تُشكل قيمة مضافة على صعيد الشراكات الأفريقية الغربية في ضوء الاهتمام الأخير من قِبل حلف الناتو بها.