الأمريكتان

الارتباك الجوي.. ما وراء “الأجسام الغامضة” في الأجواء الأمريكية؟

على بعد مئات الأميال من مسرح العمليات العسكري الأبرز حاليًا على المستوى الدولي -في أوكرانيا-، وعلى بعد آلاف الاميال من النطاق الجغرافي الأكثر توترًا خلال الفترة الماضية -بحر الصين الجنوبي-؛ دخلت منظومة الدفاع الجوي الأمريكية خلال الشهر الجاري في عدة اختبارات مفاجئة، كانت بدايتها عبر دخول “المنطاد الصيني” للأجواء الأمريكية ومكوثه نحو ثلاثة أيام فيها، ونهايتها تمثلت في رصد ثلاثة أجسام جوية غير محددة الهوية، أُسقط اثنان منها على الأقل.

ربما لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استنفار منظومة الدفاع الجوي الأمريكية بشكل عاجل ضد “أهداف جوية غير محددة الهوية”؛ فهذه الظاهرة كانت قيد التكرار شبه الدوري منذ ستينيات القرن الماضي، وارتبطت بعدة عوامل ميدانية وتكنولوجية فرضتها فترة الحرب الباردة، وحالة السيولة التسليحية التي شابت تطوير كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية لمختلف أنواع الأجسام الجوية العسكرية. لكن ما يميز تطورات الشهر الجاري في الولايات المتحدة أن عمليات رصد الأجسام الجوية “غير محددة الهوية”، جاءت بالتزامن مع تحليق المنطاد الهوائي الذي أكدت الصين تبعيته لها، وكذلك بالتزامن مع حديث السلطات الصينية من جانبها أنها رصدت جسمًا جويًا غير محدد الهوية في أجوائها.

لذا قد يبدو من هذا المشهد -من حيث الشكل- ملامح “تراشق” جوي يحاول فيه كلا الجانبين اختبار مدى استجابة منظومة الإنذار المبكر الخاصة بالطرف الآخر، وفي نفس الوقت استخدام “الإحراج” الذي يمكن أن ينتج عن دخول مثل هذه الأجسام للمجالات الجوية الوطنية -خاصة في حالة المنطاد الصيني- كوسيلة لإحراز أهداف على المستوى الدعائي والإعلامي، في ظل التوتر الذي يسود منذ فترة العلاقة بين بكين وواشنطن على خلفية ملف تايوان وملفات أخرى لها صبغة دولية، ولهذا لم يكن مستغربًا أن تلجأ بكين إلى إرسال رسالة ميدانية من بحر الصين الجنوبي عبر استخدامها “ليزر عالي الطاقة” ضد طاقم أحد زوارق حرس السواحل الفلبينية منذ أيام.

ماذا حدث في الأجواء الأمريكية؟

من عملية إسقاط المنطاد الصيني في أجواء ولاية كارولينا الجنوبية في الرابع من الشهر الجاري، رصدت قيادة الدفاع الفضائي الجوي لأمريكا الشمالية “NORAD” في التاسع من نفس الشهر جسمًا جويًا مجهولًا يحلق قرب الساحل الشمالي لولاية ألاسكا، في نطاق قريب من الحدود الكندية، ثم رُصد جسم مماثل لكن هذه المرة داخل الأجواء الكندية وتحديدًا في ولاية “يوكون” المتاخمة للحدود مع ولاية ألاسكا، ثم رُصد جسم ثالث قرب الحدود الكندية الأمريكية، لكنه هذه المرة كان في شمال ولاية “ميتشيغان”، وتحديدًا جنوبي جزيرة “مانيتولين” الكندية، فوق بحيرة “هورون”. 

في بداية الأمر، كانت هناك شكوك في أن يكون أحد هذه الأجسام المجهولة، هو المنطاد الهوائي الثاني الذي تم رُصد عبوره سابقًا أجواء كوستاريكا وفنزويلا وكولومبيا، لكن لم تثبت حتى الآن صلة ما بين هذه الأجسام والمناطيد الهوائية. 

حلقت هذه الأجسام على ارتفاعات تمثل -عمليًا- تهديدًا للطيران المدني، وتتراوح بين 6 و12 كيلو مترًا. أسقطت تشكيلات مختلطة من المقاتلات الأمريكية “إف-22″ و”إف-16” الأجسام الثلاثة، سواء الجسم الذي تم رصده شمال ألاسكا، أو الجسم الذي رُصد فوق الأراضي الكندية -بالتعاون مع سلاح الجو الكندي- أو الجسم الذي رُصد فوق بحيرة “هورون”. ولكن حتى الآن لم تظهر أية معلومات أو صور حول طبيعة هذه الأجسام التي ذكرت السلطات الأمريكية إن إحداها -وهو الجسم المرصود في ألاسكا- هو في حجم سيارة، في حين كان الجسم الذي تم رصده فوق بحيرة “هورون” على هيئة “هيكل مثمن الأضلاع مع خيوط متصلة به”.

بالتزامن مع رصد هذه الأجزاء، تحدثت الصحافة الحكومية الصينية في الثاني عشر من الشهر الجاري أن الرادارات الصينية قد رصدت جسمًا جويًا مجهولًا قبالة سواحل منطقة “ريتشاو” في مقاطعة شاندونغ شرقي البلاد، وهي منطقة مهمة على المستوى البحري؛ نظرًا إلى أنها تضم قاعدة “Qingdao” البحرية، وهي مقر قيادة أسطول بحر الشمال الصيني العامل في نطاق البحر الأصفر وبحر الصين الجنوبي. الإعلان الصيني عن هذا الجسم تلاه تصريح للمتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية ذكر فيه أن مناطيد أمريكية قد اخترقت المجال الجوي الصيني أكثر من عشرة مرات منذ يناير 2022.

الاحتمالات حيال “الأجسام الجوية الغامضة” في الأجواء الأمريكية

تبقى بكين مشتبهًا به أساسيًا فيما يتعلق بالأنشطة الجوية مجهولة الهوية في الأجواء الأمريكية، بالنظر إلى حادثة المنطاد الهوائي الذي أُسقط على ساحل ولاية كارولينا الجنوبية، علمًا بأن مسار هذا المنطاد قد مر عمليًا بكل من ولاية ألاسكا الأمريكية والجانب الغربي من الأراضي الكندية، وهوما يجعله مسارًا قريبًا من المواضع الجغرافية التي تم فيها رصد وإسقاط الأجسام الجوية المجهولة الثلاثة. 

يضاف إلى ذلك أن عمليات رصد المناطيد الهوائية الصينية قد تكررت بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة؛ ففي يونيو 2020، رُصد منطاد صيني في الأجواء اليابانية مطابق في تصميمه للمنطاد الهوائي الذي تم إسقاطه في الولايات المتحدة، ورُصد منطاد مشابه آخر في يناير 2022 قرب قاعدة بحرية هندية في جزر “أندمان ونيكوبار” شرق خليج البنغال.

لذا يمكن النظر لهذه الظاهرة على أنها جزء من خطة تستلهم من دروس استخدام المناطيد العسكرية خلال العقود السابقة، ما يمكن من خلاله البناء على تجهيز تقنيات جديدة تنقل التقنيات المسيرة إلى مستوى جديد تمامًا، خاصة في ظل الارتفاعات الكبيرة التي تحلق فيها المناطيد في وقتنا الحالي، والتي تتراوح بين 40 و50 كيلو مترًا، بجانب انخفاض تكاليف إنتاجها وتشغيلها مقارنة بأية وسائط جوية أخرى. 

أهمية المناطيد الهوائية كوسيلة للتجسس “العميق” بعيد المدى يمكن فهمها بشكل أكبر من خلال التقييم الأمريكي المبدئي للخصائص الفنية للمنطاد الصيني الذي تم إسقاطه؛ إذ أشار هذا التقييم إلى أن المنطاد الصيني كان قادرًا على جمع معلومات استخباراتية باستخدام هوائيات متعددة ومعدات أخرى مصممة لتحميل المعلومات الحساسة، مع ألواح طاقة شمسية لتشغيل هذه المعدات. وقد أشار هذا التقييم إلى أن منشأ تصنيع مكونات هذا المنطاد هو صيني بشكل شبه أكيد، لذا يبدو من المهم انتظار ظهور أية قطع من حطام الأجسام الجوية المجهولة التي تم إسقاطها لتحديد ما إذا كانت هناك علاقة بين هذه الأجسام والصين أم لا.

تاريخيًا، وعلى الرغم من أن عملية إسقاط الجسم الجوي فوق ألاسكا تعد حدثًا فريدًا بالنسبة للتاريخ العملياتي للدفاعات الجوية الأمريكية المنضوية تحت قيادة “نوراد”، فإن مسألة “الرصد” تبقى من أهم المسائل التي يجب النظر إليها بشكل أكثر تمعنًا، حيث يبدو أن قدرات الرصد الجوي الأمريكية، خاصة للأهداف الجوية بطيئة السرعة التي تحلق على ارتفاعات تتراوح بين 30 و50 كيلو مترًا قد طرأ عليها تطور مهم خلال السنوات الأخيرة، ولهذا تزايدت وتيرة رصد الأهداف الجوية التي تحلق قرب الحدود الأمريكية خلال الفترة الأخيرة.

ناهيك عن حديث المسؤولين الأمريكيين عن رصد تحطم منطاد صيني قبالة سواحل جزيرة “هاواي” منذ أشهر، وكذا دخول المناطيد الصينية الأجواء الأمريكية ثلاث مرات خلال فترة الإدارة الأمريكية السابقة. وبغض النظر عن إمكانية أن تكون هذه المعلومات جزءًا من “المناكفة السياسية” بين الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن تعدد حوادث رصد أهداف جوية مجهولة خلال العقود الأخيرة كان دافعًا كافيًا أمام واشنطن لتحسين قدرات الرصد الجوي المتوفرة لديها.

الأجسام الجوية “غير معروفة المصدر”

احتمالية أن تكون الأجسام الجوية التي دخلت الأجواء الأمريكية هي من الصين تبدو كبيرة بالنظر لما تقدم، لكن توجد احتمالات أخرى تتعلق بأن هذه الأجسام يمكن أن تكون تابعة لجهة أو دولة أخرى، او حتى قادمة من خارج الأرض، وهذا ربما ما يمكن فهمه من تصريحات قائد قيادة الدفاع الجوي الفضائي لأمريكا الشمالية، الجنرال غلين دي فانهيرك، الذي تحدث بصراحة في معرض تعليقه على الوضع الحالي عن أن كافة الاحتمالات المتعلقة بهذه الأجسام مطروحة على الطاولة. اللافت في كلام الجنرال فانهيرك، هو إقراره بوجود ثغرات في التغطية الرادارية للقيادة التي يتولاها، وعن أن جهودًا كبيرة بدأت كندا والولايات المتحدة الأمريكية في القيام بها منذ فترة لتحسين قدرة هذه التغطية ودقتها.

الأخطاء والمشاكل التي تطرأ أحيانًا على عمليات الرصد الراداري كان لها في أحيان عديدة دور في الإيحاء بوجود تهديدات جوية، ليست موجودة في أرض الواقع، ومن أمثلة ذلك ما يطلق عليه اسم “معركة لوس أنجلوس”، وهو الاسم الذي يطلق على حالة الارتباك التي انتابت وحدات الدفاع الجوي الأمريكية المتمركزة في مدينة “لوس أنجلوس” الأمريكية بولاية كاليفورنيا خلال شهر فبراير عام 1942، والتي تضمنت إطلاق المدفعية المضادة للطائرات بشكل مكثف ضد أهداف جوية تم فيما بعد اكتشاف أنها غير موجودة، وأن ما حدث كانت نتيجة لحالة التوتر التي انتابت الوحدات العسكرية الأمريكية التي دخلت في حالة من الاستعداد الدائم؛ خشية هجمات يابانية على الأراضي الأمريكية، خاصة أن هذه الأحداث تمت بعد نحو ثلاثة أشهر من الهجوم الياباني على ميناء “بيرل هاربور”.

مسألة الأجسام الفضائية “UFOs”، كانت دومًا من المسائل الملحة على صناع القرار في المؤسسة العسكرية الأمريكية منذ خمسينيات القرن الماضي؛ نتيجة لأن هذه الظاهرة -التي ترتبط بشكل شبه كامل بمشاهدات تتفاوت دقتها أو ارتباطها بعوامل أخرى تؤثر على عمليات الرصد والمشاهدة- قد تداخلت بشكل واضح مع عمليات التدريب الجوي والبحري التي تجريها الولايات المتحدة الأمريكية، لدرجة أثرت في بعض الأحيان على الجاهزية القتالية وكفاءة التدريب. 

لذا أسست واشنطن عدة مكاتب لمتابعة هذه الظاهرة، منها مكتب حل جميع المجالات الشاذة (AARO) الذي تم تأسيسه كجزء من مكتب وزير الدفاع الأمريكي في يوليو 2022، ويختص ببحث “الظواهر الشاذة غير المحددة”، سواء في الفضاء أو في الجو أو على الأرض أو في البحر أو تحت سطح البحر التي قد تشكل تهديدًا للمنشآت أو العمليات العسكرية الأمريكية، وتتبع له ثلاث فرق عمل أساسية تضطلع بمهام جمع التقارير المتوفرة حول المشاهدات التي يسجلها الجنود الأمريكيون لظواهر جوية غير محددة بشكل دقيق.

التقارير الأخيرة حول هذه الظاهرة أوضحت زيادة ملحوظة في الظواهر الجوية “UFOs” التي يتم رصدها من جانب الجنود الأمريكيين بواقع 247 ظاهرة تم رصدها منذ يونيو 2021، يضاف إليها 144 حالة تحت الفحص، و119 حالة تعود لعقود سابقة ولم يتم تحديد ماهيتها حتى الآن. 

واذا ما وضعنا في الحسبان أنه خلال الـ 17 عامًا التي سبقت مارس 2021 تم تسجيل 144 مشاهدة مزعومة لأجسام غير محددة الهوية “UFOs” من جانب القوات الأمريكية، وتمت مقارنة هذا بنحو 366 مشاهدة تم رصدها بين مارس 2021 وأغسطس 2022، نستطيع أن نصل إلى قناعة أن هذه الظاهرة تمثل أيضًا عاملًا مهمًا فيما يتعلق بالأنشطة الجوية في الأجواء الأمريكية.

علاوة على ذلك، أدت عمليات إسقاط الأجسام الجوية المجهولة إلى إعادة الجدل أيضًا بشأن عمليات رصد أجسام مشابهة خلال العقود الماضية في الولايات الأمريكية، وهي عمليات كان للتقدم التكنولوجي المتعلق بالأنظمة المسيرة -خاصة الطائرات بدون طيار- دور كبير في انتشارها؛ إذ خلقت الصعوبة الكامنة في اكتشاف وتتبع ومكافحة الطائرات بدون طيار تحديات مهمة أمام الدفاعات الجوية على مستوى العالم، خاصة أن هذه الطائرات -خاصة الصغيرة منها- يمكن أن تسبب ارتباكًا كبيرًا لمنظومات الدفاع الجوي ورادارات المراقبة المدنية في المطارات.

هذا يضاف إلى أن دور “الأجسام الجوية غير المحددة”، قد تداخل مع تدريبات بحرية كبيرة للجيش الأمريكي، ولمدد طويلة، كما حدث بين شهري أبريل ويوليو 2019، حين تعرضت عدة قطع بحرية أمريكية قرب قاعدة مشاة البحرية الأمريكية في “كامب بندلتون”، وعلى طول الساحل المقابل لكاليفورنيا، لسلسلة من عمليات التحليق الليلي لتشكيلات غير محددة الهوية من الأجسام الجوية صغيرة الحجم، وحينها كانت التقديرات تشير إلى أنها ربما تكون طائرات مسيرة. 

وقد تكررت هذه الحوادث بنفس النسق تقريبًا خلال أعوام 2004 و2014 و2015، مع المجموعات البحرية المرافقة لحاملتي الطائرات “يو اس اس نيميتز” و”يو اس اس تيودور روزفلت”، وحينها قامت وزارة الدفاع الأمريكية بتجميع كافة اللقطات التي تم تصويرها للأجسام المجهولة التي حلقت حول القطع البحرية الأمريكية، وأصدرت عام 2020 بعض من هذه اللقطات بشكل رسمي، لكن حتى الآن لم يتم التوصل إلى تفسير واضح لهذه الظواهر.

خلاصة القول، إن ما تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الجوي يبدو أكبر بكثير من مجرد التعامل مع مخاطر استخدام المناطيد الهوائية كسلاح حربي، علمًا بأن هذا الاستخدام -والذي جربته الولايات المتحدة الأمريكية سابقًا سواء من زاوية المستخدم أو من زاوية المتلقي- باتت تهتم به دول أخرى عدة، من بينها فرنسا، التي صرح الشهر الماضي رئيس أركان سلاحها الجوي بأن عمليات “المجال الجوي المرتفع” -ويقصد هنا المدى الذي يتراوح بين 20 و100 كيلو متر- باتت مرشحة لتكون محور العمليات الجوية خلال السنوات المقبلة، خاصة أن التكنولوجيا الحديثة أصبحت تتيح استخدام مناطيد هوائية ذات تقنية عالية وفي نفس الوقت رخيصة الثمن. 

التحدي الأكبر من هذا يكمن في تطويع الدفاعات الجوية والرادارية للتعامل مع المخاطر الجوية المستحدثة، وهو الوضع الذي أثبتت الطائرات المسيرة، ومن قبلها “الأجسام الجوية المجهولة، ومن بعدهما المناطيد، أن الطريق لتحقيقه مازال طويلًا، وأن الجهة التي ستتمكن من استغلال النطاقات الجوية العليا بشكل أقل انكشافًا للدفاع الجوية وأرخص من حيث التكاليف المادية يمكن أن تمتلك القدرة على استطلاع وكشف أراضي الطرف الأخر، حتى ولو كانت على بعد مئات الأميال، بدون الحاجة إلى قدرات جوية متفوقة أو استخدام مكلف للأقمار الصناعية التي باتت هي الأخرى في السنوات الأخيرة في مرمى الأسلحة المضادة.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى