العراقروسيا

شراكة تجارية وما هو أكثر: ماذا تريد موسكو من العراق؟

لم تكن لحظة إنزال العلم الأمريكي، ديسمبر 2011، في حفل حضره وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، “ليون بانيتا” في مطار بغداد الدولي، مجرد إعلان رسمي عادي عن إنهاء الحرب الأمريكية على العراق بعد مرور تسع سنوات قضتهم البلاد تحت الاحتلال الأمريكي، بل يظل من الأجدر الاعتراف أن هذه اللحظة كانت صافرة انطلاق لحقبة زمنية جديدة سوف تشهدها البلاد فيما بعد، ولا تقل اضطرابًا عما عاصرته منذ اللحظات الأولى التي وطئت فيها أقدام المحتل الأجنبي ترابها. 

وبعد أن ترك التسرع بصماته على الانسحاب الأمريكي من العراق قبل وجود هيكل محدد للنظام السياسي في العراق أو حتى صياغة دستور واجراء انتخابات، وبعد تفتيت القوات المسلحة العراقية والقضاء عليها تمامًا بشكل يجعلها عاجزة عن الاضطلاع بمهامها في حماية البلاد والحفاظ على وحدتها، بشكل خلف وراءه فراغًا عملاقًا في العراق كان من أبرز نتائجه هو نمو النفوذ الإيراني بها.

اكتسبت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الروسي، “سيرجي لافروف”، مؤخرًا إلى العراق في الفترة ما بين 5-6 فبراير 2023، والتقى خلالها بالرئيس العراقي، عبد اللطيف رشيد، ورئيس الوزراء محمد السوداني، ووزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، ورئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني، ورئيس الوزراء مسرور بارزاني، ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني؛ مكانة خاصة، لما تضمنته من دلالات اقتصادية وسياسية عديدة تجعل من الضروري النظر فيها للتعرف على طبيعة الأهداف التي تهدف موسكو إلى تحقيقها من خلال تعميق التقارب مع العراق. 

دلالات سياسية

رغم الأحداث الجِسام الجارية التي غيرت وجه الحياة في عالم اليوم، إلا أنه من الممكن القول إن البعد التاريخي يظل ذا مكانة كبيرة في بوصلة صانع القرار الروسي؛ فبالعودة إلى التاريخ غير البعيد، نجد أن موسكو لطالما كانت شريكًا رئيسًا موثوقًا للنظام العراقي خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. ومن هذا المنطلق، نجد أن العودة الروسية اليوم إلى العراق تحمل العديد من الدلالات السياسية التي نفسرها في النقاط التالية؛ 

الموقف العراقي من الحرب الروسية الأوكرانية: يتخذ العراق حتى اللحظة الراهنة موقفًا متوازنًا ومحايدًا تجاه الحرب الجارية في أوكرانيا. وهو الموقف الذي استحسنته روسيا وأثنت عليه في الوقت نفسه، عندما ذكرت الخارجية الروسية في بيانٍ لها، 6 فبراير 2023، “إن العراق يتخذ موقفًا متوازنًا تجاه العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وذلك على الرغم من ضغوط غير مسبوقة من الدول الغربية”. نفهم من ذلك أن بلدًا يتعرض لعقوبات غربية مكثفة تهدف إلى وضعه في حالة من العزلة الدولية، سيجد في موقف العراق -بوصفه واحدًا من الدول المتضررة من سياسات الولايات المتحدة- فرصة مواتية لكسر طوق العزلة وإثبات العكس. 

البناء على ما خلفته الولايات المتحدة من فراغ: أنفقت الولايات المتحدة على غزو العراق ما يصل إلى نحو تريليون دولار، ومن الناحية البشرية قدرت الخسائر في الأرواح بنحو 4474 قتيلًا و33 ألف جريح بحسب الأرقام الرسمية الأمريكية المُعلن عنها. وغادرت العراق بعد أن وضعت أسسًا تُمهد لوجود هيمنة اقتصادية أبدية على النفط العراقي، تقترن بهيمنة أمريكية على القرار السياسي كذلك. لذلك، فإن ظهور موسكو اليوم في هذه المنطقة التي استثمرت فيها الولايات المتحدة كل هذه النفقات، وتحقيقها لنجاح في مسار بناء حلفاء استراتيجيين في المنطقة سيكون بمثابة نجاح روسي تم بناؤه على إرث من الفراغ الأمريكي في المنطقة. 

التعاون مع إيران: تعد إيران هي الدولة الأجنبية الأكثر نفوذًا في العراق منذ لحظة الخروج الأمريكي منها. وفيما يتصل بالوضع الدولي الراهن، سيكون توطيد النفوذ الروسي في العراق بمثابة تحالف استراتيجي جديد يربط بين محور إيران وروسيا ليس فقط في سوريا ولكن في العراق كذلك. بشكل يرتبط بتضييق الخناق أكثر فأكثر على أي نفوذ أمريكي في المنطقة. بالإضافة إلى أن ذلك سيكون تعاونًا من شأنه التسبب بالإزعاج في المنطقة لإسرائيل التي لم تخفِ دعمها للحرب في أوكرانيا لصالح الغرب.  

عالم متعدد الأقطاب: التصالح مع أكبر عدد ممكن من الدول على فكرة قبول حقيقة النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب. وهذه الحقيقة ستكون أمرًا مسلمًا به بمجرد تحقيق أكبر قدر ممكن من الشراكات العميقة مع دول لا تأبه بالتعاون مع روسيا، رُغم العقوبات، وتعترف في الوقت نفسه بدولة الاتحاد الروسي بصفتها تصنف ضمن القوى العظمى. وبطبيعة الحال، نفهم أن القانون المتفق عليه من الأغلبية يكون هو القانون الساري، وإذا وافقت الأغلبية بشكل تطبيقي على تعدد أقطاب المجتمع الدولي، يكون هذا الأمر حقيقة واقعية.

دلالات اقتصادية

ليس ثمة شك في أن روسيا اليوم تحت وطأة عقوبات اقتصادية غربية متزايدة تُحتم عليها ضرورة البحث عن طرق للالتفاف حول هذه العقوبات والتهرب منها من جهة، ومحاولة تعميق شراكاتها الاقتصادية مع دول خارجية متعددة من جهة أخرى. بجانب أن طبيعة الوفد الروسي المرافق لوزير الخارجية إلى العراق، والذي ضم بين جنباته ممثلين عن شركات النفط والغاز، تُلقي بظلالها على أهداف الزيارة التي من الأجدر القول إن معظمها مساعي ذات طبيعة اقتصادية. 

ويعود تاريخ التعاون العراقي مع شركات النفط الروسية إلى فترة السبعينيات، حيث بلغ إجمالي الاستثمارات الروسية في قطاع الطاقة بالعراق 13 مليار دولار، وفقًا لحديث سابق للسفير الروسي في بغداد “ماكسيم ماكسيموف”، مؤكدًا أن الشركات النفطية الروسية، مثل “زاروبيج” نفط و”إسترويترانكاز” و”تاتنفت” و”سيوزن فغاز” و”إريال نفط” غاز سيرفيس، تعمل بخطوات فاعلة نحو استئناف عملها ودخول سوق النفط والغاز العراقية. 

وفي الوقت الذي خرج فيه القنصل العام الأمريكي لدى إقليم كردستان العراق، “إيرفين هيكس جونيور”، يناير 2023، ليعلن أن بلاده بصدد بناء أكبر قنصلية أمريكية في العالم في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق. مؤكدًا أن بلاده ستعقد خلال العام الجاري 2023، زيارات لعدد من كبار الشخصيات وقادة الإقليم في إطار تنفيذ مذكرة التفاهم التي وقعتها وزارة الدفاع الأمريكية مع الإقليم، سبتمبر 2022، بشأن مواصلة دعم قوات البيشمركة. نجد أن ِشركة “جازبروم” الروسية تمتلك 3 مشروعات كبرى في الإقليم، ونجد أن موسكو تُبدي اهتمامًا متزايدًا برفع مستوى التعاون مع إقليم كردستان في مجال الطاقة.

علاوة على أن “لافروف” قد ناقش خلال زيارته الأخيرة إلى العراق مهام التطوير التدريجي للعلاقات الروسية العراقية الودية، وأكد الجانبان أن هناك رغبة متبادلة لتعزيز وتوسيع الشراكة التجارية في مجالات الطاقة والصناعة والزراعة. حيث شدد الجانب الروسي على الاهتمام المتزايد للشركات الروسية، بالمشاركة في تنفيذ المشروعات المتعلقة بإعادة إعمار العراق بعد الصراع. 

وتم التنويه إلى ضرورة تفعيل آليات عمل اللجنة الروسية العراقية للتعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والتقني. وتم كذلك التأكيد على السعي المتبادل من أجل زيادة تعزيز التعاون العسكري التقني. وبوجه عام، سعت موسكو –من خلال الزيارة- إلى تعزيز شراكاتها مع بلاد الرافدين الغنية بموارد الطاقة؛ إذ ترغب موسكو في تحقيق أكبر قدر ممكن من النفوذ على موارد الطاقة التي يحتاج إليها الاتحاد الأوروبي حاجة ماسة. 

وختامًا، نجد أن إجمالي هذه الزيارة بكل ما توصلت إليه من نتائج من الممكن اعتباره ردًا على مذكرة الشراكة الاستراتيجية في مجال الطاقة التي وقعها العراق مع فرنسا في يناير 2023. وليس هناك ثمة شك في أن هذه الخطوة تسببت بالقلق للشريك الروسي الطامح لزيادة تعاونه مع العراق، والذي يتخذ بالفعل خطوات عديدة لمحاربة ومنافسة النفوذ الفرنسي الخارجي سواء في إفريقيا أو في أي دولة أخرى تمتلك موارد طبيعية تجعل منها محطًا لأنظار أي قوى دولية.

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى