ليبيا

تدارك الفرص الضائعة: هل تُمهد اجتماعات القاهرة الطريق نحو التوافق الليبي؟

تدخل الأزمة الليبية عامًا جديدًا وسط مساعي عديدة للخروج من دوامة التكرار وعدم القدرة على تحقيق انفراجة تفضي إلى حلحلة الأزمة. ورغم غياب التوافق الداخلي وتباين المصالح الخارجية للأطراف المنخرطة في الأزمة الليبية، فإن مساعي تدارك الفرص الضائعة لا تزال قائمة رغم العثرات والتحديات التي تسيطر على مجمل التفاعلات في المشهد الليبي.

وكشفت السنوات الماضية عديدًا من الفرص المهدرة والتي كانت بإمكانها نقل الأزمة الليبية من مرحلة الانقسام والاستقطاب إلى التوافق وبناء الدولة من بينها: الإخفاق في الوصول للانتخابات العامة بشقيها الرئاسي والبرلماني نهاية عام 2021، وإنهاء المرحلة الانتقالية الممتدة في عمر الأزمة الليبية، بالإضافة إلى إهدار فرصة تعزيز الفوائد الاقتصادية على خلفية استغلال عائدات النفط في ظل ارتفاع الأسعار بصورة غير مسبوقة، كأحد نواتج الحرب الروسية الأوكرانية. فبالرغم من ارتفاع إيرادات قطاع النفط  الليبي خلال عام 2022 إلى 22 مليار دولار، فإن تراجع الإنتاج بسبب الإغلاق المتكرر للموانئ وحقول النفط خلال العام المنصرم قد أضاع فرصة تعظيم الفائدة الاقتصادية بما يتجاوز الإيرادات المحققة.

ترتيبًا على ما سبق، يمكن الإشارة إلى أن محصلة عام 2022 والتفاعلات المرتبطة به تؤكد أن الصراع بين الفرقاء الليبيين على السلطة والثروة أسهم في مضاعفة الفرص الضائعة، وطرح عدة تساؤلات حول حدود الاستمرار والتغير المحتمل خلال عام 2023؛ بمعنى هل يمكن أن تشهد الازمة الليبية حراكًا إيجابيًا يفضي إلى الانتقال بالمشهد إلى مربع يتجاوز الخلافات الراهنة؟ أم ستظل التفاعلات رهن الحسابات الضيقة والمصالح المتشابكة بين مختلف الأطراف بما يزيد من الفرص الضائعة.

بارقة أمل

يُنظر إلى الاجتماع الذي عُقد في القاهرة اليوم (5 يناير 2022) بين رئيس مجلس النواب “عقيلة صالح” ورئيس المجلس الأعلى للدولة “خالد المشري” بوصفه بارقة أمل في بداية 2023؛ إذ بحث اللقاء القضايا العالقة بين الطرفين فيما يتعلق بالقاعدة الدستورية وقانون الانتخابات، وبدا من البيان المشترك المصاحب للقاء وجود قدر كبير من التوافق بين الطرفين، حيث تم الإعلان على قيام اللجنة المشتركة بين المجلسين بإحالة الوثيقة الدستورية للمجلسين لإقرارها طبقا لنظام كل مجلس، بجانب وضع خارطة طريق واضحة ومحددة يعلن عنها في وقت لاحق لاستكمال كل الإجراءات اللازمة لإتمام العملية الانتخابية سواء التي تتعلق بالأسس والقوانين أو المتعلقة بالإجراءات التنفيذية وتوحيد المؤسسات.

ورغم تعدد اللقاءات التي جمعت الطرفين سواء في القاهرة أو جنيف، فإن هذا اللقاء يحمل عددًا من المضامين التي تشير إلى إمكانية تحقيق قدر من الانفراجة، خاصة أنه يأتي بعد أيام من رفض المجلس الأعلى للدولة التجاوب مع دعوة رئيس المجلس الرئاسي الليبي “محمد المنفي” لعقد اجتماع بين الطرفين في غدامس يوم 11 يناير القادم، الأمر الذي جعل البعض يرى أن التقارب بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة محكوم عليه بالفشل، من هنا جاءت أهمية اجتماع القاهرة، خاصة أن مخرجاته وما تم الاتفاق عليه تشير إلى قدر كبير من التقدم، الأمر الذي يمكن ملاحظته من خلال ردود الفعل الإيجابية التي أعقبت اللقاء.

اتجاهات مؤثرة

يتوقف مسار الأزمة خلال المرحلة المقبلة على عدد من الاتجاهات التي يمكن أن تقود إما إلى مزيد من التوافق والبناء على ما تم إنجازه خلال اجتماعات القاهرة أو العودة إلى الحالة الصراعية ومربع الاستقطاب والتناحر بين الأطراف الداخلية في ليبيا، وهو ما يمكن تحديده على النحو التالي:

أولًا) التعاطي مع أزمة الشرعية: أدى تعثر عملية الانتقال السياسي إلى بدء مرحلة جديدة من التنافس بين الفاعلين في المشهد الليبي حول امتلاك الشرعية السياسية، ومن ثم بدأ كل طرف في العمل على تأكيد شرعيته على حساب باقي الأطراف، وقد تجلى ذلك بوضوح في ظهور نمط الحكومة الموازية بين حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها بقيادة “الدبيبة” وحكومة الاستقرار بقيادة “فتحي باشاغا”. ويبدو أن التعامل مع أزمة الشرعية سيؤثر بشكل كبير في مسار التفاعلات، إذ إن تجاوز تلك الأزمة يمكن أن يصب في صالح إتمام عملية الانتقال السياسي، في حين أن استمرارها قد يعرقل جهود استكمال عملية التحول، ولعل رفض الدبيبة تسليم السلطة قبل إجراء الانتخابات وإصراره على ذلك قد يشكل تهديدًا وتحديًا منتظرًا خلال الأيام المقبلة.

ثانيًا) تعزيز التوافق حول القاعدة الدستورية: تعد الحاجة إلى إنجاز القاعدة الدستورية ضمن ضروريات استكمال المسار السياسي، الأمر الذي واجهته تحديات كبيرة في ظل التباين بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، خاصة فيما يرتبط بطريقة انتخابات رئيس البلاد ومن له حق الترشح، حيث يدفع المجلس الأعلى للدولة في تجاه استبعاد العسكريين ومزدوجي الجنسية، في حين يرى مجلس النواب ضرورة منح الفرصة للجميع دون إقصاء. ورغم أن جوهر الخلاف بشأن القاعدة الدستورية لا يزال قائمًا، حيث تم الإعلان خلال اللقاء الذي جمع المشري وعقيلة صالح برئيس مجلس النواب المصري المستشار حنفي الجبالي أن هناك توافقًا حول مشروع الوثيقة الدستورية، عدا نقطتين سيتم عرضهما على المجلسين لاتخاذ قرار بشأنهما.

وقد أوجدت التفاهمات مخرجًا في حال عدم التوافق داخل المجلسين، حيث تُعد المقترحات المرتبطة بإحالة المواد الخلافية للاستفاء الشعبي مخرجًا يمكن أن يسهم في حلحلة الخلافات المرتبطة بتلك البنود. وعلى الرغم من غياب الضمانات والمخاوف المرتبطة بعدم التزام الطرفين بما تم الاتفاق عليه، فإن عودة الاجتماعات بين الطرفين، خاصة بعدما تراجع مجلس النواب الليبي عن قانون إنشاء محكمة دستورية في بنغازي بدلًا عن الدائرة الدستورية بطرابلس والذي ساهم في تعليق المفاوضات بينهما، يشير إلى أن درجة من الثقة بدأت تتشكل لدى الطرفين، ويدل على قدر من المرونة يمكن البناء عليه لمضاعفة نقاط التلاقي.

ثالثًا) اختبار مساعي توحيد السلطة: يمكن أن تقود حالة الجمود السياسي وانسداد الأفق إلى بحث سبل تشكيل حكومة جديدة تحوز على الشرعية الدولية، بحيث تقتصر مهمتها على إجراء الانتخابات واستكمال المسار السياسي، وهو ما عبر عنه “عقيلة صالح” في أعقاب اجتماع القاهرة، حيث قال: “يوجد توافق ونحتاج إلى سلطة موحدة في ليبيا لإجراء الانتخابات تحت رقابة الحكومة”. وأضاف: “ستكون آلية كالآلية السابقة في جنيف لوضع إجراءات جديدة، وتكون سلطة جديدة بين المجلسين وفي الأيام المقبلة سيعلن عن خارطة الطريق الجديدة في منطقة داخل ليبيا”.

وعلى الرغم من أن توحيد السلطة التنفيذية وإنهاء حالة الانقسام السياسي قد يكون مخرجًا يمكن أن يؤدي إلى انتقال ليبيا خطوة للأمام، فإن هناك عددًا من التحديات المرتبطة بتشكيل حكومة جديدة من بينها حدود التعاطي الدولي مع تلك الخطوة؛ فحكومة جديدة قد لا تتماشى مع مصالح بعض الأطراف الخارجية، ما يمكن أن يقود إلى عرقلة تلك المسار، بجانب الهواجس المرتبطة بأن مثل هذه الخطوة قد تكون إعادة انتاج للمراحل السابقة، ما يؤدي إلى تراكم القادة الانتقاليين.

ذلك علاوة على صعوبة إقناع الحكومات القائمة بالقبول بهذا الطرح، وهو ما ترجمه موقف “عبدالحميد الدبيبة” الرافض لتسليم السلطة إلا من خلال الانتخابات حتى لو استمر الوضع عشرة أعوام على حد تعبيره، وفي موضع آخر قال: “لا مرحلة انتقالية أخرى ولا حكومة ثالثة أو رابعة أو خامسة”، وشدد على أن الحكومة الحالية هي آخر حكومة قبل الانتخابات.

رابعًا) طرح خارطة طريق جديدة: قال “خالد المشري” ردًا على تساؤل مرتبط بخارطة الطريق أنه سيتم العمل عليها بالتشاور مع رئيس مجلس النواب وبعثة الأمم المتحدة، على أن يتم الإعلان عنها في القريب العاجل. ويتماشى هذا الطرح مع دعوة قائد الجيش الليبي “خليفة حفتر” حول ما عدّه الفرصة الأخيرة وذلك في كلمته (24 ديسمبر) في الذكرى 71 لاستقلال ليبيا، فقد دعا إلى وضع خارطة طريق تفضي إلى إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. 

ومن المتوقع أن يكون جوهر خارطة الطريق وحدود إنجازها متوقفًا على الفصل في قضية ترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية، ويمكن أن يتجه المشهد نحو تجزئة عملية الانتقال السياسي؛ بمعنى السعي إلى إجراء الانتخابات البرلمانية بوصفها خيارًا ممكنًا، مع ترحيل الانتخابات الرئاسية، على أن يقوم مجلس النواب المنتخب بإعداد دستور جديد للبلاد، ومن ثم يتم عرضه لاستفتاء شعبي قبل إجراء الانتخابات الرئاسية. ومع ذلك يواجه هذا الطرح تحديًا يرتبط بإقناع الأطراف الفاعلة في المشهد بالقبول بهذه الترتيبات خاصة أن تتعارض مع مصالح البعض منهم.

رابعًا) التأثيرات المحتملة للتفاعلات الإقليمية: لا شك أن التغير الأهم الذي طرأ على الأزمة الليبية في الآونة الأخيرة يرتبط بالتفاعلات الإقليمية، خاصة في ظل بوادر التهدئة بين تركيا ومصر ومساعي أنقرة لتطبيع العلاقات مع القاهرة، ورغم أن هذا التقارب من شأنه أن ينعكس بالإيجاب على المشهد الليبي، فإنه لم ينضج بعد ولا يتوقع أن تظهر أصداؤه بشكل كامل على المدى القصير؛ فالتفاهمات بين الطرفين –حال استكمال التقارب- قد تأخذ وقتًا طويلًا، بجانب أن ممارسات تركيا قد تصب في تجاه مغاير في ظل استمرار تعزيز حضورها العسكري غرب ليبيا، ومساعيها لعقد مذكرات تفاهم مع حكومة الوحدة تتعارض مع المصالح المصرية.

بالنظر إلى ذلك فمن المحتمل أن تشهد الأزمة الليبية خلال الفترة القادمة حراكًا وزخمًا اقليميًا كبيرًا في ظل التحولات القائمة، ما تؤكده مساعي المبعوث الأممي “عبد الله باتيلي” في توظيف تحركاته الخارجية المكثفة تجاه عدد من القوى الإقليمية المؤثرة في المشهد للضغط على الفرقاء في الداخل الليبي لتهدئة وحلحلة الأزمة. 

خامسًا) حدود الدور المتوقع للميليشيات المسلحة: تظل حالة الانفلات المحتملة على خلفية عودة الصراع بين الجماعات أو الميليشيات المسلحة في ليبيا بين الحين والآخر أحد أبرز التحديات التي يمكن أن تواجه أي ترتيبات سياسية، سواء اللجوء لعقد استفتاء حول القضايا الخلافية أو اجراء الانتخابات بشكل عام، وذلك في ظل العلاقة الترابطية بين الميليشيات والجماعات المسلحة وأصحاب المصالح في ليبيا؛ فالحفاظ على مصالح عدد من الفاعلين في المشهد ترتبط بشكل أساسي برعاية ودعم تلك الجماعات، ومن ثم سوف يستمر حضور الميليشيات في المشهد في ظل استمرار الانقسام بين المكونات والأجسام السياسية. 

ورغم إمكانية حدوث عدد من المواجهات بين تلك العناصر، فإن المواجهة العسكرية أو التصعيد المفتوح يظل مستبعدًا في ظل نجاح آلية وقف إطلاق النار، وتعد التوافقات داخل اللجنة العسكرية 5+5 بمثابة الضامن لعدم الوصول لمثل هذه المواجهات المفتوحة، ما لم يحدث تحول كبير في ظل الترتيبات السياسية المحتملة.

في الأخير، جاء اجتماع القاهرة ليزيد من مساحة التوافق بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، ويمكن أن يكون مقدمة لتحول نوعي كبير في مسار الأزمة الليبية، وهو ما ستختبره التفاعلات القادمة. وعلى أية حال فالمشهد الليبي يظل خاضعًا لحسابات معقدة يصعب الجزم بما ستؤول إليه.  

+ posts

باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

محمود قاسم

باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى