
برنامج حفتر.. دولة ليبية موحدة وقوية
كان الآلاف ممن حضروا كلمة المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، يهتفون قائلين إن دماء الشهداء لن تذهب هباءً، ويهتفون أيضًا “بالروح بالدم نفديك يا بوعجيلة”. ثم تصاعد الهتاف والتصفيق حين أكد المشير حفتر على ضرورة إقامة دولة ليبية موحدة وقوية. لقد سبق كلمة المشير حفتر هذه في بنغازي، بمناسبة مرور 71 عامًا على استقلال ليبيا، يوم 24 ديسمبر، مخاوف من أن يعلن قائد الجيش الوطني عن فصل إقليمي برقة وفزان عن عموم البلاد؛ أي عن إقليم طرابلس الذي يتحكم فيه رئيس الحكومة منتهية الولاية عبد الحميد الدبيبة، ومجموعات من الميلشيات والمرتزقة والقوات الأجنبية.
كان هناك زخم إعلامي كبير يهيئ الرأي العام لمرحلة الانفصال، إلا أن المشير حفتر رد على مثل هذه الترهات بكلمات قوية، وهو يضع ما يشبه البرنامج للمستقبل، وفي القلب من هذا البرنامج وحدة التراب الليبي، ودعم الجيش للبعثة الأممية المعنية بليبيا، من أجل إجراء الانتخابات العامة في 2023.
أكاذيب مفضوحة
وصف المشير حفتر ما كان يتردد قبل كلمته بأيام عن أنه سوف يعلن فيها الاستقلال بشرق ليبيا أو بشرقها وجنوبها عن باقي البلاد بأنها “أكاذيب مفضوحة”، وشدد وهو يقف أمام جماهير بنغازي على تركيز الجيش الوطني على وحدة ليبيا، وقال بشكل غير مباشر إن الفرق بين الوحدة والانفصال يشبه الفرق بين الأرض والسماء. لقد أشار في هذا الشأن بقوله “شتان بين الثرى والثريا..”، فرد ألوف الحضور على المنصة التي كان يلقي الكلمة من فوقها بصيحات الترحيب، وحين قال إن “وحدة ليبيا خط أحمر” التهبت الحناجر بكلمات التأييد.
كان هذا الرجل العسكري المخضرم يدرك ما يدور في الأذهان من مخاوف من مغبة الانحدار بالخلافات الليبية إلى مرحلة الانفصال، وتفتيت الدولة. وهنا شدد حفتر على أن الجيش الوطني لن يسمح بالمساس بوحدة ليبيا، أو التعدي عليها، وقال إن ليبيا “ستظل وحدة واحدة لا تتجرأ”.
من المعروف، عبر السنوات الماضية، أنه كلما بدت الحلول السياسية بعيدة المنال، ظهرت على السطح دعاوى بالانفصال. ويبدو هذا حلًا سهلًا، رغم ما فيه من عواقب قد تحول، أصلًا، دون تحقيق الهدف المنشود، وهو الاستقرار. فليبيا ليست أعراقًا ولا مذاهب متباينة، بل هي دولة ذات شعب متقارب التوجهات، ومتصاهر، وموجود في كل مكان، في الشرق والغرب والجنوب.
حتى الجنود والضباط وضباط الصف في الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر لا ينتمون إلى منطقة جغرافية واحدة، بل هم من كل التراب ليبيا؛ من صرمان وصبراتة وورشفانة، في أقصى الغرب، ومن طرابلس ومصراتة وترهونة، في الغرب، ومن سرت والجفرة في الوسط، ومن بنغازي وطبرق ودرنة، في الشرق، ومن سبها والقطرون، في الجنوب. وفي كلمته، نوَّه المشير حفتر إلى علاقات التماسك والترابط هذه بين جميع الليبيين، ودعا إلى ضرورة تفويت الفرصة على المتلاعبين، وإلى العمل على تعزيز هذه الروابط، في ظل وجود رغبة قوية بين أفراد الشعب في العيش المشترك.
الجيش والتسامح نبذ العنف
من بين الرؤى التي قدمها حفتر: نقل ليبيا إلى بر الأمان، والتركيز على التسامح، ونبذ العنف، والتخلي عن الكراهية. إن هذه العناصر المهمة تتطلب ضرورة تغيير الخطاب الديني والإعلامي؛ بهدف توحد صفوف الأمة الليبية، بما يضمن تماسكها وترابطها ووحدة ترابها. وهذا ما تؤمن به القيادة العامة للجيش الوطني. تبدو هذه هي النسخة التي وضعها المشير حفتر للعمل بناء عليها، رغم أن المحاولات السابقة التي قام بها كثير من السياسيين كانت تدور حول مثل هذه التوجهات.
وحين تم إقرار حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، برئاسة الدبيبة، ومعها المجلس الرئاسي، بقيادة محمد المنفي، منذ حوالي سنتين، كان المطلوب منهما تهيئة البلاد للوحدة الشاملة، وفي القلب منها إجراء المصالحة الوطنية، ووضع الترتيبات لإجراء الانتخابات في 24 ديسمبر 2021. لكن كل هذا لم يتحقق منه أي شيء تقريبًا. من هنا يمكن القول إن مهمة الجيش الوطني تبدو كبيرة، والحمل أمامه ثقيل، لهذا كان ألوف المشاركين في الحفل وملايين المترقبين لكلمة حفتر يريدون معرفة كيف ستسير الأمور.
باختصار كان الكل ينتظر: هل الجيش سوف يتوجه إلى الحلول السهلة ويعلن الانفصال، أم إلى الحلول الصعبة. واختار الأمر الأخير. إنه يسعى إلى القيام بما فشل فيه معظم السياسيين، سواء في حكومة الدبيبة، أو في المجلس الرئاسي، أو في غيرهما من أجسام، وعلى رأس هذه المساعي، تفعيل المشتركات بين الليبيين من تحاور وإقناع وتفاهم، بدلًا من الصراع.
ليبيا في حاجة ملحة إلى اتخاذ الإجراءات العملية للمصالحة الوطنية، وهذا أمر مهم للغاية؛ فالمصالحة الشاملة وحدها يمكن أن تنهي ثلاثة أرباع الصراع. لقد حذر المشير حفتر من تزايد الأخطار والتحديات الداخلية والخارجية، ولهذا طالب أبناء ليبيا في كل مكان، خاصة في غرب البلاد، إلى حوار ليبي-ليبي، من أجل تجاوز الخلافات، ومن أجل إعلاء المصلحة العليا. وأبعد مخاوف الحرب التي يخشاها الجميع حين قال: “نحن لا نريد أن نتقاتل كليبيين أبدًا”.
ثروات الليبيين وانتخابات 2023
يمكن القول إن المتضررين من عدم وصول خيرات ليبيا لليبيين هم غالبية الشعب؛ أي الموظفون، والعسكريون، وعامة المواطنين، ليس في الشرق والجنوب فقط، ولكن في إقليم طرابلس أيضًا. كانت هناك مساعٍ منذ سنوات لحل مشكلة إيرادات النفط، ولمن تصل، وكيف يتم التصرف فيها. وساهم إصرار حكومة الدبيبة على العمل، رغم انتهاء مدتها، في تعقيد الموقف.
ومن الجدير الإشارة إلى أن ميزانية ليبيا تعتمد في نحو تسعين في المائة منها على إيرادات النفط والغاز، وتوجد معظم حقول النفط والغاز في المناطق التي تعاني من الفقر ومن شح الأموال، ومن نقص الرواتب والخدمات. وقال المشير حفتر إنه آن الأوان للقيام بالتوزيع العادل لثروة النفط، لكل المناطق، ودون استثناء. وهذا من الأمور التي يجب أن تكون على رأس الأولويات.
ولم يترك الجيش الوطني الباب مفتوحًا للتكهنات بشأن علاقته مع البعثة الأممية المعنية بليبيا، بقيادة السيد عبد الله باتيلي؛ فقد تضمنت كلمة المشير حفتر التأكيد على تقديم الدعم الكامل للبعثة الأممية، وجهودها، ودعاها إلى العمل على إجراء الانتخابات في 2023. وكان من بين من حضروا كلمة المشير حفتر ناخبون سجلوا أسماءهم في كشوف الانتخابات منذ بداية 2021، على أمل لم يتحقق بإجراء الانتخابات العامة في ديسمبر من تلك السنة. لهذا ارتفعت الأصوات المؤيدة لما قاله قائد الجيش الوطني من ضرورة التمسك بخيار الانتخابات، لحل مشكلة تنازع السلطات في ليبيا، على أن تكون هذه الانتخابات في العام الجديد.
نفديك يابوعجيلة
من بين القضايا الوطنية المهمة موضوع تسليم ليبيين إلى دول أخرى من أجل محاكمتهم، ومن آخر هذه التداعيات عملية تسليم بوعجيلة مسعود، الضابط السابق في مخابرات معمر القذافي. وانتشرت مخاوف من مغبة تسليم قيادات أمنية أخرى لمحاكمتهم في دول أجنبية في قضايا قام نظام القذافي بتسويتها في الماضي، ودفع مليارات الدولارات من قوت الليبيين لغلق ملفاتها. ويرفض غالبية الليبيين مبدأ التسليم عمومًا، لأن فيه انتقاصًا من الكرامة الوطنية، واستهانة بالمؤسسات القضائية للدولة.
وتطرق المشير حفتر في كلمته إلى هذا الموضوع الحساس. ورد عليه الحضور بالهتاف، وهم يؤيدون ما قاله عن أن الشعب الليبي بأسره يحمِّل كامل المسؤولية للذين فرطوا وسلموا أبناء ليبيا بطريقة غير قانونية. ووجه خطابه إلى عائلة وذوي بوعجيلة، وطمأنهم بأن الجيش يتابع قضيته، وأنه لن يتركها، معتبرًا عملية تسليمه إهانة لليبيين. ورد الحضور بأصوات جماعية “بالروح بالدم نفديك يابوعجيلة”.
أهمية كلمة المشير حفتر تأتي في كونها تشمل جميع المسارات الوطنية إن صح القول، منها الاحتفال بالذكرى 71 لاستقلال البلاد، ومنها الاحتفال بمرور 8 سنوات على ثورة الكرامة للقضاء على الإرهاب بأيدي الشعب والجيش. ويمكن اختصار كل ذلك من خلال الصورة الكبيرة للمجاهد التاريخي، عمر المختار والتي وضعها المحتفلون في الخلفية. وقال المشير حفتر إنه آن الأوان للقضاء على الفساد، ولم يكن يقصد فقط الفساد المالي، لكن الفساد السياسي أيضًا.
المستقبل
رغم أنه ذكَّر المستمعين والمشاهدين بما قام به الجيش الوطني منذ 2014 بمحاربة الإرهاب وهزيمته نيابة عن العالم، فإنه لم يلوح بخيار الحرب، بل ألقى بالكرة في ملعب الشعب لكي يتخذ طريقه، بعد الموت السريري للأجسام السياسية التي ألحقت الضرر بالشعب الليبي بفعل انتهاج السياسات الخاطئة. وشدد على احترام المؤسسة العسكرية للمسار الديمقراطي.
لقد تشاور المشير حفتر مع قيادات معتبرة من شيوخ القبائل من الشرق والغرب والجنوب؛ لوضع لبنات الحوار الليبي-الليبي. إنه الطريق الصعب الذي تنتهجه القيادة العامة للجيش الوطني مع قيادات اجتماعية عدة، فهم بهذا يقومون بمنح الأطراف المتصارعة الفرصة الأخيرة، من أجل وضع خارطة طريق تحدد موعدًا حقيقيًا لإجراء الانتخابات العامة، وإلا ستتحمل تلك الأطراف كامل المسؤولية، في حال عجزت عن تحقيق آمال الشعب الليبي.