المرأة في روسيا: الارتدادات الاجتماعية للحرب
تُعد النساء الركيزة الأساسية التي تتمحور حولها المجتمعات كافة. غير أن أدوار النساء وطبيعتها غالبًا ما تتخذ أبعادًا أخرى في حالة انغماس المجتمع الحاضن لها في حالة الحرب. وقد شهد التاريخ الإنساني صورًا متباينة لنساء انغمسن في الحروب بشكل أو بآخر؛ سواء لعبن دور المقاتل المشارك بشكل مباشر في رحى المعارك، أو بقين في أماكنهن يضطلعن بأدوار أخرى لا تقل أهمية عن الأعمال القتالية.
وبينما يشهد العالم في الوقت الراهن حربًا طاحنة بين روسيا وأوكرانيا، نجد أنه من الضروري، في جميع الأحوال، تسليط الضوء على الطريقة التي تأثرت بها حياة المرأة الروسية بفعل الحرب. خاصة مع العلم بأن نسبة النساء في الاتحاد الروسي، تُشكل 53% من إجمالي السكان، بما يعادل نحو 78.8 مليون فرد، فيما تبلغ نسبة الرجال نحو 47% فقط، بما يعادل 68.7 مليون شخص، وذلك وفقًا للإحصاء السكاني الرسمي الذي أُجري في عام 2021. مما يجعلهن الأغلبية التي ينبغي البحث عن أجوبة لسؤال كيف انعكست الحرب على حيواتهن؟
كيف تُشارك نساء روسيا في الحرب؟
يوجد في الجيش الروسي نحو 40 ألف امرأة؛ من ضمنهن 4000 من حاملات رتب الضابطات، وذلك وفقًا لآخر تصريح أدلى به وزير الدفاع الروسي “سيرجي شويجو” خلال تهنئته لنساء روسيا بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، 8 مارس 2022. حيث أشاد “شويجو” بالمساهمة الفعالة للجنديات في تكوين قوات عسكرية مسلحة وفعالة لروسيا، مضيفًا أن المجندات يضطلعن بمهام ومسؤوليات تضعهن على قدم المساواة مع الرجال، ويعملن لحماية مصالح البلاد في المواقع القتالية، بالإضافة إلى تقديم المساعدات الطبية للمحتاجين.
في غضون ذلك، لا يُسمح للنساء في روسيا بالتطوع للمشاركة في العمليات العسكرية بالمفهوم القتالي؛ إذ إن العديد من الصحف ووكالات الأنباء الروسية كانت قد تداولت خلال اندلاع الحرب الأنباء حول وجود عدد كبير من النساء اللاتي أبدين رغبة في التطوع للمشاركة بالحرب، لولا أن مساعيهن قوبلت بالرفض عدا استثناءات طفيفة، من ضمنها؛ هؤلاء اللاتي سبق لهن تأدية الخدمة العسكرية، أو الطبيبات. علاوة على ذلك، يتم قبول مساعدة النساء في الحرب من خلال التطوع لتقديم الدعم الاجتماعي لعائلات المشاركين في الحرب.
انعكاسات الحرب على حياة نساء روسيا
نبحث في النقاط التالية عددًا من الجوانب التي انعكست بالتأثير على النساء في روسيا بفعل الحرب:
التعبئة العسكرية الجزئية: بتاريخ 21 سبتمبر من العام الجاري، خرج الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، ليعلن قرار التعبئة العسكرية الجزئية، مما يعني أنه أمر استدعاء يختص بطلب المزيد من الرجال للذهاب إلى الحرب. وبطبيعة الحال، يمس هذا القرار النساء أيضًا على حد سواء؛ لأسباب عدة، نسردها في النقاط التالية:
● ترتب على قرار التعبئة الجزئية استدعاء ما لا يقل عن 318000 رجل، فيما غادر البلاد مئات الآلاف من الرجال؛ هربًا من الالتزام بقرار التجنيد.
● هناك آثار مترتبة على هذا القرار، وربما تكون هذه الآثار عصية على الإحصاءات الرسمية؛ نظرًا إلى صعوبة فهم كيف ستتحمل المرأة الروسية –الزوجة والأم – عواقب غياب شريكها عن الحياة وعن ضلوعه في مهامه الطبيعية كرب أسرة؟! هذا فيما يتعلق بالهاربين من الرجال. لكنه يلقي بظلاله في الوقت نفسه على تساؤلات أخرى حول الطريقة التي ستتأثر بها الزوجات والأمهات في روسيا حال وفاة أبنائهن وأزواجهن على الجبهة؟!
فهؤلاء حتى وإن لم يتم احتساب الضرر المادي الذي سيعود عليهن من سفر أحبائهم الرجال للجبهة -وذلك إما بفعل وظائفهن جنبًا إلى جنب مع إجراءات الدعم الاجتماعي الذي توفره الدولة لعائلات المحاربين- فإنه من المحتم أن ضررًا عاطفيًا ونفسيًا قاسيًا سينعكس عليهم بفعل العيش تحت وطأة الفقدان المحتمل لأحبائهن، والذي قد يتحول في أي لحظة إلى فقدان فعلي، خاصة مع تراجع المستوى التأهيلي العسكري للرجال المستجيبين لقرار التعبئة، وذلك على خلاف العسكريين الأصليين من الجيش الروسي من أصحاب التأهيل العالي، وهؤلاء أيضًا توارد العديد من التقارير التي تفيد بارتفاع معدلات وفياتهم. وكان الإحصاء الرسمي الوحيد لتعدادهم يتمثل في تصريح، وزير الدفاع الروسي “سيرجي شويجو” في سبتمبر بأن وفيات الجيش الروسي بلغت 5937 جنديًا مقاتلًا.
● يشار أيضًا هنا إلى أنه يوجد في روسيا ظاهرة تُسمى (الأم العزباء)، وربما لن تتأثر هؤلاء الأمهات بغياب الرجل من الناحية الأسرية. لكنها ربما تتأثر من الناحية العملية، بفعل غياب شركائها في العمل ومطالبتها بأداء المزيد من المهام الوظيفية تعويضًا عن غيابهم.
الأعباء الوظيفية المُلقاة على المرأة بفعل الحرب: ترتب على الحرب، انخفاض عدد الوظائف الشاغرة بوجه عام. من ناحية أخرى، ووفقًا لبيانات دائرة الاحصائيات الفيدرالية الروسية، فإن النساء في روسيا عادة ما يهيمنّ على الوظائف في مجالات مثل: التمويل، والتأمين، والتعليم، والرعاية الصحية، والثقافة، والترفيه، بالإضافة إلى العمل في مجالات الفنادق والمطاعم. كنتيجة للحرب، وإما بفعل الإجراءات المتخذة من قِبل السلطة، أو بفعل العقوبات، فقد تأثر العديد من هذه الصناعات، مما انعكس على انخفاض الفرص الشاغرة بها. وبالتالي، ووفقًا لما نشرته بوابة “hh.ru” عن احصائيات شهر أغسطس 2022، قد وُجد هناك عدد أقل من الوظائف الشاغرة في البنوك بنسبة 63% مقارنة بالعام 2021، وفي مجال التأمين؛ وُجد عدد وظائف يقل بنسبة 86% عن العام 2021، ووكالات السفر والفنادق والمطاعم بمعدل 26%، وفي مجال المحاسبات بنسبة 15%، والفنون والترفيه والإعلام الجماهيري بنسبة 12%. مما انعكس على ضرورة إقحام النساء في الوظائف التي يغلب عليها الطابع الذكوري؛ مثل مجالات: التعدين، والتصنيع، والنقل، والطاقة، وغيرها من الوظائف التي أصبحت شاغرة بفعل غياب الرجال، ويقترن عمل المرأة بها بالمزيد من الأعباء النفسية والجسدية عليها.
ارتفاع معدلات الإجهاض وتناقص أعداد الذكور: يؤدي غياب الذكور وتناقص أعدادهم في المجتمع إلى خلق المزيد من الأعباء المادية على المرأة، بالإضافة إلى المساهمة في تعزيز حالة الركود الاقتصادي التي ينتج عنها بطبيعة الحال تناقص في الرغبة النفسية عند النساء في الإنجاب؛ نظرًا إلى افتقارهن لرؤية مستقبلية واضحة. مما ينتج عنه كذلك ارتفاع في معدلات الإجهاض؛ إذ أنه من البديهي، أن تعيش المجتمعات التي تعاصر بلادها حروبًا مستمرة على مدى طويل حالة من عدم اليقين النفسي قد تقود في النهاية إلى العزوف عن تكوين عائلات وإنجاب أطفال.
حظر الإجهاض: حتى المرأة المغتصبة، يتوقع أنه لن يكون في مقدورها التخلص من جنينها في وقتٍ قريب. ففي أوائل أغسطس 2022، اقترح النائب لدى مجلس الدوما، “فيتالي ميلونوف” مشروع قانون يتم بموجبه رفع عمليات الإجهاض من أنظمة التأمين الطبي، باستثناء الأسباب الطبية التي يستلزم معها إجراء هذه العملية. وهو الشيء الذي سينجم عنه بطبيعة الحال ارتفاعات حادة في تكلفة العملية بشكل يصعب معه أن تتخلص النساء ذوات الدخل المتواضع في روسيا من أطفالهن، وبهذه الطريقة، يتم إجبار النساء من ضحايا الاغتصاب على إجراء عمليات الإجهاض على نفقتهن الخاصة، أو تربية الطفل من نسل المغتصب.
حظر الدعاية لأيديولوجية عدم الإنجاب: تولدت عن الحرب، حاجة لدى السلطات الروسية إلى تقييد حق النساء في اختيار رغباتهن الخاصة فيما يتعلق بالإنجاب؛ ففي سبتمبر 2022، تقدم النائبتان لدى مجلس دوما الدولة، “الفيرا ايتكولوفا”، و”ريما اوتياشيفا”، بمشروع قانون يتم بموجبه محاربة الأيديولوجية الداعمة لعدم الرغبة في الإنجاب، بحيث يتم وصفها بأنها أساس للسلوك الاجتماعي الهدام، على حد وصفهما. حيث عبرت النائبتان عن اعتقادهن بأن الأيديولوجية المقاومة للإنجاب تتعارض مع القيم العائلية التقليدية الروسية، وسياسات الدولة، وتهدد بتفاقم الأزمة الديموجرافية. والمثير للاهتمام في المشروع هو أنه يجعل من العزوف عن الإنجاب شيئًا يضاهي المثلية الجنسية!
التهديد بالفقر: يرى العديد من الخبراء أن مستقبل عائلات روسيا مُهدد بالفقر كنتيجة للحرب؛ وذلك نظرًا إلى أن الدعم الاجتماعي للعائلات التي تم حشد أحد أفرادها في التعبئة العسكرية الجزئية يعد متواضعًا إلى حد ما. مثال على ذلك، ما تحصل عليه العائلات في “ياكوتيا” وهو عبارة عن مبلغ قدره 200 ألف روبل وهو ما يعادل نصف متوسط الدخول في هذه المنطقة، وفي “ستافروبول” تحصل العائلة على 50 ألف روبل وهو ما يفوق متوسط الدخول هناك بنسبة بسيطة، وفي بعض المناطق الأخرى وعدت السلطات أن تقدم إعفاءات من فواتير الخدمة للعائلات التي ذهب أبنائها للجبهة. وبناء عليه، لا يمكن مقارنة كل هذه التسهيلات بالتأثير المادي لوجود الرجل المُعيل في الأسرة ومساهماته المادية بها، وهو ما يقود إلى استنتاج مفاده أن الفقر قد يصبح في وقتٍ قريب مشكلة كبرى تهدد حياة العديد من العائلات الروسية، وسيتضرر منها بشكل رئيس ومباشر النساء.
الأزمة الديموجرافية الروسية: وفقًا لتقديرات مجلة “فوربس”، فإن تعداد الروس الذين غادروا وطنهم خلال أول أسبوعين بعد إعلان قرار التعبئة الجزئية بـ 700 ألف شخص. عند هذه النقطة، توجد تساؤلات عدة: أولها ما إذا كان هؤلاء الرجال قد فروا رفقة عائلاتهم أم فروا منفردين؟، وثانيها عن كيف سينعكس ذلك، بطبيعة الحال، على الأزمة الديموجرافية المتفاقمة بالفعل في روسيا والتي عمق منها الوباء وسارعت الحرب من وتيرتها؟
وللإجابة عن ذلك، نعود بالذهن هنا إلى بوادر العام 2020 عندما طالب الرئيس الروسي شعبه بضرورة التكاتف من أجل وقف انقراض العرقية الروسية، مُصدرًا تعليماته بضرورة إحراز اتجاهات سكانية إيجابية بحلول نهاية العام 2024. غير أنه، ووفقًا للإحصائيات الرسمية الأحدث، فإن معدلات المواليد خلال الفترة ما بين يناير- سبتمبر 2022، قد بلغت 984,8 ألف طفل في عموم روسيا، في مقابل 1049.8 ألف طفل للفترة المماثلة من العام 2021. وبالتالي، فإن معدلات المواليد تشهد انخفاضًا ملحوظًا. علاوة على ذلك، انخفض عدد السكان في البلاد على مدار العشرة أشهر نفسها بمقدار 499,7 ألف شخص بما يعادل 0.34% لنفس الفترة من العام 2021، والتي كانت قد شهدت انخفاضًا يبلغ 407.4 ألف شخص بما يعادل نسبة 0.28%. وهو ما يضع البلاد في حالة مماثلة لما شهدته روسيا، خلال فترة الاتحاد السوفيتي في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية.
الحروب والعنف ضد المرأة: هنالك تأثيرات أخرى للحرب ربما لم تظهر في الأفق حتى الآن، نظرًا لطبيعتها المستقبلية وغياب رؤية واضحة عن الموعد المحدد لنهاية الحرب؛ إذ أننا بصدد مجموعة من العائدين من القتالات العنيفة والمواجهات المسلحة من الرجال. وهؤلاء ليس ثمة شك في أن السواد الأعظم منهم سيكون مصابًا باضطراب ما بعد الصدمة عند الرجال الذين شهدوا أحداث عنف. سينعكس ذلك بالضرورة على ارتفاع معدلات العنف المنزلي في عموم روسيا.
صحة المرأة وأعباء الولادة: وضعت الحرب، جنبًا إلى جنب مع الأزمة الديموجرافية الروسية الكثير من الأعباء على النساء اللاتي بات مطلوبًا منهن تكثيف دورهن الطبيعي في الإنجاب إلى جانب الاضطلاع ببقية الأدوار المنوط بهن تأديتها في المجتمع ككل. مثال على ذلك، الجائزة السوفيتية القديمة التي أعاد الرئيس الروسي إحياؤها، أغسطس 2022، في محاولة رئاسية مُضنية لإنعاش العرقية الروسية من خلال ضخ المزيد من المواليد. الحديث هنا يدور عن جائزة الأم البطلة، التي صدر بخصوصها مرسوم رئاسي يتم بموجبه منح نساء روسيا مبلغًا وقدره مليون روبل روسي، لمرة واحدة في العمر بمجرد بلوغ الطفل العاشر عامه الأول.
وهي الجائزة التي لم تُعد في حسبانها التكلفة الصحية المضنية لكثرة الإنجاب على المرأة؛ إذ أنه من شروط الجائزة أن يكون التسعة أبناء الآخرون للـ “السيدة البطلة” على قيد الحياة، من دون الأخذ في عين الحسبان، أن كثرة الإنجاب تنجم عنها إصابة النساء بالكثير من الأمراض التي يأتي من ضمنها: فقر الدم وما يتصل به من آثار جانبية، بالإضافة إلى ارتفاع احتمالات الإصابة بأمراض أخرى مثل السمنة والسكري وغيرها من التداعيات الصحية التي تحول دون قدرة النساء على الوفاء بالتزاماتهن إزاء أبنائهم. وذلك بالطبع من دون الإشارة إلى التداعيات المادية على الأسرة التي تنجيب هذا العدد من الأطفال، على الرغم من الإعانات المالية التي توفرها الدولة، والتي ليس من الممكن أن تتضمن هذا العدد الضخم.
وختامًا، وفي ظل اهتمام العديد من وسائل الإعلام الغربية بتأثيرات الحرب على المرأة والعائلة الأوكرانية بوجه عام، فإننا لا نجد مناصًا من الاعتراف بأن أضرار وتأثيرات الحرب طالت المرأة الروسية كذلك، بل أنه من الأجدر القول إن نساء روسيا اللاتي يعانين من الحرب في الوقت الراهن سيظل أمامهن مشوار طويل يقطعنه لأجل التخلص من تأثيرات المعارك على المدى الطويل، حتى بعد أن تضع الحرب أوزارها.