
حل شرطة الأخلاق والأزمة البنيوية للنظام السياسي الإيراني
لم يكن خروج النائب العام في إيران “محمد جعفر منتظري”، ليعلن حل ما يعرف بشرطة الأخلاق وفك ارتباطها بالسلطة القضائية، ليمر دون أن توضع حوله علامات الاستفهام لمعرفة عما إذا كان حل شرطة الأخلاق يعني التوقف عن التسلط على الزي الرسمي الإيراني، ومعرفة المغزى من القرار في ذلك التوقيت الذي يبدو متباطئًا إلى حد مخيف، حيث اندلعت التظاهرات العنيفة داخل إيران منذ ما يزيد عن شهرين.
وللوهلة الأولى بدا حديث النائب العام الإيراني حمالًا للأوجه، فمن جهة حاولت السلطات في إيران اختصار طبيعة الاحتجاجات الحالية في أنها اعتراض من الإيرانيين على ممارسات شرطة الأخلاق، والأمر أعمق من ذلك بكثير خصوصًا أن ذلك الفرع من الشرطة لا يمتلك الكثير من الأفراد الذين يتبعونه، وإنما تمثل ممارساته انعكاسًا لتسلط النظام الإيراني “الديني”، وهو الأمر الذي يرفضه القطاع الأكبر من الشارع الإيراني، ومن جهة أخرى حاول منتظري من خلال خطابه تحميل المسؤولية لشرطة الأخلاق على حدة، باعتبارها لم تكن قادرة على القيام بمهامها، وكان للإعلان عن حل شرطة الأخلاق انعكاسات على المستويين الداخلي والخارجي:
- الانعكاسات على المستوى الداخلي:
حرص منتظري على التأكيد أن الهيئة غير تابعة للسلطة القضائية، ويُفهم من ذلك محاولته فك الارتباط بينهما لأن حفاظ النظام الإيراني على هيبة السلطة القضائية، أهم بكثير من الإبقاء على هيئة تابعة لوزارة الداخلية، كما أن الأمور لا تستحق التضحية بسمعة السلطة القضائية في توقيت لا يحتمل المزيد من التعقيد سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي بطبيعة الحال، ولكن من جهة أخرى أبدى حديث منتظري الاندهاش – لأن إذا ما كانت الهيئة قد تم إنشائها بقرار من وزارة الداخلية فما هي سلطات منتظري لحلها، فالمنطق يفترض أن يتم حلها بمعرفة وزارة الداخلية وهو ما جعل البعض يرجح أن قرار الحل ليس جادًا وإنما جاء لامتصاص غضب الشارع دون أن يمثل تراجعًا حقيقيًا للروح الثيوقراطية المتمكنة من النظام الإيراني، وعلى ذلك فإنه لا ينبغي التفاؤل بأن قرار حل شرطة الأخلاق يعني التراجع عن قيم الجمهورية الإسلامية الدينية أو أنه حتى قد يعني محاسبة من تسببوا في الكارثة، لأن الباسيج في تعامله مع المتظاهرين بعد مقتل مهسا أميني كان أكثر عنفًا وقمعًا من واقعة قتل الفتاة نفسها، ولا شك في أن الباسيج لا يتحرك إلا بتوجيهات عليا من رأس النظام الإيراني، وقد مثل خطاب خامنئي الذي خرج فيه ليتهم جهات أجنبية بالتلاعب بالمتظاهرين بمثابة إعطاء الضوء الأخضر لقوات الأمن للفتك بالمتظاهرين، وهو ما انعكس في أعداد القتلى والمعتقلين التي يصعب حصرها.
وقد بدا النظام الإيراني من خلال أذرعه الأمنية، وكأنه يقود حرب ضد طواحين الهواء لأنه يرفض فهم أساس الأزمة التي تمر بها إيران، والتي تتمثل في أنها أزمة هجينة اجتماعية وثقافية واقتصادية كذلك، ويصر على توجيه اللوم لجهات خارجية وإن كانت خلافات إيران الخارجية مسؤولة بشكل آو بآخر عن الأوضاع الاقتصادية المتردية، إلا أنها قطعًا ليست مسؤولة عن الأزمة الهيكلية على المستويين الاجتماعي والثقافي. مع الأخذ بالحسبان هنا أن “النساء” في إيران لا يعترضن على الحجاب في حد ذاته، نظرًا إلى أن 95 % من النساء في إيران يرتدين الحجاب وتبقى نسبة تتراوح من 3 إلى 5% غير متقبلة لفكرة الحجاب، لذا فإن جوهر الاعتراض لدى السواد الأعظم من النساء الإيرانيات هي عملية فرض زي معين، وهو مبدأ مرتبط بالدستور الإيراني وبطبيعة النظام الإيراني ولذلك فإن اختصارها في ممارسات شرطة الأخلاق، هو اختصار فادح بغية تفريغ الأمور من مضامينها. والحل الوحيد للتعامل مع هذه الأزمة لا يأتي إلا عن طريق استيعاب السلطات لها، والتعامل معها بما تستحق من جدية من خلال البرلمان الإيراني، وسن تشريعات وقوانين تعيد بعث الحياة المدنية في طهران.
وقد التقطت بعض الإشارات الإيجابية حول ذلك في حديث إبراهيم رئيسي، الذي أشار خلاله إلى إمكانية مراجعة بعض مواد الدستور خلال الفترة القادمة بما قد يشمل فكرة الحجاب الإلزامي داخل المجتمع الإيراني، ولكن بما أن الجمهورية الإسلامية تعاني من أزمات داخلية أخرى على صعيد الأكراد والأحواز، خصوصًا أنه حسب تقرير بي بي سي فإن معظم القتلى الذين سقطوا هم من الأقليات في إيران وقد أظهرت نتائج بحث هيئة الإذاعة البريطانية أن المناطق الكردية، والمناطق التي تضم أقليات عرقية أخرى، مثل البلوش الذين يعيشون في محافظة سيستان بلوشستان الجنوبية الشرقية، شهدت أعلى نسبة من الوفيات. حيث وجد أن 32 شخصًا ممن تم الإعلان عن مقتلهم كانوا من مناطق كردية، بينما كان هناك 20 شخصًا من محافظة سيستان بلوشستان.
ولذلك فإن حديث رئيسي قد يُفهم منه أنه مجرد تراجع تكتيكي بهدف إعادة السيطرة على الأوضاع، لأن هناك قلق من أنه إذا تم إبداء تراجع والموافقة على بعض مطالب المتظاهرين، من رفع سقف المطالبات إلى حد المطالبة برحيل المرشد ونظامه.
ولو كانت السلطات الإيرانية جادة في قرارها أو حتى تريد إبداء الفهم للأزمة، فكان من الأولى فتح نقاشات وحوارات مجتمعية بمشاركة كبار العلماء والمثقفين بهدف حل الأزمة البنيوية في المجتمع الإيراني، وتقليل الفجوة بين الثيوقراطية المطلقة والمدنية التي يطالب بها المتظاهرون، والمؤشر الأكثر وضوحًا على أن قرار الحل فارغ من مضمونه أن العمل بقانون إلزامية الحجاب لا يزال ساريًا، وبالتالي فما هي الفائدة من حل الجهة المنوط بها مسألة ضبط الزي، في الوقت الذي تظل فيه السلطات الإيرانية بموجب الدستور محتكرة لكافة الوسائل التي تفرض هذا القانون التمييزي على النساء .
وعلى المستوى الداخلي أيضًا، فقد مثل استمرار المظاهرات بل والدعوة إلى إضراب عام، الدليل الأكثر تجليًا على فشل خطوة حل شرطة الأخلاق إلى الحد الذي يجعل فكرة رغبة الإيرانيين في التخلص من النظام الثيوقراطي نفسه مطروحة بشكل كبير، وهو الأمر الذي يخلق جدلية أخرى بين تيار في الشارع الإيراني يسعى إلى تغيير القوانين الإلزامية مع إسقاط الحكومة، وبين تيار آخر يريد الإبقاء على الاستقرار السياسي مع تعليق القوانين الإلزامية أيضًا. وهو ما يعطي السلطات الإيرانية ميزة نسبية أساءت توظيفها حتى الآن، وتمثلت في القدرة على تحييد جانب كبير من المتظاهرين يرفع شعار إسقاط مبدأ “إلزامية الحجاب”، مع الأخذ بالحسبان هنا أنه حتى من الناحية الاجتماعية والثقافية، فإن المجتمع الإيراني منقسم على نفسه بين طبقة وسطى تكن الرفض لكل ما هو إلزامي ويمثل اعتداءً على الحريات الشخصية، وبين الطبقة الأكثر احتياجًا “المحافظة” التي تتمسك بالمبادئ الدينية.
- الانعكاسات على المستوى الخارجي:
لم يكن لقرار حل شرطة الأخلاق انعكاسًا إيجابيًا على المستوى الخارجي، بما يعني أن الحكومات الغربية على الأقل قد نظرت للقرار بمنظور رد الفعل الإيجابي للسلطات الإيرانية، حيث جذبت هذه المظاهرات – بالنظر إلى حجمها ونطاقها الجغرافي – قدرًا كبيرًا من الاهتمام والتضامن الدوليين، كما أثارت تساؤلات حول العواقب السياسية للحركة الاحتجاجية.
خصوصًا أن رؤية المرشد الأعلى، تتضمن أن المطالب الغربية السياسية تمتد إلى حد إلغاء مجلس صيانة الدستور لأنه مجلس غير منتخب وتابع للنظام، فضلًا عن إيقاف الصناعات الدفاعية، وقد برر خامنئي هذا الطرح خلال خطابه الأخير؛ بأنه نظرًا للأهمية الجيوسياسية لطهران، فإن واشنطن عمدت إلى ضرب حلفائها الإقليميين في العراق ولبنان وليبيا والصومال والسودان وسوريا- وقد بدا ذكر ليبيا- وسط الحلفاء مستدعيًا لعلامات الاستفهام أيضًا.
وتفصيلًا لانعكاسات قرار حل شرطة الأخلاق على المستوى الخارجي، ينبغي مراعاة أن طهران تعاني من عزلة دولية وتدور في حلقة مفرغة من هذه العزلة، خصوصًا بعد اختيارها الانحياز إلى الجانب الروسي في الأزمة الأوكرانية وما تم تداوله مرارًا عن دعم طهران لموسكو بالطائرات المسيرة. خصوصًا مع تصريحات تم نقلها عن أجهزة أمنية رفيعة المستوى في الولايات المتحدة، تمت الإشارة خلالها إلى أن هناك أدلة تثير القلق حول سعي موسكو لتعميق التعاون العسكري مع طهران. وربما تدفع الدول الغربية في الفترة القادمة إلى فرض المزيد من العزلة على إيران، عن طريق التقدم باقتراح لاستبعادها من لجنة الأمم المتحدة المعنية بوضع المرأة خلال الرابع عشر من ديسمبر الجاري، ويرجح هذا النهج في أعقاب تصويت مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، على اقتراح قدمته كل من ألمانيا وأيسلندا لتشكيل لجنة تقصي حقائق حول أوضاع الاحتجاجات في إيران.
من جانب آخر، فإن إيران تعاني من استمرار العقوبات الاقتصادية على خلفية توقف المفاوضات النووية، بسبب إصرار طهران على رفع سقف المطالبات خلال جولات فيينا، والمطالبة برفع الحرس الثوري الإيراني من قوائم الإرهاب، وبالطبع يضاف إلى ما تقدم الاحتجاجات الداخلية التي أعطت مسوغ إضافي للأنظمة الغربية لعدم الدخول في جولة أخرى من المفاوضات.
ولذلك فإنه على الصعيد الخارجي، من المرجح أن يؤدي استمرار الاحتجاجات إلى تفاقم علاقات إيران مع الغرب، مما يجعل إحراز تقدم في قضايا مثل برنامج طهران النووي أمرًا مستبعدًا. بل أن طهران قد تعاني من جولة جديدة من العقوبات الاقتصادية على الكيانات والشخصيات الإيرانية المتورطة في قمع المحتجين، وقد تم تفعيل هذه العقوبات بالفعل من قبل حكومات أوروبية.
ومن الناحية الإقليمية، تستمر إيران في استهداف مصالح إسرائيل والولايات المتحدة في دول تتمتع فيها بنفوذ وبوجود عسكري، إلا أنها لا زالت تُحجم بكل الطرق الممكنة عن استهداف العمق الإسرائيلي، لأن طهران لا تريد الزج بنفسها في أزمات أكبر يمكن تفاديها بحكمة وعقلانية وضبط نفس.
إجمالًا، فإنه حتى على مستوى خطاب المرشد الأعلى الأخير، فقد سعى خلاله للتركيز على السردية الإيرانية في الإعلان عن المؤامرات الغربية الافتراضية التي تلاعبت بالمتظاهرين، وهو ما يشير إلى أن رأس النظام السياسي في إيران لا يرى أن الأزمة داخلية من الأساس، وعلى الرغم من أنه من الواضح أن موضوع المعركة الأزلية بين الجمهورية الإسلامية وعدوها الرئيس أمريكا، قد ميز العديد من خطابات خامنئي على مر السنين. ولكن هذه المرة، يتناقض تركيزه الرئيس على التهديدات الخارجية بشكل حاد، وغير متكافئ مع الاضطرابات الداخلية العميقة التي تظهر جليًا في شوارع إيران.
وعمومًا فإنه من غير المرجح حتى الآن، أن تغير الاحتجاجات الجماهيرية في إيران النظام السياسي في البلاد؛ خصوصًا مع عدم وجود انقسامات بين السلطات السياسية والمؤسسات القانونية والأجهزة الأمنية، ومن ثم سوف تتصاعد سياسة القمع للحركة الاحتجاجية، ولكن على الرغم من ذلك فإن استمرار الاحتجاجات سيؤدي إلى عدم الاستقرار الداخلي، وسيلحق المزيد الضرر بعلاقات إيران الخارجية. ومع استمرار المظاهرات لفترة طويلة والإضرار بالأوضاع على المستويين الداخلي والخارجي، سيروج المتشددون في الداخل الإيراني لخطورة الإصلاحيين مما يجعل الطبقة الحاكمة أكثر حرصًا على التمسك بالسلطة.
باحث أول بالمرصد المصري