علوم وتكنولوجياكورونا

فقر التعلم: معاناة إضافية للدول النامية في ظل الأزمات العالمية

على الرغم من التقدم الكبير الذي حققته دول العالم في معدلات التحاق الأطفال بالمدارس خلال العِقد الماضي، لم يكن هذا التقدم كافيًا لتحسين قدرة هؤلاء الأطفال على قراءة وفهم نص بسيط عند بلوغهم سن العاشرة، وهو ما يشار إليه بمصطلح “فقر التعلم”؛ ففي الفترة ما بين عامي 2015 و2019 لم تتمكن نظم التعليم –خاصةً في الدول متوسطة ومنخفضة الدخل– من تقليل مستويات فقر التعلم بين تلاميذهم، ما يعني أن المدارس لم تكن تقدم تعليمًا حقيقيًا في الظروف الطبيعية ما قبل جائحة كوفيد-19؛ وتفاقمت المشكلة خلال عامي الجائحة، إلى أن بلغت معدلات فقر التعلم مستويات قياسية بنهاية 2021 التي كانت فيها نظم التعليم في الدول النامية هي الأكثر تضررًا من الأزمات العالمية.

واقع فقر التعلم عالميًا

تشير البيانات الصادرة عن عدد من المنظمات الدولية، أبرزها اليونسكو واليونيسف، إلى أن نسبة الأطفال غير القادرين على قراءة وفهم نص بسيط عند بلوغ سن العاشرة أو بنهاية الصف الرابع الابتدائي في الدول متوسطة ومنخفضة الدخل قُدّرت بنحو 57% في 2019، ما يعني أنه بعد أربع سنوات كاملة من إعلان الأمم المتحدة عن أهدافها السبعة عشر للتنمية المستدامة، والتي من بينها “ضمان تعليم جيد شامل ومنصف للجميع بحلول 2030″، لم تتمكن نظم التعليم في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل من إكساب المهارات الأساسية (القراءة والكتابة والحساب) لحوالي 6 من بين كل 10 أطفال في مدارسهم. وعلى الرغم من أن تلك النسبة كانت أكبر مما كانت عليه في 2015 بحوالي 4%، فإنها لم تكن الأسوأ؛ إذ بلغت معدلات فقر التعلم في الدول متوسطة ومنخفضة الدخل أسوأ مستوياتها على الإطلاق بالتزامن مع غلق المدارس في الغالبية العظمى من دول العالم أثناء جائحة كوفيد-19.

تسبب انتشار الفيروس المستجد في حرمان مئات الملايين من الأطفال حول العالم من الذهاب إلى مدارسهم مدة تتراوح بين 200 و250 يومًا، الأمر الذي أسهم في ارتفاع فقر التعلم فعليًا إلى 70%، بعد أن كانت التقديرات تشير إلى ارتفاعها إلى 63% فقط. وتعد دول جنوب آسيا وأمريكا اللاتينية هي الأكثر تضررًا من تلك الأزمة، في حين أن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا هي الأقل تضررًا بسبب قدرتها على تقديم البدائل أثناء الجائحة.

وتؤكد اليونسكو على وضع فقر التعلم الحالي ببيانات حول سبعة أقاليم عالمية من حيث قدرة الأطفال في دول تلك الأقاليم على إنهاء الدراسة بمرحلة التعليم الابتدائي أو تعلم المهارات الأساسية بنهاية تلك المرحلة؛ فجاء المتوسط العالمي كالتالي: 13% من الأطفال لن يكملوا مرحلة التعليم الابتدائي، و34% سوف ينتقلون للمرحلة الأعلى دون تعلم المهارات الأساسية، و53% سوف يمتلكون المهارات الأساسية بنهاية المرحلة الابتدائية. وتصدرت أوروبا وأمريكا الشمالية أفضل النتائج، في حين كان الأداء الأسوأ من نصيب دول أفريقيا جنوب الصحراء.

يتضح من الشكل السابق أن هناك فجوة كبيرة بين الدول مرتفعة الدخل في أوروبا وأمريكا الشمالية والدول منخفضة ومتوسطة الدخل في أفريقيا وأجزاء كبيرة من آسيا وأمريكا اللاتينية، الأمر الذي يتطلب تضافر الجهود الدولية وحشد الموارد المحلية في المجتمعات منخفضة ومتوسطة الدخل؛ لدعم الخدمة التعليمية بما يضيق تلك الفجوة بمقدار النصف على الأقل بحلول 2030 كما هو مستهدف.

لماذا لا يتعلم الأطفال في المدارس؟

إذا كانت الدول قد حققت تقدمًا في معدلات التحاق الأطفال ولا تزال معدلات فقر التعلم مرتفعة في معظم دول العالم، فإن البحث في أسباب تلك الأزمة والعمل على معالجتها ضرورة يفرضها الواقع في ظل الأزمات العالمية المتتالية.

وللوصول إلى الأسباب، ينبغي أولًا توضيح المكونات الرئيسة للتعلم داخل المدرسة، والتي تتمثل في: متعلم مستعد ومهيأ للتعلم، وتدريس فعال، ومدخلات تعليمية ذات قيمة، وإدارة فعالة تؤثر إيجابيًا في عملية التعليم والتعلم. وتعد درجة التكامل بين المكونات الأربعة مجتمعة ودرجة كفاءة كل مكون منفردًا عاملين رئيسين في إحداث تعلم حقيقي داخل المدرسة، وهو ما اتضح في المحور السابق؛ فجاءت أوروبا وأمريكا الشمالية في الصدارة من حيث قدرة أطفالهم على التعلم بسبب نجاح نظم التعليم هناك في تحقيق المكونات الأربعة بدرجة أعلى من باقي دول العالم.

بالتالي، تتمثل أسباب ضعف أو عدم قدرة الأطفال على التعلم داخل المدارس في غياب أو ضعف واحد أو أكثر من المكونات الأربعة لعملية التعلم؛ فدرجة استعداد الأطفال للتعلم قد تختلف من بيئة لأخرى حسب قدرة أسرة كل طفل على رعايته وتهيئته للذهاب إلى المدرسة، واختلاف المسافة التي يقطعها الطفل للذهاب إلى مدرسته، وشكل وجاهزية المبنى المدرسي وعدد الساعات التي يقضيها بداخله، والوجبة الغذائية التي يحصل عليها خلال اليوم الدراسي؛ أما التدريس الفعال فيعتمد على درجة إعداد المعلم وتأهيله وكفاءته في تقديم المادة التي يدرسها، بالإضافة إلى دافعيته للتدريس التي تتأثر بعوامل مختلفة منها: التقدم في العمر، والأجر الذي يتقاضاه، والأعباء الوظيفية التي يتحملها، والظروف البيئية المحيطة.

وفيما يتعلق بالمدخلات التعليمية، فإن درجة تركيز المنهج وملاءمته للفئة العمرية المقدم لها تؤثر على عملية التعلم، ويضاف إلى ذلك الوسائل التعليمية المستخدمة في عملية التدريس والأنشطة المصاحبة التي لا بد من أن يكون لها دور في نمو الأطفال عقليًا وعاطفيًا. وأخيرًا، تأتي الإدارة المدرسية التي قد تعجز عن: التخطيط، وتقسيم العمل، والرقابة على العاملين، وإدارة الموارد المتاحة، وتقييم ما يتم من عمليات للتحقق من تحقيق أهداف السياسة التعليمية التي يتبعها نظام تعليمي ما.

من خلال العرض السابق، يتضح أن ضعف قدرة النظم التعليمية المختلفة على إحداث حالة من التكامل بين المكونات الأربعة لعملية التعلم داخل المدرسة من شأنه أن يُحدث أزمة تعلم ثلاثية الأبعاد: يتمثل بعدها الأول في مخرج تعليمي فقير بسبب انخفاض المستوى التعليمي، وزيادة درجة التفاوت بين التلاميذ لأسباب اقتصادية واجتماعية، وبطء التقدم في معالجة المشكلة؛ أما البعد الثاني فيتمثل في أن المدارس بكل مدخلاتها لا تحقق ما يرجوه الأطفال، والبعد الثالث هو أن النظام التعليمي لا يساعد المدارس في تحقيق الأهداف لأسباب متعددة منها ما هو فني ومنها ما هو مادي.  

نحو بناء نظم تعلم أكثر صمودًا في وقت الأزمات

العام_الدراسي - Twitter Search / Twitter

لا يمكن النظر إلى التأثير السلبي لجائحة كوفيد-19 على تعليم الشباب والأطفال وصولًا إلى فقر تعلم بلغ 70% في الدول متوسطة ومنخفضة الدخل على أنه محدود ويمكن التغلب عليه ومعالجته باتباع نفس الإجراءات المعمول بها قبل عام 2019، فضلًا عن أن الامر لا يقتصر على تأثير الجائحة؛ فنسبة فقر التعلم كانت مرتفعة قبل غلق المدارس في 2020 بسبب الأزمات التي واجهتها الدول والتي خلفت 127 مليون طفل وشاب خارج مدارسهم.

ومن المتوقع ألا تقتصر الآثار الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية على هاتين الدولتين فقط أو الدول المجاورة لهما، بل سيمتد الأثر إلى الدول متوسطة ومنخفضة الدخل التي تعاني بسبب الضغوط الاقتصادية التي فرضتها الحرب على معظم إن لم يكن كل دول العالم، وهو ما يفرض أن تتخذ تلك الدول مجموعة من الإجراءات وفق خطط واضحة لاستمرار عملية التعليم والتعلم في أوقات الأزمات.

ولعل أولى تلك الخطوات وفق تقرير رصد التعليم العالمي هي إعداد المعلمين للتدريس في ظروف صعبة مثل: عدم ملاءمة المبنى المدرسي، أو ارتفاع كثافات الفصول، والتدريس لأطفال من بيئات مختلفة في نفس الوقت، ومن الضروري كذلك أن يتلقى المعلمون الدعم النفسي والاجتماعي والمادي المناسب الذي يعينهم على لعب دورهم مع المتعلمين بفاعلية. 

يضاف إلى ذلك أن ضمان استمرار عملية التعليم بشكل منصف وشامل يتطلب تحديد أبرز التحديات التي تواجه عملية تعيين المعلمين وتدريبهم والعمل على إيجاد الحلول المناسبة لها لضمان تمتعهم بالدافعية المطلوبة لإنجاز عملهم في أوقات الأزمات.

علاوةً على ذلك، فإن تركيز الدول على بناء القدرات الوطنية للتعامل مع الأزمات والمخاطر سوف يسهم بشكل أو بآخر في وضع آليات للاستجابة السريعة لإعادة الأطفال في مدة أقصاها 3 أشهر للتعلم من جديد في أوقات الأزمات والكوارث. ولا يمكن إغفال دور الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة في توفير الموارد اللازمة لضمان كفاءة استجابة الدول المتضررة من الأزمات فيما يتعلق بضمان استعادة سير العملية التعليمية وفق الخطط الموضوعة. 

خطوة أخرى لبناء قدرات الدول لتقليل أثر الأزمات العالمية على نظمها التعليمية تتمثل في بناء نظم لجمع البيانات والأدلة حول الأداء التعليمي في أوقات الأزمات من أجل تحديد الاستجابات التي تناسب كل سياق، وتوفير التمويل الكافي من خلال المصادر المحلية والتمويل الإنساني الدولي المتمثل في صندوق “لا يمكن للتعليم أن ينتظر ECW”.

في الأخير، يمكن القول إن ما أظهرته جائحة كوفيد-19 من فجوة واسعة بين الدول مرتفعة الدخل والدول متوسطة ومنخفضة الدخل فيما يتعلق بفقر التعلم بين أطفالهم يؤكد على ضرورة أن يعاد النظر في الإجراءات والسياسات المتبعة لتحقيق الهداف الرابع من أهداف التنمية المستدامة بحلول 2030 في ظل تتابع الأزمات العالمية، وأن يتم تخصيص موارد مادية وبشرية أكبر من أجل بناء قدرة نظم التعليم في الدول النامية على الصمود في أوقات الأزمات؛ ذلك أن حرمان 70% من أطفال تلك الدول من التعلم واكتساب المهارات اللازمة للالتحاق بسوق العمل مستقبلًا ينذر بمشكلات اجتماعية واقتصادية سوف تضطر لمواجهتها الدول النامية والمتقدمة على حد سواء.

+ posts

باحث ببرنامج السياسات العامة

محمود سلامة

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى