
الأفيال.. ومصير الغابة!
فاجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العالم، خلال قمة قادة المنتدى الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ أبيك بتايلاند قبل أيام، بالتحذير من خطورة المنافسة المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، قائلًا: نحن في الغابة ولدينا فيلان كبيران في حالة توتر متزايد، وإذا زادت حدة توترهما، فسيبدآن بمحاربة بعضهما، وهذا سيكون مشكلة كبيرة لبقية الغابة. وأضاف: إننا نحتاج إلى تعاون العديد من الحيوانات الأخرى.. النمور، القرود، إلخ، لضمان التوازن، لا نؤمن بالهيمنة والمواجهة، بل نؤمن بالاستقرار والابتكار.
يخشى ماكرون اندلاع حرب من أي نوع، تجارية أو غير تجارية بين العملاقين. الرئيس الفرنسي ليس وحده الذي يشعر بالقلق، العالم كله يرتعد من تداعيات الصراع بين واشنطن وبكين، وما قد يخلفه من انعطافات حادة في الشؤون الداخلية والخارجية لبقية الدول.
ترى الدوائر الأمريكية أن قوة (العم سام) الاقتصادية تتراجع وتنحسر، من المتوقع أنه بحلول عام 2100، ستكون أمريكا في المركز الثالث عالميًا، بـ12% من الناتج العالمي، تالية للصين 27% والهند 16%؛ من ثمّ تحاول الإدارات الأمريكية كبح جماح الصين سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، لا فرق في ذلك بين بايدن وترامب، أراد ترامب محاربة الصين بمفرده، بينما يرغب بايدن في حصارها وسط صف من الحلفاء الاستراتيجيين: الأوروبيين واليابانيين والهنود ومن جنوب شرق آسيا، التكلفة ستكون باهظة والنجاح غير مؤكد.
ما زالت المعركة بين العملاقين ذات طابع اقتصادي، ما يلحق أضرارًا رهيبة بالاقتصاد العالمي وحقوق بقية البشر على سطح الكوكب في السلام والتنمية، ومن الممكن أن ينفلت الأمر إلى مواجهة عسكرية حول تايوان أو غيرها. لاسيما أن استراتيجية الأمن القومي التي أصدرها البيت الأبيض، مؤخرًا، حددت الصين بوصفها المنافس الوحيد لأمريكا الذي لديه نية لإعادة تشكيل النظام الدولي، ولديها قوة اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية وتكنولوجية متنامية لتحقيق هذا الهدف.
لهذا حذر الرئيس الصيني شي جين بينج، خلال مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير من عالم محفوف بالمخاطر بشكل متزايد، يحاول فيه الأعداء المجهولون -يقصد الولايات المتحدة وحلفاءها- الابتزاز والاحتواء والحصار وممارسة أقصى قدر من الضغط على الصين. أما كبير مساعديه دينج زوكسيانج، فكتب في صحيفة (الشعب) “إن القوى المعادية عازمة على عرقلة صعود الصين”.
من جانبها، اعتبرت صحيفة جلوبال تايمز الصينية أن تصرفات واشنطن ضد بكين تشبه القطع المتعمد للطريق السريع أمام سيارة الآخرين، فإذا حدث خدش ما أو وقع حادث خطير، يجب على الولايات المتحدة تحمل المسؤولية الكاملة عن ذلك. أشارت الصحيفة إلى التأثيرات الاستراتيجية لعلاقات البلدين عالميًا، لافتة إلى أن الجانب الصيني اقترح الالتزام بمبادئ: الاحترام المتبادل، والتعايش السلمي، والتعاون المربح للجانبين، لكن في مواجهة حملة القمع والبلطجة -على حد وصف الصحيفة- لا يستطيع الشعب الصيني ولا ينبغي له أن يبتلع الإهانات والإذلال، وأضافت أن الأفضل للعالم أن تصحح أمريكا تصوراتها إزاء الصين، من أجل مصلحة الجميع: بكين وواشنطن، وهو ما يتوق إليه المجتمع الدولي.
تشهد العلاقات الصينية – الأمريكية مستوى من التوتر لم تبلغه منذ سبعينيات القرن الماضي، لوحت الصين بخنق تايوان عسكريًا، بينما فرضت أمريكا عقوبات تجارية وعرقلت تصدير التقنيات الفائقة إلى الصين، خاصة رقائق الكمبيوتر المتطورة اللازمة للمعدات العسكرية والذكاء الاصطناعي وغيرها.
وسط هذه الانتكاسة جاء أول لقاء بين الرئيسين شي وبايدن، على هامش قمة العشرين بإندونيسيا، في محاولة لوقف دوامة التوترات المكبوتة التي قد تتفجر احتكاكًا عنيفًا يشيع الفوضى شرقًا وغربًا. قال بايدن لنظيره الصيني: إنني أبحث عن المنافسة، لا الصراع، مبينًا أنهما ناقشا ما يعتقد أنه يصب في المصالح الوطنية الحاسمة للصين، وما أعرف أنه المصالح الحاسمة للولايات المتحدة؛ لتحديد ما إذا كانتا تتعارضان مع بعضهما البعض أم لا، وإذا كانت كذلك فكيف يتم حلها.
لا تبحث أمريكا عن حل للأزمة بل عن إدارة الصراع، الأفيال لا تزال محشورة في محل الخزف. أوضح إيفان ميديروس، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما لشؤون آسيا والمحيط الهادئ أن اجتماع بايدن وشى هو بمعنى ما أول قمة للقوى العظمى، في النسخة الجديدة والمحسنة للحرب الباردة. بحث الزعيمان، ولو ضمنًا، شروط التعايش وسط المنافسة أو هل سيطلقون كلاب التنافس غير المقيد بينهما، ونوه بأن الجانبين يعملان على إدارة المنافسة بشكل مسؤول، والتعاون في المجالات التي تتماشى فيها المصالح.
نتائج القمة خفضت سقف التوقعات في اتباع العم سام والتنين نهجًا أكثر اعتدالًا ورشدًا في نزالهما، وسط حقبة من عدم اليقين العالمي المتزايد مع حدة التنافس بينهما على المستويات كافة. وفى حال نشبت الحرب بين الدولتين، ولو بدون قصد، ستكون حرفيًا أسوأ كارثة، تتجاوز عواقبها بكثير الحرب في أوكرانيا، تتمدد رقعتها على مستوى العالم، ويصعب التفاؤل حول كيفية إخماد نيرانها الحارقة. يؤكد مايكل أوهانلون الباحث في معهد بروكينجز، أنه حال اندلاع مواجهة عسكرية بين بكين وواشنطن، فكلتاهما لن ترضخ لمفهوم المواجهة المحدودة، ولن تقبلا التراجع أو الهزيمة، سيتوسع الصراع ليشمل بقاعًا واسعة.
من أجل ذلك، ليس أمام حيوانات الغابة سوى الاستجابة لنداء ماكرون، والعمل لتهدئة الأفيال، حتى لا ينهار المعبد على رؤوس الجميع!.
نقلًا عن صحيفة الأهرام