
مقعد فى المستقبل
كل شعب دخل فى مبارزة مع آلام الماضي ناله عقاب مرير، سكب التاريخ الملح فى جراحه، تخثرت الأوجاع فى ذاكرته، الصينيون استثناء، خدرهم الأوروبيون بالأفيون واحتلهم اليابانيون، كسروا كبرياء المملكة الوسطى؛ من قلب الإذلال ولدت المعجزة الصينية؛ لأول مرة دولة من العالم النامي تنهض قوة عظمى من جديد، تطور مذهل لا يجوز النظر إليه، كما تبصر الضفدعة السماء، من موقعها بقاع البئر، المحتل القديم يرتعد، يشعل بؤر النار فى جوار الصين القريب والبعيد، ألم يقل نابليون: «اتركوا الصين نائمة، فلو استيقظت سيندم العالم!
حتى القرن الـ 16، كانت الصين بمساحتها الهائلة وثقافاتها وكياناتها السياسية، نظاما دوليا مكتمل الأركان. عام 1800، أصبحت أكبر وأغنى مملكة فى العالم، ثم خسرت ذلك كله، بحروب الأفيون ومعاهدة نانجينج عام 1842، والاحتلال البريطاني ثم الياباني. مثلما كانت معاهدة لندن عام 1840طعنة من القوى العالمية فى قلب تجربة محمد على باشا النهضوية بمصر، رجل واحد وقف وراء المعاهدتين بالمرستون وزير خارجية بريطانيا. جاعت الصين عقب هيمنة الغرب عليها، صارت «رجل آسيا المريض»، لم تنته تلك الهيمنة إلا بوصول ماو تسي تونج والحزب الشيوعي إلى الحكم عام 1949، بالمقابل ظلت مصر فريسة للاحتلال البريطاني من عام 1882 إلى1956.أدرك عبد الناصر وماو خطورة الخلل البنيوي فى النظام الدولي ثنائي القطبية؛ سعيا لبناء (كتلة ثالثة) تعاونية من دول الجنوب. بعد رحيل ناصر ثم ماو، اعتبرت الصين دول الشرق الأوسط، منطقة نفوذ أمريكية؛ طوال حكم الرئيسين السادات ومبارك ارتبطت علاقات القاهرة وبكين بترمومتر واشنطن. وهي الفترة التي شرعت خلالها الدولتان بتنفيذ الانفتاح الاقتصادي، فتشابهت الطرق وتباينت النتائج.
بحسب دراسات موثقة كان الاقتصاد المصري، نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، أفضل من نظيريه الصيني والكوري الجنوبي، ثم دشن الرئيس السادات الانفتاح الاقتصادي، عقب حرب أكتوبر وتراجع الدعم العربي؛ بهدف بناء اقتصاد وفق آليات السوق، الفكرة جيدة (نظريا)، أما التنفيذ فبات مثالا للإخفاق، لماذا؟!..لأن الانفتاح الساداتي، كان استهلاكيا لا إنتاجيا، أمست مصر مكبا للسلع من مختلف بلاد الدنيا، ولما جاء العصر المباركي، وصل الفساد للركب؛ نشأت طبقة طفيلية انتهازية حاربت التصنيع عصب التنمية الحقيقية، تحول الانفتاح نوعا من التبعية وإهدار الموارد والأصول. بعد ثلاثين عاما من الالتزام بالنيوليبرالية، أنتج الفشل الاقتصادي تحولات اجتماعية وسياسية، قامت ثورتا 25 يناير و30 يونيو رفضا لها.
وبرغم ذلك تظل مصر أحسن حالا، من الاتحاد السوفيتي، لأن تجربة جورباتشوف الإصلاحية أفضت إلى انهيار الدولة وتمزقها. بالتوازي تولى الزعيم دينج شياو بنج قيادة السفينة الصينية، نهاية السبعينيات، بادئا خطوات الإصلاح والانفتاح، أطلق عبارته: “لا يهم لون القط أسود أو أبيض، المهم أن يصطاد الفئران» أي أن الأولوية للنمو والإنتاج لا الأيديولوجيا، تلمس خلفاء دينج خطاه: التركيز على التنمية المستقلة، أي (السيادة الاقتصادية) لا التبعية، الحفاظ على العلاقات مع العالم الثالث، عدم التصادم مع القوى الكبرى.. أدركت الصين أهمية الجغرافيا الاقتصادية، على حساب الجغرافيا السياسية، أصبحت عنصرا فعالا فى التطوير التكنولوجي الصناعي والزراعي والعسكري، إنها مصنع العالم حاليا.
بكين أكثر حذرا وصبرا من موسكو تسعى لبسط نفوذها عن طريق تعظيم قوتها الاقتصادية؛ فهمت سر التقدم الرأسمالي، أي العمل ثم العمل عبر كسب ميزات إضافية ضد المنافسين، وصعود مدارج التطور الصناعي وبناء قاعدة تكنولوجية؛ أثبتت التجربة الصينية أن الاستقلال قرين التنمية، وأن الدولة ليست رجل أعمال فاشلا، أنجزت 13 خطة خمسية متعاقبة، جعلتها القوة الثانية عالميا، انتشلت 800 مليون صيني من تحت خط الفقر، تملك 7% من الأراضي الزراعية وتطعم سكانها (خُمس العالم). تلك المعجزة نتاج تخطيط عقلاني، الصيني «نحلة عسل»، يأكل قليلا ويعمل كثيرا، يدرك جوانب قوته وضعفه، يمزج الأصالة والمعاصرة، يصعق الفساد، لا يغفل مرارة الإذلال الاستعماري وخطورة التخلف وأضراره؛ وجد المفكرون الصينيون الوصفة المناسبة، بمزج الأساس الفلسفي الصيني، بالنسق الفكري الأوروبي، ألبسوا مثلثات المادية الجدلية الأوروبية الصاعدة دائما إلى أعلى، فوق الدائرة الفلسفية الصينية، فكانت النتيجة شكلا حلزونيا، لا بداية ولا نهاية، إنما حركة دائمة تؤمنها الدائرة الصينية، بينما تؤمن المثلثات الحركة إلى أعلى، إلى التقدم. هل يذكرنا ذلك بالفشل العربي فى التوفيق بين التراث والحداثة، فانتكست الأمة حضاريا.
أقض الصعود الصيني مضجع الولايات المتحدة، وها هى تحاول عرقلته بكل الوسائل، لن يهدأ لواشنطن بال حتى توقف تقدم بكين إلى مقعد الصدارة العالمية، تحالف أوكوس فى المحيط الهادئ أو ما يحدث فى أوكرانيا؛ حتى وإن بدا منفصلا، بالمقابل يواصل المشروع الصيني الاندفاع بعجلة متسارعة للأمام، برغم التحديات الخارجية والعقبات الداخلية، صحيح أنه مشروع إمبراطوري، لكنه من أجل الناس، الفقراء والطبقة الوسطى الذين شكلوا قاعدة المشروع وهدفه، من أجل تنظيمهم وتسليحهم بالمهارات والقدرات؛ حتى يرثوا الأرض، القضية لا علاقة لها بالرومانسية، بات هؤلاء الفقراء أصحاب المصلحة الحقيقية فى استمرارية المشروع؛ فحافظوا عليه من الهدم، سواء لأسباب داخلية أو ضغوط خارجية؛ فالتقدم الاقتصادي الذى يفيد الأغلبية لا يأتي الّا حين تقوم الدّولة بحشد وتوجيه الموارد تجاهه، وليس حين تترك السوق لجنونه أو لسيطرة الأثرياء؛ لذلك ضمنت الصين مقعدها فى المستقبل!.
نقلًا عن صحيفة الأهرام