
الهند واللعب مع الكبار!
الأربعاء الماضي؛ كان العالم على موعد مع معجزة هندية جديدة؛ بهبوط مركبة الفضاء تشاندرايان-3 على القطب الجنوبي للقمر، بعد أيام من فشل مهمة روسية مماثلة، لتصبح الهند ثاني دولة بعد الصين تصل لتلك البقعة، وسبق أن وضعت قمرًا اصطناعيًا في مدار حول المريخ؛ لتنضم إلى نادي الصفوة؛ بوصفها إحدى القوى الكبرى في النظام العالمي، تحوز مقعدًا في مجلس إدارته عن جدارة.
تثبت التجربة الهندية الطالعة من رماد الفقر والانكسار أن لا سبيل للنهوض والازدهار إلا بالعلم والمعرفة، استيقظت الهند متأخرة ثم سبقت الجميع، وباتت دولة عظمى ترقص مع العمالقة، قفز اقتصادها إلى المرتبة الخامسة عالميًا، متجاوزًا بريطانيا (المحتل القديم)، توقع ناريندرا مودي رئيس الوزراء الهندي أن يقفز الناتج المحلى لبلاده إلى 5 تريليونات دولار، وأنها ستكون محركًا للنمو العالمي، لافتًا إلى أن نيودلهي حولت الأزمات إلى فرص للتقدم الاقتصادي. انضمت الهند إلى مجموعة العشرين، وهي عضو في “البريكس”، ويتوقع البنك الدولي أن يصبح اقتصادها أكبر 40 مرة بحلول عام 2050 عمّا كان عليه في سنة 2000.
صعود الهند من الحضيض إلى ذرى المجد كان شاقًا وموجعًا. منذ استقلالها عام 1947، عانت حروبا أهلية وخارجية وفقرًا وفسادًا، شعب ممزق: أديان وأعراق ولغات، لكنها تغلبت على المحن؛ أخذ الزعيم “نهرو” بيدها، حفر الصخر بقطرات الماء لا المعاول. برغم أنها كانت دولة شديدة العوز، أصر “نهرو” على إعطاء الأولوية للتعليم بوصفه مشروعًا قوميًا، قال: لقد بلغت الهند حدًا من الفقر المدقع تدفعنا إلى الإسراف في الإنفاق على التعليم. غرس الرجل بذور العلوم المتقدمة بتربتها، وضمن الدستور مادة: على كل مواطن هندي أن يشارك في تنمية الفكر العلمي؛ فأصبحت الهند حاليًا عملاقًا تكنولوجيًا ودولة نووية متقدمة، وقوة صاعدة تغيّر موازين القوى في آسيا والعالم، تكتفي ذاتيًا من الغذاء، مع أنها الأكبر سكانًا في العالم بنحو 1٫43 مليار نسمة، متجاوزة الصين.
طبقت الهند مقولة ونستون تشرشل: إمبراطوريات المستقبل ستكون إمبراطوريات العقل. بامتلاكها برنامجًا لغزو الفضاء، صارت قاطرة للتنمية والتقدم والرقى الحضاري بين الأمم. منذ 40 عامًا، وهى تطلق الصواريخ والأقمار الصناعية إلى الفضاء، نجحت بإيصال مركبة إلى المريخ ثم القمر وبأقل التكاليف؛ ما يجعلها بين قلّة مختارة من الأمم.
يقول فيكرام سرابهاى أبو البرنامج الفضائي الهندي: نحن مقتنعون بأنه إذا أردنا أن يكون لنا دور بين الأمم فيجب أن نتفوق على الجميع في تسخير التقنيات الحديثة لخدمة الإنسان والمجتمع. إذًا شفرة التقدم الهندي تتمثل في إعطاء الأولوية للتعليم والتكنولوجيا واقتصاد المعرفة؛ فالتعليم المتقدم رافعة للاقتصاد، والاقتصاد المتطور يتطلب مؤهلات وكوادر، ويستجيب له النظام التعليمي. إن الهند أمة من العباقرة والكادحين والمهرة؛ بحسب تعبير أنجيلا سايناي في كتابها (أمة من العباقرة)، تسير بخطى واثقة لمنافسة الكبار على زعامة العالم، سلاحها التعليم الجيد، علاوة على السوق الداخلية الواسعة، لاتساع الطبقة الوسطى، ومد مظلة الأمان للمحتاجين.
الإنفاق على التعليم والبحث العلمي والتقنيات ليس هدرًا للأموال أو استعراضًا زائفًا؛ معظم قيادات شركات التكنولوجيا العالمية، مثل مايكروسوفت وجوجل وآى. بى. إم من ذوي الأصول الهندية؛ وتتوقع بعض الدراسات أن يتولى أحدهم الرئاسة الأمريكية، قبل عام 2050.
أقامت الهند نظامًا ديمقراطيًا علمانيًا، وقضاءً مشهودًا له بالاستقلالية؛ ما كفل سلامة المجتمع ورشده. اختارت العلم والتكنولوجيا؛ فتخلص وجهها من التجاعيد ونجت من الأزمات. في عام 1991 وجدت نفسها على حافة الإفلاس، سقط اثنان من كل خمسة هنود تحت خط الفقر، وارتفع التضخم والأسعار.
اضطرت نيودلهي لتسليم حمولة طائرة من احتياطي الذهب، رهنًا، لضمان قروض من بريطانيا. ثم جاء عراب نهضتها مانموهان سينغ، خريج أكسفورد وزير المالية الليبرالي ثم رئيس الوزراء فيما بعد، فأعاد كتابة التاريخ؛ حرر الاقتصاد بالتدريج، انفتح على العالم بوعى، وحفز الاستثمار الأجنبي. توافدت الشركات العالمية إلى قطاعات الصناعة، فانخفضت البطالة والتضخم والديون وعدد الفقراء من 400 مليون شخص إلى 260 مليونًا، وارتفع الاحتياطي النقدي من مليار دولار إلى 400 مليار.
اعتنت الهند بتحديث الزراعة فحققت الاكتفاء الذاتي، وصنعت كل شيء تقريبًا من السيارات إلى الإلكترونيات، تجاوزت صادراتها 480 مليار دولار منها 160 مليارًا في البرمجيات من وادي السيلكون في بنجالور. الهند أكبر مصدر للمواد الخام الدوائية واللقاحات، إنها صيدلية فقراء العالم، وهي أكبر منتج للأفلام السينمائية من “بوليوود”، وهي قوة عسكرية ونووية يافعة.
كل هذا النجاح يعود إلى إقامة الهنود صروح التعليم الراقي والديمقراطية الحقيقية بمواجهة التحديات، تنعكس صورتها على أبنية المؤسسات السياسية والقضائية والإعلامية، الشعب مصدر السلطات، والبرلمان يجسد إرادة الأمة في تداول سلمي للسلطة، بانتخابات نزيهة منتظمة وقضاء مستقل ووسائل إعلام حرة، تفتح صدرها للآراء المعارضة والمؤيدة، برغم ما يحيط بالبلاد من صراعات جيوسياسية هائلة.
تنهمك الهند في صياغة عالم متعدد الأقطاب، بإدراك وبصيرة، العالم شركة مساهمة، لا يجلس ضمن مجلس إدارتها إلا من أسهموا في رأسمالها، أما العاطلون والمحتاجون، فمن الصعب أن نراهم في مقاعد المديرين، إنه أمر تثبته شواهد الواقع وموازين القوى الدولية، وتؤكده حقائق التاريخ الماثلة أمامنا.
نقلًا عن جريدة الأهرام