الأمريكتانمصر

العلاقات المصرية – الأمريكية: تاريخ من التعاون وموازنة المصالح

لطالما كانت مصر حليفًا جيو-استراتيجي مهمًا للولايات المتحدة؛ لأسباب متنوعة ترجع في أساسها إلى عدد من العوامل ذات الأهمية، ومنها: الموقع الاستراتيجي لمصر، إضافة إلى العنصر البشري، والثقل السياسي والتاريخي، وهي الأمور التي تجتمع لتجعل للقاهرة مكانة خاصة في الحسابات الاستراتيجية الأمريكية من الناحيتين الدبلوماسية والعسكرية. 

وترى واشنطن أن مصر ضامن أساسي للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بما تمتلكه من علاقات متوازنة مع الفواعل الأساسية في المنطقة، إضافة إلى كون القاهرة قادرة على زيادة التنسيق مع الدول الرئيسة في مجالات مكافحة الإرهاب والتطرف؛ باستخدام عدد كبير من الأدوات من أهمها عامل الخبرة في المجال.

ويعد التنسيق بين القاهرة وواشنطن ذا أهمية خاصة في الوقت الحالي الذي يتسم بحالة من تصاعد الصراعات وعدم اليقين، منعكسة في: التصعيد في الأراضي الفلسطينية، وتعقد المشهد السياسي في السودان، وحالة عدم اليقين في ليبيا، إضافة بالطبع إلى الأزمة الروسية الأوكرانية والانفتاح على مسألة الحوار والتفاوض؛ مما يشكل من المحادثات الثنائية التي ستجري في شرم الشيخ اليوم قبل توجه الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى بالي لحضور قمة العشرين فرصة للمضي قدمًا في تقييم طبيعة العلاقات الحالية لمواجهة التهديدات والمعضلات المستقبلية. 

إطار التعاون المصري – الأمريكي

أولًا) الإطار السياسي:

بالتأكيد على أهمية مصر كدولة مستقرة في منطقة غير مستقرة بشكل متزايد، فإن ثقل مصر السياسي مكنها بلباقة دبلوماسية تقليدية من الحفاظ على دورها في استقرار المنطقة العربية؛ وذلك من خلال لعب دور الوسيط الرئيس في حل النزاعات الإقليمية. ومن الأمثلة على ذلك دور مصر في التوسط في وقف إطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية؛ فقد استطاعت القاهرة كسب إشادات دولية خصوصًا من الإدارة الأمريكية التي لا ترغب في انفجار الأمور في غزة وتحولها إلى حرب شاملة، وهو ما تستطيع القاهرة ضبطه بخبرة دبلوماسية اكتسبتها على مدار عقود في التعامل مع كافة الفصائل الفلسطينية.

على الجانب الآخر، سارت القاهرة على ما يمكن وصفه بالنهج المحسوب في التعامل مع التوترات في ليبيا المجاورة، اعتمد في جوهره على الانفتاح على جميع الأطراف، والانحياز إلى الشرعية. وكل من مصر والولايات المتحدة يؤكدان أن حل الأزمة الحالية في ليبيا يكمن في النهاية في إجراء انتخابات وتمكين المواطن الليبي من التعبير عن نفسه من خلال صناديق الاقتراع. وهنا تظهر محورية الدور المصري بالتنسيق مع الولايات المتحدة لحشد أكبر قدر من الدعم السياسي الشرعي للمبعوث الأممي “عبد الله باتيلي” وقطع الطريق على أي أجندات فردية ترغب بعض القوى السياسية الخارجية في فرضها.

وشكلت الحرب الروسية – الأوكرانية عاملًا من عوامل الضغط على الإدارة الأمريكية التي أرادت كبح جماح التوغل الروسي في السودان، فكثفت من لقاءاتها مع قادة الحرية والتغيير “المكون المدني” في الأزمة السياسية السودانية، وكان ذلك بهدف دفع الحرية والتغيير للدخول في حالة من الحوار المباشر مع المكون العسكري لاستعادة المسار الانتقالي وصولًا لتشكيل حكومة مدنية بأسرع ما يمكن، في سباق مع الزمن لكبح التمدد الروسي في السودان.

وعلى الجانب المصري، فإن القاهرة التي تمثل الخرطوم بالنسبة لها عمقًا استراتيجيًا وامتدادًا جغرافيًا تحكمه وحدة المصير والمستقبل، فضلًا عن تداخل العاصمتين في ملفات حيوية أمنية وسياسية، وعلى رأسها أزمة سد النهضة الإثيوبي، اختارت الحياد الإيجابي في التعامل مع أحداث أكتوبر 2021 في السودان فلخصت موقفها في “أهمية تحقيق الاستقرار والأمن والازدهار”، و”ضبط النفس”، و”تغليب المصلحة العليا للوطن”، و”حماية وحدة الصف”، و”الحفاظ على المكتسبات” من دون الميل إلى أحد الأطراف.

ولا شك أن ذلك يمنح مصر قدرًا كبيرًا من المرونة وحرية الحركة مستقبلًا، ويقربها من حالية الموقف الأمريكي الذي يدفع هو الآخر للاستقرار السياسي، وفي هذا السياق فإن واشنطن تتحرك مدفوعة بتضييق الخناق على موسكو بينما تتحرك القاهرة مدفوعة بأسباب أكثر عمقًا تتمحور حول الحفاظ على أمن واستقرار الدولة السودانية التي يربطها ومصر تاريخ مشترك ومصير واحد.

على الصعيد السياسي أيضًا، تعد العلاقات المصرية الروسية ذات بعد مؤثر على طبيعة العلاقات المصرية الأمريكية، ومرة أخرى استندت القاهرة إلى النهج المحسوب في رسم موقفها من الأزمة الروسية الأوكرانية؛ ففي الوقت الذي أعلت فيه مصر دبلوماسيًا من قيمة الالتزام بمبادئ القانون الدولي، رفضت ازدواجية المعايير في تعامل مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة مع روسيا ورفضت قرارًا ينهي عضويتها، مما عكس صورة من الحياد الموزون الذي أهّل القاهرة فيما بعد للدعوة إلى وقف الحرب الروسية الأوكرانية من منصة مؤتمر المناخ في شرم الشيخ وجعل منها وسيطًا مقبولًا من الطرفين الأمريكي والروسي لاستضافة أعمال اللجنة الاستشارية الأمريكية الروسية التي ستجتمع نهاية الشهر الجاري في القاهرة لبحث معاهدة ستارت النووية؛ الأمر الذي يعكس كون القاهرة شريكًا موثوقًا ولاعبًا دوليًا.

وتتضح زاوية مهمة في الرؤية الأمريكية للدور المصري في منطقة الشرق الأوسط متمثلة في أن مصر وكما أنها حليف استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية فإنها حليف استراتيجي لدول الخليج، وكان حضور مصر لقمة جدة والتي استضافت الرئيس الأمريكي جو بايدن في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية انعكاسًا مهمًا على هذه الرؤية. ويذكر أيضًا أن طي صفحة الخلاف بعد إنهاء المقاطعة الرباعية في قمة العلا كانت مصر ضامنًا وفاعلًا أساسيًا فيه، بما يتضمن أن التقارب بين القاهرة والعواصم الخليجية مؤشر على استقرار المنطقة في أي توقيت خصوصًا إذا ما تم التركيز على التعاون في تأمين منطقة البحر الأحمر والدور المصري – السعودي فيها والتي تعد منطقة اهتمام استراتيجي لواشنطن.

وعند النظر لحقوق الإنسان في مصر، نجد أن القاهرة كانت حريصة على التعاون مع مختلف الجهات الدولية بشأن تناول تقارير حقوق الإنسان المختلفة بشكل متوازن، واتخذت عدة خطوات في هذا الملف كان أبرزها إطلاق الاستراتيجية الوطنية المصرية الأولى لحقوق الإنسان في 9 نوفمبر 2021، وهي الخطوة التي لاقت إشادة بوصفها علامة بارزة نحو تحسين حقوق الإنسان في مصر.

ثانيًا) الإطار العسكري:

تلقي العلاقات السياسية المصرية- الأمريكية بظلالها على طبيعة التعاون والتقارب العسكري، ويمكن تفسير ذلك بأن التعاون العسكري بين البلدين يشكل الأرضية الصلبة التي تضمن حسم المواقف السياسية وتأمينها. وقد صب ذلك في وجود تحالف استراتيجي يشمل التعاون العسكري والتدريبات والمناورات العسكرية المشتركة، إضافة إلى برامج التسليح والتصنيع العسكري ومكافحة الإرهاب.

وفى 22 مارس 2016، انطلقت فعاليات التدريب البحري المشترك “تحية النسر 2016″، والذي نفذته عناصر من القوات البحرية المصرية والأمريكية والإماراتية، لعدة أيام بنطاق المياه الإقليمية بالبحر الأحمر.

– في 2017 عادت إلى الساحة أضخم مناورات عسكرية بين مصر والولايات المتحدة والتي تعرف بمناورات النجم الساطع بعد توقف دام ثمانية أعوام، وتكمن أهمية عودة التدريبات العسكرية على هذا المستوى من الضخامة بين واشنطن والقاهرة إلى وحدة الموقف تجاه التهديدات التي تواجه المنطقة. فتكتسب هذه التدريبات والمناورات أهمية خاصة، خصوصًا وأن طبيعة الأوضاع بالمنطقة لا تشير إلى حروب نظامية، لأن أغلب المعارك الحالية هي مواجهات ضد تنظيمات وميليشيات ما يستدعي سرعة توحيد مفاهيم المواجهة ونقل الخبرات في الإطار الجديد. 

من جانب آخر، فإن القاهرة التي تسعى إلى تطوير التدريبات والمناورات العسكرية مع مختلف الدول خلقت عامل تحفيز لواشنطن لرفع مستويات التدريبات العسكرية وإعادة مناورات كانت متوقفة منذ عام 2009 خصوصًا كون دول الخليج كذلك تشارك في هذه التدريبات والمناورات العسكرية، مما يجعل من مصر حلقة وصل في هذه المسألة ونقطة تقارب أو التقاء. بحيث تشكل هذه النوعية من التدريبات اختبار للقدرة الجماعية على معالجة سيناريوهات واقعية، عبر المجالات الجوية والبرية والبحرية.

ثالثًا) الإطار الاقتصادي:

 تمتد العلاقات الاقتصادية بين مصر وأمريكا منذ سبعينيات القرن الماضي؛ إذ تعد الولايات المتحدة أكبر شريك اقتصادي لمصر، وتحتل مصر المرتبة الـ52 في قائمة أهم شركاء الولايات المتحدة التجاريين. وفي الوقت الحالي، برزت مصر كواحدة من أهم الفاعلين في قطاعات متعددة من أهمها قطاع الطاقة ودوره في التخفيف من حدة الانعكاسات الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية؛ إذ أن مصر لديها مقومات ضخمة وبنية تحتية للطاقة تؤهلها لتشكيل رقم مهم في المعادلة، وتمتلك إمكانيات هائلة وفرص جيدة للتوسع في كافة مجالات الطاقة. وقد انعكس الدور المصري الريادي في إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط والذي يمثل منظومة متكاملة للتعاون بين الدول المجاورة وتعظيم الاستفادة من الموارد الغازية والبنية التحتية بالمنطقة، وأهمية ذلك في وقت يشكل تحديًا كبيرًا خلال الـ 3 أو 4 سنوات القادمة في توفير مصادر الطاقة.

ومن هذا المنطلق فقد شهدت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى شرم الشيخ بالأمس على هـامش المشاركة في فعاليــات قمــة المنــاخ بشرم الشيخ COP 27 لقاءً بين المهندس طارق الملا وزير البترول والثروة المعدنية مع جيفرى بيات مساعد وزير الخارجية الأمريكي لموارد الطاقة والوفد المرافق له. حيث تم التباحث حول فتح آفاق جديدة للتعاون في ضوء الحوار الاستراتيجي الذي تم إطلاقه بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية في مجال الطاقة في عام 2019؛ بهدف التعاون في عدد من المجالات ذات الاهتمام المشترك في قطاع الطاقة، خاصة في مجالات تعزيز تجارة الطاقة واستخدام الكربون وتخزينه والهيدروجين الأخضر وكفاءة الطاقة والطاقة المتجددة وغيرها من المجالات.

في 2017، وقعت وزارة والتعاون الدولي مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في مصر 8 اتفاقيات للتعاون الاقتصادي بين البلدين، بقيمة 121.6 مليون دولار، وذلك بقطاعات الاستثمار والتعليم والصحة والزراعة والمياه.

-وتشكل صادرات النفط والمنتجات البترولية أكبر حصة من صادرات مصر إلى الولايات المتحدة، وتشكل المنتجات الزراعية والآلات الصناعية الشريحة الأكبر من الواردات الأمريكية لمصر، إذ تمثل مصر أكبر سوق للصادرات الزراعية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وبحسب “الهيئة العامة المصرية للاستعلامات”، تتمتع مصر بحق الاستفادة من النظام المعمم للمزايا الأمريكي GSP، الذي يسمح بتصدير بعض المنتجات المصرية إلى السوق الأمريكية وإعفائها من الجمارك. وتعد مصر رابع أكبر دولة في المنطقة بالنسبة للصادرات الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط.

-وفي رصد تطور العلاقات الاقتصادية خلال الثلاث أعوام الأخيرة، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية 9.1 مليارات دولار خلال 2021. وبلغت قيمة صادرات مصر لأمريكا 3.4 مليار دولار عام 2020 وكانت أهم السلع المصدرة من مصر السلع الغذائية، والملابس الجاهزة والمنسوجات، والحديد والصلب، والمنتجات البترولية. بحيث بلغ إجمالي التبادل التجاري 65.8 مليار دولار بين مصر وأمريكا بنهاية عام 2020.

ويفهم مما تقدم أن مصر استطاعت إعادة تقديم وتقييم وضعها على الساحة الدولية بوصفها حجر زاوية في استقرار المنطقة؛ من خلال توطيد العلاقات السياسية والانفتاح على جميع الأطراف المتسببة في أزمات إقليمية أو دولية بما يتماهى مع قواعد القانون الدولي ويحفظ الأمن القومي المصري وبذلت الدولة المصرية جهدًا غير مدخر في تطوير البنية التحتية لقطاع الطاقة نظرًا لأهميته الاقتصادية التي تجعل منه سلاحًا فعالًا خصوصًا في أوقات الحروب والأزمات ويضاف إلى ذلك أن القاهرة قادرة على اكتساب المزيد من الثقة على المستوى الدولي مما يتيح لها زيادة التنسيق مع الدول الرئيسية في مجالات مكافحة الإرهاب والتطرف، ومن ثم فإن استراتيجية العلاقات المصرية الأمريكية يتم النظر لها على وجه الدوام من النواحي سالفة الذكر بحيث كانت وتظل موازنة المصالح محددًا أساسيًا للعلاقات.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

نيرمين سعيد

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى