
مسارات السيسي لتدشين عقد اجتماعي.. دروس التاريخ ورؤى المستقبل
ثمّة حديث لافت عبّر عنه الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الاقتصادي، وكذا جلسة الختام التي ذكر فيها جمل واضحة ومباشرة، رغم أن جانبًا من ذلك قد تم تناوله غير مرة في لقاءات السيد الرئيس.
بدا السيد الرئيس في تلك الساعات حريصًا على تناول فلسفته الخاصة في إدارة الحكم، والتي تمركزت طيلة السنوات السابقة على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وكان مفادها حماية وتأمين وتعزيز بنية الدولة وتماسكها، من ناحية، ثم الحفاظ عليها وأجهزتها ومؤسساتها، من ناحية أخرى. وتؤشر هذه الأمور من أنماط الإدارة السياسية للحكم إلى أطر العلاقة الواقعية بين متطلبات المواطنين وقدرات الدولة في مرحلة محددة.
مرت مصر كغيرها من الدول، التي عرفت اضطرابات العام ٢٠١١، بمرحلة مفصلية يستقيم معها أن تمد خطًا فاصلًا فيما سبقها وما لحق بها من سنوات. فضلًا عن تلك الأحداث التي خبرتها البلاد مع خروج الملايين لاقتلاع جماعة الإخوان من كرسي الحكم، مما أضاف حملًا آخر وأعباء جمّة على ظهر الدولة المرهقة. ويحرص الرئيس السيسي على ضبط أحداث التاريخ لمعاصرة، موضع المقاربة، مع الواقع المعاش، وربط الأسباب بالنتائج حتى تبدو الصورة حيز الإدراك التام والرؤية الدقيقة.
نحو ذلك تتماهى رؤية الرئيس التي تحاول إعادة الانضباط للعديد من الأمور، ومنها الدولة التي ظلت كثيرًا تعاين صورة الرعاية الشاملة لمواطنيها من ناحية تقديم كافة الخدمات دون النظر لقدرة الدولة على ديمومة ذلك، فضلًا عن ضرورة المحافظة على جودتها وكفاءتها، لذا سعى الرئيس في حديثه خلال المؤتمر الاقتصادي أن يستعرض بشفافية مسار مهم ودال للحفاظ على بنية الدولة في نظر مواطنيها، وأن يحسم شكل العلاقة الواجبة بين حقوق وواجبات المواطن والدولة على نفس الخط ومنسوبها الدقيق.
لم يشأ الرئيس إلا أن يتخذ الطريق الأكثر وعورة، وذلك استنادًا لما أطلق عليه استثمار الرصيد الشعبي. وذلك حين أطلق برنامج الإصلاح الاقتصادي وعدل الكثير من فاتورة أسعار الخدمات المقدمة للمواطنين بالشكل الذي لم يعهده المصريين من قبل، مما بدا للجميع وكأنه انسلاخ الروح عن الجسد.
ليس ثمّة شك في أن تعظيم وعي المصريين بقدر التحديات ومسارات المجابهة التي لاقتها الدولة المصرية، خلال سنوات العقد الفائت، جاءت نتيجتها واضحة وفاعلة في اصطفاف الشعب بجانب الدولة رغم تلك الأعباء الاقتصادية الواضحة.
من الأهمية بمكان الإشارة إلى نقطة مهمة وردت على لسان الرئيس في حديثه خلال المؤتمر الاقتصادي بشأن مسارات التغيير التي يبتغيها داخل بنية الدولة، وكيفية الانتقال من الوضع المتردي إلى حالة أكثر كفاءة في قطاعات الدولة، حيث أشار نحو اقتناعه بالمسارات المتوازية في الإصلاح والعمل على ذلك بنسق واضح وفاعل. ويرى أن ذلك في تقديره يتناسب مع الحالة المصرية وإشكالياتها. بينما يمثل ممرًا آمنًا للخروج من بؤرة التحديات إلى بقعة أمل واجبة وضرورية أن تستقر في أعين الناظرين.
إلى ذلك، تستطيع أن تتلمس ذلك نحو مشروعات البنية التحتية، والطرق والكباري، وتحسين شبكة السكك الحديدية وتطويرها الكامل، ومشروع التأمين الصحي الشامل والقضاء على قوائم الانتظار، وتشييد مشروعات الاسكان الاجتماعي، وإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، وإطلاق الجامعات الأهلية الجديدة، وتطوير الموانئ المصرية، وصوامع القمح، وتبطين الترع، وإطلاق مشروع حياة كريمة لتطوير القرى المصرية. فضلًا عن السياسة الخارجية الرشيدة التي تموضعت من خلالها القاهرة كفاعل رشيد في حيز السياسة الدولية وطرف مؤثر داخل السياسة الإقليمية، وغير ذلك من المشروعات التي تستهدف تغيير صورة البلاد التي أرهقها بطء مشروعات التنمية.
يقينًا؛ أن ما تحدث عنه السيد الرئيس من قصور الدولة في تحقيق بعض الخدمات أو قلة جودتها في أعين المواطن أمر بالغ الدلالة في تجذر مفهوم الدولة وعلاقتها بالمواطن، فضلا عن كون ذلك يشي بضرورة أن يصل للمواطن واقع الأحداث وصيرورته بشكل لا لبس فيه، مما يحتاج دومًا إلى خطاب إعلامي رصين يدرك مفهوم الدولة ويتلمس حالتها ووضعها في مرحلة تاريخية حرجة يحتاج إلى زمن معلوم حتى يتسنى له تجاوز أطر التحدي وزواياه الحادة.
لما كانت مصر كأي دولة لا تحيا في الفراغ، وتتأثر بكافة المعطيات السياسية والاقتصادية والأمنية المحيطة خبرت تلك المعطيات منذ انطلقت ضد مشروع الإسلام السياسي، في منتصف العام ٢٠١٣، فيما احتشدت ضد الإرهاب وتنظيماته في سيناء ضمن الخطة الشاملة طيلة السنوات الأخيرة، ثم ما لبث أن واجهت مع العالم فيروس كورونا وتداعياتها الاقتصادية والمالية، وكذا تفجر الصراع واندلاع العمليات العسكرية في أوكرانيا وما ترتب على ذلك من آثار وخيمة على مستوى أسعار الطاقة وتوفير الغذاء، مما ضاعف من عمق التحديات ووضع الدولة وهيكلها الرسمي في اختبار أمام مواطنيها. بيد أن ذلك لم يمنعها من تقديم موجات متتالية من حزم البرامج الاجتماعية، التي تمكن المواطن البسيط على مواجهة تلك المتغيرات في البيئة المعيشية من ناحية ارتفاع أسعار بعض السلع مع ملاحظة قدرة الدولة على توفير تلك السلع.
في إطار ذلك، أعلن الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، مجموعة من القرارات الجديدة خلال مؤتمر صحفي بمجلس الوزراء. وتضمنت تلك القرارات الموافقة على حزمة الحماية الاجتماعية التي كلف بها الرئيس السيسي خلال المؤتمر الاقتصادي وجاءت القرارات كالتالي:
-رفع حد الإعفاء الضريبي من 24 ألفا إلى 30 ألف جنيه.
– رفع الحد الأدنى للأجور من 2700 إلى 3 آلاف جنيه.
– إقرار علاوة استثنائية لجميع العاملين بالدولة وأصحاب المعاشات بقيمة 300 جنيه.
– توفير دعم مالي للأسر على بطاقات التموين حتى 30 يونيو المقبل.
– استمرار العمل بالأسعار السارية للكهرباء حتى 30 يونيو 2023.
ثمّة رؤية يستند إليها الرئيس في ضرورة تأطير العلاقة بين الدولة والمواطن، بحيث يدرك الأخير أن عليه جملة من الواجبات التي عليه أن يضطلع بأدائها صوب وطنه بكل جدية ووعي أن ذلك في النهاية حق بلاده ورصيد يتراكم له ولأبنائه جيلا بعد آخر.
أتصور بشكل واضح لا لبس فيه، أن حديث السيد الرئيس الذي جاء مرة عبر افتتاح المؤتمر الاقتصادي وأخرى في ختام جلساته، أنه كان يخط نسيجًا واضحًا لعقد اجتماعي جديد ينظم العلاقة بين الشعب والدولة في الجمهورية الجديدة، وينبغي بعدما عبر الرئيس بالفكرة وقدمها منفردًا من خلال البث المباشر أمام الملايين وفي حضور رئيس الحكومة والوزراء، أن يمارس الإعلام بكل رصانة وموضوعية دورهم المنوط بهم في تأطير وشرح ذلك.



