
بعد وفاة “جورباتشوف”: تفكك الاتحاد السوفيتي بين الخطأ والمصير المحتوم
توفى “ميخائيل جورباتشوف”، آخر رئيس للاتحاد السوفيتي السابق، عن عمر يناهز 91 عامًا، بعد صراع طويل مع المرض. لتفتح وفاته في ظل توقيت يخوض فيه الاتحاد الروسي حربًا مع أوكرانيا، تهدف في نهاية المطاف لاستعادة المجد الروسي السابق، تساؤلات انقسمت إلى جبهتين متضادتين من الجماهير؛ أحدهما تعتقد أن الاتحاد السوفيتي انهار بفعل خطأ ارتكبه “جورباتشوف”، ويترتب على ذلك بطبيعة الحال أن يكون هو المذنب الرئيس في الحرب التي يُعاني العالم أجمع في الوقت الحالي من تبعاتها الاقتصادية. وآخر، يعتقد أن “جورباتشوف” اضطلع بدور الرئيس على أكمل وجه ولكن في حدود الإمكانات الاقتصادية والظروف السياسية التي كانت تمر بها بلاده في ذلك الوقت. بشكل يستوجب معه تقديم قراءة لأسباب وظروف تفكك الاتحاد السوفيتي ودور “جورباتشوف” في الحياة السياسية الروسية.
شخصية “جورباتشوف”: بين المُلهم والمُتهم
ثمة أشخاص في حياة كل أمة تحمل مسيرتهم منعطفًا محوريًا في تاريخ بلادهم؛ فنجد إنهم إما يقودون شعلة حضارتها للأمام، أو يحملونها معهم من أعلى قمة وصولًا إلى أعمق نقطة في قاع الأمم. وقد لعب “جورباتشوف” دورًا محوريًا ليس فقط في حياة بلاده، بل من الأجدر أيضًا القول إن فترة رئاسته الوجيزة للاتحاد السوفيتي والتي لم تتعد عامين كان لها طابع محوري تأثر بفعله العالم أجمع، خاصة بعد انزواء عصر الثنائية القطبية في السياسة الدولية وانحسار الأمر في قطب واحد فقط وهو الغرب برئاسة أمريكية. كما يُعزى لـ “جورباتشوف” دوره المهم في عدد من الأحداث والمواقف التاريخية الفاصلة، يأتي من أهمها؛ إنهاء الحرب الباردة، وتوحيد ألمانيا الشرقية والغربية.
وليس ثمة شك في أن “جورباتشوف” يُعد واحدًا من الكفاءات السياسية الفذة التي عرفها الحزب الشيوعي، حيث أصبح أصغر عضو في مكتبه السياسي عام 1979، ومن ثم تم تعيينه في منصب أمين الحزب الشيوعي في العام 1985. كما أن مسيرة “جورباتشوف” السياسية لم تنته عند حد استقالته من منصب رئيس الاتحاد السوفييتي عام 1991. ولكنها استمرت فيما بعد وقد اتخذت أشكالاً عديدة. تجعل من مشواره السياسي فيما بعد الرئاسة شيئًا كفيلاً بنفي أي احتمالية لأن تكون الأقاويل والشائعات التي روج لها البعض بأن “جورباتشوف” كان في الأساس عميلًا للغرب.
فبعد تخليه عن مهام الرئيس، ديسمبر 1991، أسس “جورباتشوف” مؤسسة تحمل اسمه تختص بالبحوث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في يناير 1992، وصار رئيسًا لهذه المؤسسة لبقية حياته. وكانت هذه المؤسسة تحتوي على صندوق خاص بتلقي التبرعات أو أتعاب رئيس المؤسسة نظير المحاضرات والمؤتمرات التي تنظمها، والندوات والموائد المستديرة، ودعم الأنشطة الإنسانية والخيرية. ونجحت المؤسسة، بدعم من شركائها، في إنشاء أول مركز لزراعة نخاع العظام للأطفال اللذين يعانون من سرطان الدم في موسكو، ثم تم إنشاء أفرع مختلفة للغرض نفسه فيما بعد. حيث تمكن “جورباتشوف” بفضل جهوده، في جذب الكثير من التبرعات الخارجية، التي وصلت إجمالًا إلى نحو 11 مليون دولار أمريكي تم إنفاقها على البرامج الإنسانية الروسية.
وحاول “جورباتشوف” العودة إلى مقعد الرئيس مرة أخرى في عام 1996، عندما ترشح للانتخابات التي لم ينل نصيبًا وافرًا في أصواتها بشكل يخول له النجاح. علاوة على ذلك، كتب الكثير من الكتب السياسية منها ما يتعلق بـ “البييرسترويكا” ومنها ما يحكي عن حياته. وظهر كذلك في العديد من الإعلانات التجارية لعلامات غربية شهيرة مثل “بيتزا هت” و”لوي فوتون”، والسكك الحديدية النمساوية.
وفيما يتعلق بالصحافة والانفتاح على الجماهير، يُذكر أن “جورباتشوف” استحوذ في أغسطس 2006 على حصة 49% من صحيفة “نوفايا جازيتا” الروسية المعارضة الشهيرة، جنبًا إلى جنب مع السياسي الروسي “ألكسندر ليبيديف”. وصرح عقب إتمام الصفقة على أن السياسة التحريرية للصحيفة لن تتأثر لأنه ورفيقه لا يمتلكان من الأسهم الأغلبية التي تسمح لهم بتغيير توجهات الصحيفة.
وفيما يتعلق بآراء “جورباتشوف” السياسية تجاه النظام الروسي الحالي، فيذكر أنه عبر خلال مقابلة أجراها مع هيئة الإذاعة البريطانية عن انتقاداته للرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، عندما قال موجهًا حديثه له “يجب ألا تخاف شعبك”.
وفي يوليو 2022، نقل عنه الصحفي الروسي، “أليكسي فيدينيكتف”، رد فعله على الحرب الروسية في أوكرانيا. حيث قال إن الرئيس السوفيتي السابق يشعر بخيبة أمل شديدة من الحرب التي شنها الرئيس الحالي في أوكرانيا ويعتقد أن “بوتين “دمر الإرث كله، ودمر أعمال حياته”. وذكر الصحفي أن “جورباتشوف” لم يتحدث علنًا لكنه شديد الاستياء من تدمير إرث حياته الذي يتمحور حول الحرية.
وما دام الشيء بالشيء يُذكر، فإنه من اللافت للانتباه أن صحيفة “نوفايا جازيتا”، قد تم تعليق عملها في مارس 2022 من قبل السلطات الروسية. بعد أن أعلنت الصحيفة، 28 مارس، أن هيئة تنظيم وسائل الإعلام الحكومية “روسكومنادزور” قد أصدرت تحذيرًا بشأن تشغيل الصحيفة وأعلمتها أنها ستوقف عملياتها المطبوعة والإلكترونية إلى حين نهاية ما يسمى بالعملية الخاصة الروسية في أوكرانيا. ووفقًا للسلطات الروسية، فإن هذا القرار يأتي بعد أن نشرت الصحيفة مواد تعود إلى مصادر من منظمة غير ربحية صنفتها الحكومة الروسية على أنها “وكيل أجنبي”، لكن الصحيفة لم تتبع التصنيف الرسمي خلال ذكر المصدر في متن المحتوى المنشور.
قصة الانهيار: كيف؟ ولماذا؟
في عام 1961، حدد “نيكيتا خروشوف” مهمة الانتهاء من بناء الشيوعية في الاتحاد السوفيتي بحلول عام 1980. وفيما بعد، سعت الدولة للحفاظ على الثقة في الاشتراكية، غير أن حالة من الإحباط العام قد تصاعدت بلا هوادة. وتم تعزيز هذه الحالة بفعل عدم قدرة الحكومة المركزية على تنظيم طبيعة عمل الاقتصاد المحلي بطريقة تضمن تلبية الاحتياجات اليومية للسكان. وأصبحت معاناة الناس من نقص المنتجات في المتاجر، ومن هيمنة البيروقراطية، وتفشي الأكاذيب، نواة للأسباب الرئيسة التي أدت إلى فقدان الثقة في الشيوعية أولًا، وفي الحزب نفسه ثانيًا، بشكل وضع أساس للانهيار في وقتٍ لاحق.
وبناءً على ذلك، قررت قيادات سوفيتية مثال، “ليونيد بريجنيف”، و”يوري أندروبوف” التعامل مع هذه التحديات من دون المساس بالهيكل الرئيس للاتحاد. وعلى هذا الأساس، تم الإعلان عن إصلاح “كوسيجين” السياسي في 1965، وتم عقد مؤتمرات عموم الاتحاد للمزارعين الجماعيين، وتم تنشيط بيع الموارد الطبيعية للخارج، واتخاذ تدابير لتعزيز الانضباط في العمل ومكافحة الفساد. غير أن كل هذه الإجراءات لم تأت بالنتائج الملموسة.
وعندما تولى “جورباتشوف” مهام الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي، اتخذ في البداية نفس المسار. ومن ثم اعترف علنًا في الجلسة العامة للجنة المركزية، 1985، بأن النظام الاقتصادي بحاجة للتحديث. وتقدم بفكرة لبرنامج يقتضي بتسريع مسار التحديث الاقتصادي. وفي العام نفسه، أعلن أن كل شيء بحاجة إلى إعادة بناء “البيريسترويكا”. وانعكس المسار الذي يريده “جورباتشوف” على الاقتصاد بأن ترتب عليه التسريع في إجراءات استيراد المعدات الصناعية وتدابير الإنتاج، وفي إعادة توزيع الصلاحيات الإدارية وغيره. وفي عام 1986، قام بإضافة شعار آخر لبرنامجه، يُطلق عليه “جلاسنوست”، حيث دعا الحزب الناس للحديث بصراحة عن أوجه القصور المحددة في الاقتصاد حتى يصبح في الإمكان سرعة معالجتها.
وفي عام 1987، اتضح أن المسارات التي اتخذها “جورباتشوف” باءت بالفشل. وعليه، فقد قرر “جورباتشوف” أن يتم تنفيذ مجموعة من الإصلاحات على نطاق أوسع. وقرر هو ورفاقه الانتقال إلى ما يُسمى بالاشتراكية الديمقراطية، وأن تتم إعادة الهيكلة على أساسها. وقد كانت التغييرات في الهيكل السياسي والاقتصادي للاتحاد السوفياتي في الفترة ما بين “1987-1991” تهدف بوجه عام إلى التحول الديمقراطي الشامل.
غير أن “البيريسترويكا” قد كشفت عن كل ما في النظام السوفيتي من عوار. حيث سارع المجتمع لمناقشة كل ما كان يتم التكتم عليه من قبل على يد الرقابة، وقراءة كل ما كان ممنوعًا في السابق من النشر، واكتسبت أخيرًا كلمة “جلاسنوست” الطابع السياسي الخاص بها. وبات جليًا، أن مشكلات الاقتصاد السوفيتي لن يتم حلها إلا بعد تحرير الاقتصاد، والاقتصاد بالتبعية ليس من الممكن تحريره من دون تنفيذ تحرير سياسي. لذلك، انتهى في هذه اللحظة احتكار الحزب الشيوعي للسلطة، وأنشأ “جورباتشوف” عام 1988، هيئة سلطوية جديدة تُدعى “مؤتمر نواب الشعب في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية”، وأصبح الانضمام لهذه الهيئة مرهونًا بالانتخابات التي قادت مرشحين مستقلين لا ينتمون للحزب الشيوعي إلى المقاعد.
ترتب على ذلك أن قادت العملية الديمقراطية أشخاصًا جددًا إلى السلطة، صار معهم الحزب مهددًا بفقدان السيطرة السياسية على الوضع. كما أن الأوضاع الاقتصادية لم تسر وفقًا للمخطط المرسوم. فعلى خلفية ما شهدته الحياة السياسية والثقافية من انتعاش، صار الاقتصاد ينغمس بشكل أكبر وأكبر في أزماته بشكل انعكس بالتأثير السلبي على سلطات الأمين العام للحزب، وأضعف مصداقية ما يرغب في تحقيقه من تحولات اقتصادية. فاضطر “جورباتشوف” لخلق منصب “رئيس اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية”، الذي دخل بطبيعة الحال في صراعات سلطة مع رئيس الاتحاد السوفيتي، مما ساهم في خلق المزيد من الانقسام.
ومن ناحية أخرى، لم تكن الأجواء السياسية لدى الجمهوريات السوفيتية مواتية بشكل يسمح بالحفاظ على استمرار الاتحاد. فمنذ عام 1988، ركزت لاتفيا وليتوانيا واستونيا على البحث عن فرصة لمغادرة الاتحاد السوفيتي. وفي العام نفسه، اندلعت خلافات بين أرمينيا وأذربيجان حول ملكية “ناجورونو كاراباخ”. وشهد العام نفسه اشتباكات بين الجورجيين والأبخازيين. وفي عام 1989، بدأت جورجيا تسعى من أجل نيل الاستقلال وتبعتها في ذلك أرمينيا ومولدوفا.
ورأى القادة المحليين للجمهوريات المختلفة أنه ومنذ “البيريسترويكا”، لم يعد في مقدور السلطة المركزية قمعهم بالعنف. وبحلول العام 1990، كان يبدو جليًا أمام الكثيرون أن الاتحاد السوفيتي سوف يتفكك بطريقة أو بأخرى. حتى أن الكاتب الروسي “ألكسندر سولجينتسي”، كتب “سوف ينهار الاتحاد السوفيتي على الرغم من كل شيء، وليس لدينا أي خيار حقيقي، وليس هناك ما نفكر فيه”.
وقد سعى “جورباتشوف” من جهته إلى وقف هذه العملية. فقد هدد باستخدام القوة تارة، واقترح تحديث معاهدة الاتحاد لأجل إزالة جميع التناقضات تارة أخرى. واستمرت المفاوضات المتعلقة بهذا التحديث لفترة طويلة لأن قادة الجمهوريات كانوا يطالبون لأنفسهم بالمزيد والمزيد من الصلاحيات.
وبتاريخ أغسطس 1991، أثناء المفاوضات، غادر “جورباتشوف فجأة إلى منزله الريفي في شبه جزيرة القرم. واستغلت مجموعة من القيادات الحكومية الفرصة لتنفيذ انقلاب عليه. وشكل عناصر الانقلاب ما أطُلق عليه “اللجنة الدولية لحالة الطوارئ”، وأعلنوا أن الرئيس سيستقيل لأسباب صحية. ورغم أن محاولة الانقلاب قد باءت بالفشل إلا أنها تسببت في تقويض سلطة “جورباتشوف” من جهة، والتسريع من وتيرة انهيار الاتحاد السوفيتي من جهة أخرى. فقد انتشرت على إثرها شائعات تفيد بأنه ذهب في إجازة عن عمد لأنه يرغب في الحصول على ذريعة لوقف عملية “الدمقرطة”. لذلك تعطلت عملية المفاوضات حول معاهدة الاتحاد الجديدة.
وظهرت محاولة الانقلاب باعتبارها فرصة مواتية للقادة المحليين لإعلان الانفصال عن الحكومة المركزية. وأعلنت، على إثرها، كُلا من استونيا ولاتفيا انسحابهما من الاتحاد السوفيتي في أغسطس 1991. ولحق بهم بعد ذلك، أوكرانيا، وبيلاروس، وأذربيجان، وقيرغيزستان، ومولدوفا، وليتوانيا، وأوزبكستان، وأرمينيا، وطاجيكستان، وتركمانستان. وباءت محاولات “جورباتشوف” بمعارضة أيًا من ذلك بالفشل، وبتاريخ 8 ديسمبر 1991، التقى رؤساء روسيا وبيلاروس وأوكرانيا في بولندا وقرروا حل الاتحاد السوفيتي وإنشاء رابطة الدول المستقلة. ومن ثم تقدم “جورباتشوف” باستقالته من منصبه بتاريخ 25 ديسمبر من العام نفسه. في خطوة تكللت فيها كل مساعيه لوقف الانهيار بالفشل الذريع، الذي لم يكن في الإمكان منع أو تجنب الوصول إليه.
باحث أول بالمرصد المصري



