روسيا

العلاقات الأمريكية الروسية بعد فوز “ترامب” بين تقارب مأمول وسياسات غير متوقعة

في الوقت الذي يتأهب فيه الكرملين لمراقبة التحولات السياسية التي قد تطرأ على السياسة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب عقب فوزه بالانتخابات الأمريكية 2024، فإن موسكو تؤكد استعدادها للعمل مع الإدارة الجديدة، لكنها تظل حذرة في تقييم تأثير هذا الفوز على مسار العلاقات الثنائية. وفيما يراه البعض فرصة لتسوية بعض القضايا العالقة، لا سيما الأزمة الأوكرانية، يشير مسؤولون الروس إلى أن التصريحات الانتخابية “لترامب” قد تكون مجرد كلمات قد لا تترجم إلى أفعال ملموسة؛ ذلك أن الواقع الجيوسياسي المعقد والموقف الثابت للولايات المتحدة من دعم أوكرانيا يجعل من الصعب تصور تغيير جذري في سياسة واشنطن دون تحولات جوهرية. وقد ترى موسكو أن هذه اللحظة ربما تكون فرصة لتحديد ملامح العلاقة بين البلدين خلال فترة رئاسته الثانية. ومع هذا، يبقى السؤال الكبير: هل سيتحقق تغيير جوهري في سياسة واشنطن تجاه موسكو، أم أن العلاقات ستظل محكومة بمسارها المتأزم؟

أبدت الجهات الحكومية الروسية، وفي مقدمتها الكرملين، ردود فعل متحفظة وحذرة تجاه فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية، معبرة عن ترحيب مشوب بالتوجس. ويأتي هذا الحذر كنتيجة مباشرة للوضع المتدهور في العلاقات الروسية-الأمريكية، وهو ما أكده المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، حيث وصف العلاقات الثنائية بأنها “وصلت إلى أدنى مستوياتها تاريخيًا”، وأنه لا يتوقع تغييرًا سريعًا رغم وعود “ترامب” السابقة.

ويعبّر هذا الموقف عن ترقب روسي مشحون بالتحديات، حيث تأمل موسكو في إحداث بعض التحسن في العلاقة مع واشنطن تحت إدارة ترامب، لكنها تدرك في الوقت ذاته أن أي توقعات إيجابية قد لا تتحقق بسهولة. في الوقت ذاته، أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن موسكو ستواصل الدفاع عن مصالحها الوطنية وتحقيق أهدافها خاصة فيما يتعلق “بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا”، مؤكدةً أن التوجهات المناهضة لروسيا في أوساط النخبة السياسية الأمريكية ستستمر. كما صرحت فالنتينا ماتفيينكو رئيسة مجلس الاتحاد، بأنه لا ينبغي توقع تغييرات كبيرة من وصول إدارة أمريكية جديدة، مشيرةً إلى أن روسيا تظل منفتحة على التعاون رغم أن الوعود الانتخابية غالباً ما تختلف عن الواقع.

على صعيد آخر، يرى الكرملين أن دونالد ترامب، رغم غموضه بشأن سياسة محددة تجاه روسيا، يعد مفاوضًا مناسبا للرئيس فلاديمير بوتين؛ إذ إن “ترامب” بالنسبة للقيادة الروسية شخصية مفهومة وأكثر قابلية للتعامل، خاصة عند مقارنته بنائبة الرئيس والمرشحة الديمقراطية التي خسرت الانتخابات  كامالا هاريس. في الوقت ذاته، ينظر  الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى “ترامب” على أنه شخص يتحدث بلغة المصالح والمعاملات، وهو أسلوب يمكن له التعامل معه بسهولة. حتى في حال تصاعد التوترات بين البلدين إلى درجة حدوث أزمات كبيرة، فإن “بوتين” و”ترامب” قد يتمكنان من تهدئة الأمور وإيجاد قنوات للتواصل تمنع الانزلاق إلى مواجهة خطيرة. مما يعزز فكرة أن التعامل مع “ترامب” يُعد خيارًا أسهل وأقل تعقيدًا بالنسبة للقيادة الروسية.

لكن القلق الروسي ينبع من عدم القدرة على التنبؤ بتوجهات “ترامب” السياسية، والتي كانت في ولايته الأولى غير مستقرة ومحفوفة بالقرارات المفاجئة. حيث عرفت فترة رئاسته السابقة مواقف غير متوقعة، تمحورت بين محاولات لإظهار التقارب مع روسيا وتبني سياسات متشددة نتيجة الضغوط الداخلية. وهذا التباين أثار لدى الكرملين مخاوف من أن يعيد “ترامب” تبني نهجًا مشابهًا غير مستقر، والذي قد يُعقّد عملية بناء علاقات دبلوماسية مستدامة.

إذن يبدو أن روسيا تتعامل مع فوز دونالد ترامب بحذر واضح، حيث ترى في التصريحات التي أطلقها خلال حملته الانتخابية حول إنهاء الحرب في أوكرانيا احتمالًا لإحداث تغيير في السياسة الأميركية تجاهها. ومع ذلك، يشير المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إلى أن موسكو تبقى على موقفها الصارم، مشددًا على أن الولايات المتحدة ما زالت تُعتبر دولة معادية متورطة بشكل مباشر وغير مباشر في الصراع الأوكراني. وتوضح وزارة الخارجية الروسية أن روسيا ليس لديها أوهام بشأن ترامب وأنها مستعدة للعمل مع الإدارة الجديدة في إطار الدفاع عن مصالحها الوطنية وتحقيق أهدافها الاستراتيجية

لذا، يمكن القول إن الموقف  الروسي من فوز “ترامب” يعكس تفاؤلًا مشروطًا ورغبةً حذرة في تحسين العلاقات، دون إغفال التحديات الحقيقية التي قد تفرضها سياساته غير المتوقعة؛ إذ تظل موسكو على أهبة الاستعداد لأي تغييرات قد تطرأ في الموقف الأمريكي بعد تنصيبه، ما يعكس حذرًا عميقًا في ظل مستقبل غير مؤكد للعلاقات بين البلدين.

ترى موسكو في فوز “ترامب” فرصة محتملة لتحسين العلاقات الروسية-الأمريكية، خاصة على الصعيدين الاقتصادي والدبلوماسي. ويتمثل أحد أبرز التطلعات الروسية في تخفيف العقوبات التي فُرضت عليها إثر الأزمة الأوكرانية، حيث تأمل القيادة الروسية أن يمهّد “ترامب” لتخفيف هذه العقوبات أو حتى إلغائها جزئيًا، مما سيفتح المجال أمام انتعاش الاقتصاد الروسي. كما تتطلع روسيا إلى فتح قنوات حوار جديدة مع الإدارة الأمريكية، حيث ترى أن التوترات بين الدولتين قد بلغت ذروتها وأن التعاون بات ضروريًا لمواجهة تحديات عالمية مشتركة، مثل الإرهاب والقضايا النووية والاستقرار الإقليمي.

وفي سياق الصراع الأوكراني، يأتي فوز “ترامب” ليُحيي آمال موسكو في تقليص الدعم الأمريكي للحكومة الأوكرانية، خصوصًا الدعم العسكري. في الوقت ذاته، تدور التحليلات الروسية حول احتمالية أن يُعيد “ترامب” النظر في نهج بلاده تجاه أوكرانيا، مع توجيه موارده واهتمامه إلى أولويات أخرى، ما قد يصب في مصلحة روسيا ويُضعف موقف أوكرانيا على الساحة الدولية. ومع ذلك، يبقى هذا التوقع محفوفًا بالشكوك؛ إذ إن السياسات الأمريكية تجاه أوكرانيا تتجاوز موقف الرئيس وحده وتشمل مؤسسات أخرى ملتزمة بمواجهة نفوذ موسكو. بالتالي، تدرك موسكو أن تحقيق هذه التطلعات يتطلب ليس فقط فوز “ترامب”، بل أيضًا تحولات أوسع في السياسة الخارجية الأمريكية، ما يجعل آمالها في تحسين العلاقات مرهونة بتطورات غير مؤكدة.

جدير بالذكر، أن “ترامب” كان قد انتقد، خلال حملته الانتخابية، تعامل الرئيس جو بايدن مع الأزمة الأوكرانية، وحذر من أن ذلك يجعل الحرب العالمية الثالثة أكثر احتمالًا. في الوقت ذاته، أدان الدعم الأمريكي اللا محدود لكييف وأنها نهبت الولايات المتحدة بالحصول على أسلحة بقيمة مليارات الدولارات مجانًا. وقال إنه يستطيع حل الصراع بسرعة، وإحضار الطرفين إلى طاولة المفاوضات، لكنه لم يكشف عن الكيفية التي سيفعل بها ذلك.

وعقب إعلان نجاح دونالد ترامب في الانتخابات الامريكية؛ سارع مستشارو السياسة الخارجية المقربون من  “ترامب” إلى طرح خططًا مختلفة لتجميد خط المواجهة بشكل فعال. إذ تبرز عدة مقترحات لتحقيق تجميد للقتال وحث الأطراف على طاولة المفاوضات. تُركز خطط مستشاري “ترامب” -كما ذكرت مصادر لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية- على فكرة تجميد خط المواجهة الحالي وإقامة منطقة منزوعة السلاح بطول الحدود بين روسيا وأوكرانيا، ما يتضمن اعترافًا فعليًا بسيطرة روسيا على جزء من الأراضي الأوكرانية وتجميد مساعي أوكرانيا للانضمام إلى “الناتو” لمدة قد تصل لعشرين عامًا.

لكن هذه الاستراتيجية قد تواجه معارضة من بعض حلفاء “الناتو” الذين يرون في أي تنازل عن أراضٍ أوكرانية مخاطرة تهدد أمنهم القومي، وأيضًا من كييف نفسها التي تعتمد بشكل كبير على الدعم العسكري الأمريكي، لكنها تواجه جمهورًا ينظر إل ى لتنازل عن الأراضي كنوع من الخضوع لموسكو. على الصعيد الأمريكي، تتضارب التوقعات بين مستشاري “ترامب” حول أولويات السياسة الخارجية؛ إذ يدفع البعض نحو تسوية لا تتيح لموسكو مكتسبات كبيرة، بينما يؤيد آخرون تسريع إنهاء النزاع حتى مع تقديم تنازلات من قبل كييف.

في ظل رئاسة “ترامب” الثانية، تظل العلاقات الروسية-الأمريكية في وضع معقد، حيث تتراوح التوقعات بين إمكانيات التقارب أو التصعيد؛ فإلى جانب التوقعات السابق ذكرها باحتمالية تحسن العلاقات، قد تشهد العلاقات الروسية-الأمريكية تصعيدًا في حال اتخاذ “ترامب” قرارات غير متوقعة أو إذا لم يستطع تجاوز الضغوط السياسية الداخلية. وقد يؤدي ذلك إلى تطورات سلبية مثل تجدد العقوبات أو زيادة التوترات في مناطق مثل أوكرانيا أو بحر البلطيق. كما أن “ترامب” قد يواجه تحديات من حلفائه الأوروبيين، مما قد يعقد محاولاته لتحقيق تقارب مع روسيا.

على الصعيد الدولي، من المرجح أن تؤثر سياسة “ترامب” تجاه روسيا في التوازنات الجيوسياسية؛ فإذا تحققت آمال موسكو في سياسة أكثر تعاونًا، فقد يؤدي ذلك إلى تقارب روسي-أمريكي، ما قد يُحدِث تحولات في الصراعات الإقليمية ويعيد تشكيل التحالفات الدولية. لكن في حال حدوث أي تصعيد، فقد يترتب على ذلك تداعيات كبيرة على النظام الدولي، خاصة فيما يتعلق بحالة الاستقرار في أوروبا وآسيا، وكذلك على السياسات الأمنية العالمية.

في الختام، يعتمد مسار العلاقات الروسية-الأمريكية على مدى مرونة إدارة “ترامب” في التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية، بالإضافة إلى التطورات الجيوسياسية التي قد تطرأ في السنوات القادمة.

أحمد السيد

باحث ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى