مصر

تنامي التعاون… مستقبل العلاقات العسكرية بين برلين والقاهرة

اتخذت العسكرية المصرية منذ العقد الأول من القرن الحالي سياسة تعتمد على التنوع في مصادر التسليح، جنبًا إلى جنب مع توسيع قاعدة الصناعات الحربية بحيث تتمكن المصانع المصرية من تصنيع المنظومات العسكرية القتالية مثل العربات المدرعة وطائرات التدريب وغيرها. هذه السياسة -التي تطورت بشكل سريع منذ عام 2015- تضمنت التعاون في المجال التسليحي والعسكري مع دول مثل إيطاليا وألمانيا وفرنسا.

بشكل عام، شهد التعاون العسكري بين مصر وألمانيا، ثلاث حقب أساسية: الأولى كانت خلال فترة تقسيم ألمانيا وكان التعاون فيها بشكل أساسي مع ألمانيا الغربية، أما الحقبة الثانية فبدأت بشكل فعلي عام 2000 وصولًا إلى عام 2011، أما الحقبة الثالثة فبدأت عام 2014، وفيها تصاعد التعاون بين الجانبين إلى حدود غير مسبوقة، وهي مرحلة يتوقع أن تشهد محطات مستقبلية مهمة خلال الزيارة الجارية حاليًا للرئيس السيسي إلى برلين.

السمة الأساسية في المراحل الثلاث من العلاقات العسكرية بين الجانبين كانت تركيزها على جانبين أساسيين، الأول هو جانب التصنيع المشترك، والثاني يتعلق بالتسليح البحري. خلال المرحلة الأولى، اقتصر التعاون بين مصر وألمانيا في المجال العسكري على الجانب التسليحي والتصنيعي، فقد رغبت مصر أواخر سبعينيات القرن الماضي في البحث عن نموذج يمكن البناء عليه لتأسيس نقطة انطلاق لتصنيع ناقلات جند وعربات قتال مدرعة محلية الصنع أكثر تقدمًا من الأنواع التي كانت تنتجها مصر خلال حقبة الستينيات.

وقع الاختيار عام 1978 على ناقلة الجنود المدرعة ألمانية الصنع “TH-390″، لتكون بمثابة نقطة البدء في تطوير سلسلة عربات القتال وناقلات الجند المدرعة المصرية “فهد”، والتي بدأ مصنع “قادر” للصناعات المتطورة -أحد مصانع الهيئة العربية للتصنيع- في الإنتاج الكمي لها منتصف ثمانينيات القرن الماضي؛ بهدف استبدال ناقلات الجند المدرعة القديمة، بجانب الدخول -للمرة الأولى- إلى سوق التصدير العسكري، فقد صدّرت مصر هذا النوع من العربات إلى دول أخرى مثل السودان وسلطنة عمان والكويت والكونغو والجزائر.

خلال نفس الفترة، دشنت مصر تعاونًا مع ألمانيا على الجانب البحري، كان بمثابة أساس العلاقة العسكرية بين الجانبين على المستوى التسليحي حتى الآن، حين تلقت عشرات المحركات الخاصة بزوارق الهجوم السريع من الفئة “رمضان”، التي قامت البحرية المصرية ببنائها بالاشتراك مع بريطانيا خلال منتصف السبعينيات، لاستبدال زوارق الصواريخ سوفيتية الصنع من الفئة “كومار”. تلقت مصر أوائل الثمانينيات نحو 24 محركًا ألماني الصنع من نوع “إم تي يو – 538″، لتشغيل هذه الفئة من الزوارق، البالغ عددها ستة زوارق.  

تلقت مصر مطلع تسعينيات القرن الماضي، وبعد توحيد شطري ألمانيا، بعض المعدات والأسلحة الألمانية، على رأسها نحو ثلاثين عربة قتال مدرعة سوفيتية المنشأ من نوع “بي تي أر-40″، كانت مجهزة للعمل كمنصات للكشف عن التلوث الإشعاعي والكيماوي والبيولوجي، وخُصصت للعمل ضمن الوحدات المصرية المشاركة في عملية تحرير الكويت عام 1991.

دخل كلا البلدين في المرحلة الثانية من التعاون العسكري بينهما عام 2000 -بعد فترة من الجمود- وذلك عبر بوابة التصنيع المشترك، فبالإضافة إلى شراء مصر لكميات من الأسلحة الألمانية الخفيفة -خاصة البندقية الهجومية “إم بي-5”- اتفق كلا البلدين في ذلك العام على بدء مصر في تصنيع ناقلة الجند الألمانية المدولبة “Terrier LAU”، وذلك عبر رخصة تصنيع أتاحت للهيئة العربية للتصنيع إنتاج هذا النوع من العربات تحت اسم “قادر-120”. المجال الجوي كان أحد مجالات التعاون بين الجانبين خلال هذه الفترة، حيث اتفق الجانبان خلال نفس العام على تزويد مصر بنحو 74 طائرة تدريب خفيفة من نوع “جي-115”.

الجانب البحري من العلاقة بين الجانبين، شهد خلال هذه المرحلة دفعة كبيرة إلى الأمام، فتلقت مصر بين عامي 2002 و2003 ما مجموعه سبعة قطع بحرية ألمانية، تشمل خمسة زوارق صواريخ من الفئة “تايب-148 تايجر”، كانت تعمل سابقًا في الخدمة لدى البحرية الألمانية، وأُعيد تأهيلها وتحديثها ضمن عقد بلغت قيمته حينها 18 مليون دولار. يضاف إلى الزوارق الخمسة التي مازالت في الخدمة حتى الآن سفينة إمداد بالوقود من الفئة “لونيبرج”، وسفينة نقل ذخيرة من الفئة “ويستروالد”، تعملان حتى الآن ضمن الوحدات البحرية المصرية، تحت اسم “شلاتين” للأولى، و”حلايب” للثانية.

المرحلة الثالثة من العلاقة العسكرية بين الجانبين، والتي مازالت مستمرة حتى الآن، كانت الأهم والأكبر على مدار تاريخ العلاقة بينهما، حيث بدأت المؤسسة العسكرية المصرية عام 2013 -ضمن خطة التحديث والتطوير الكبرى لسلاح البحرية المصري- في التواصل مع برلين لشراء مجموعة من المحركات البحرية الألمانية، سواء للقطع البحرية الجديدة الداخلة إلى الخدمة، أو لتوفير قطع غيار للمحركات الموجودة بالفعل في الخدمة، فتلقت بين عامي 2013 و2015 عشرات المحركات من نوع “إم تي يو-595″، الخاصة بالكورفيتات الأمريكية الصنع “امباسادور”، بجانب صواريخ الدفاع الجوي الخاصة بهذا النوع من الكورفيتات، من نوع “أر أي إم-116″، ضمن صفقة بلغت قيمتها 25 مليون دولار.

انتقل التعاون العسكري بين الجانبين إلى مستوى متقدم للغاية بعد أن توصل الجانبان -بعد مفاوضات تمت بين عامي 2012 و2014- على تزويد مصر بأربعة غواصات عاملة بالديزل والكهرباء، من الفئة “209/1400″، وقد أتمت البحرية المصرية تسلم الغواصات الأربع، بعد بنائها بترسانة شركة “تيسين كروب” الواقعة بمدينة كيبل الألمانية خلال الفترة بين عامي 2016 و2021.

أهمية هذه الفئة من الغواصات تكمن في أنها مكّنت البحرية المصرية من امتلاك قدرات قتالية مهمة على مستوى “حروب الأعماق”، وشكلت دفعة كبيرة لسلاح الغواصات المصري، فبات لمصر قدرات مهمة على التعامل مع كافة التهديدات البحرية في نطاق البحر المتوسط والبحر الأحمر. وهذا لا يشمل فقط العمليات القتالية المباشرة، بل ايضًا عمليات المراقبة والاستطلاع، وعمليات القوات الخاصة؛ وذلك بفضل بصمتها الصوتية والمغناطيسية الشبحية، وامتلاكها أفضل التقنيات المتاحة للرصد والاستطلاع، خاصة أن مداها العملياتي يصل إلى 20 ألف كيلو متر.

تتسلح هذه الفئة من الغواصات بثمانية أنابيب إطلاق، تتيح إطلاق الطوربيدات من عيار 533 ملم، وصواريخ “هاربون” المُضادّة للسفن، وهذه الأخيرة تعد من القدرات النوعية التي لم تكن متوفرة في الغواصات المصرية العاملة في الخدمة -من الفئة “روميو” المعدلة- وبهذا باتت للبحرية المصرية إمكانيات تتيح لها تنفيذ هجمات بحرية مؤثرة على القطع البحرية الأخرى، عبر هذا النوع من الصواريخ الذي يبلغ مداه الأقصى 140 كم، ويمتلك رأس حربي يزن 221 كجم، ويتم توجيهه راداريًا وعبر القصور الذاتي والأقمار الصناعية، ما يمنح له القدرة على ضرب الأهداف الساحلية وليس فقط الأهداف السطحية.

تصاعد التعاون بين الجانبين على المستوى البحري بشكل أكبر في أغسطس 2019، بتوقيعهما على اتفاق تتزود بموجبه البحرية المصرية بأربع فرقاطات من الفئة “ميكو إيه-200″، تم بالفعل الانتهاء من بناء إحداها في أبريل من العام الماضي، في حين تم البدء في بناء الفرقاطتين الثانية والثالثة، علمًا بأن عمليات بناء الفرقاطة الرابعة سيتم بناؤها حسب هذا الاتفاق في مصر بالشراكة مع شركة ترسانة الإسكندرية البحرية. 

يمثل هذا النوع من الفرقاطات إضافة نوعية للبحرية المصرية، حيث تبلغ ازاحتها الكلية 3400 طن، ومداها الأقصى 11.1 ألف كم، وتتسلح بطائفة واسعة من الأسلحة والصواريخ، بما في ذلك ستة عشر خلية إطلاق للصواريخ المضادة للقطع البحرية، و32 خلية إطلاق عمودية لصواريخ الدفاع الجوي. جدير بالذكر أن البحرية المصرية قد تلقت بين عامي 2020 و2021 تسعة زوارق ألمانية الصنع للدورية الساحلية من الفئة “إف بي بي-40″، بجانب زورق واحد من الفئة “إف بى بي-60″، دخلت جميعها إلى الخدمة فعليًا في الوحدات البحرية المصرية، بموجب صفقة بلغت قيمتها 158 مليون دولار.

خلال السنوات الأخيرة، دخل التعاون العسكري بين برلين والقاهرة في اتجاهات جديدة لم يسبق أن انخرط فيها، على رأسها منظومات الدفاع الجوي، فقد اتفق الطرفان في سبتمبر 2018 على شراء مصر سبعة بطاريات من منظومة الدفاع الجوي الألمانية متوسطة المدى “Iris-T SLM” التي تنتجها شركة “ديل” الألمانية، المتخصصة في تصنيع الذخائر والصواريخ ونظم الدفاع الجوي. يتراوح مدى هذا النظام بين 35 و40 كيلو مترًا، ويستطيع إسقاط الأهداف الجوية على ارتفاعات تصل إلى 20 كيلو مترًا، ويمتاز بسهولة نقله برًا وجوًا وبحرًا، وقدرته العالية على مقاومة التشويش.

يضاف إلى ذلك اعتماد هذه المنظومة -التي تحتوي كل بطارية منها على 48 قاذفًا- على آلية الإطلاق العمودي، ما يتيح الاشتباك في كافة الزوايا مع جميع أنواع التهديدات الجوية، بما في ذلك المروحيات والمقاتلات والصواريخ الجوالة والقنابل الذكية والطائرات بدون طيار. 

تجمع صواريخ هذه المنظومة بين التوجيه الرادارى والتوجيه بالأشعة تحت الحمراء، وهو ما إن أضفنا له حقيقة أنها تعتمد على رادار ثلاثي الأبعاد ذي مصفوفة مسح إلكتروني متقدمة، يوفر مدى رصد يصل إلى 200 كلم، وقدرة على تتبع نحو 400 هدف جوي في نفس الوقت؛ نستطيع أن نفهم مدى اهمية مثل هذه المنظومات، وقدرة التهديف العالية التي تتمتع بها. جدير بالذكر أن القاهرة قد تلقت في الفترة بين عامي 2017 و2020، 330 صاروخًا للاشتباك الجوي القريب، من نوع “سايد وايندر”، من شركة “ديل” الألمانية، مخصصة للعمل على متن مقاتلات إف-16.

الصفقات النوعية التي أبرمها كلا الجانبين خلال السنوات الأخيرة جعلت مصر تتبوأ مكانة متقدمة ضمن أكبر الدول التي تستورد الأسلحة الألمانية، حيث حلت في المركز الثاني ضمن قائمة هذه الدول عام 2020، بصفقات بلغت قيمتها الإجمالية 800 مليون يورو، في حين حلت عام 2021 في المركز الأول، بصفقات بلغت قيمتها الإجمالية 4.33 مليار يورو، وهو ما يعكس متانة العلاقات العسكرية بين الجانبين، وثقة برلين في قدرة المؤسسة العسكرية المصرية على استيعاب القدرات المتقدمة للأسلحة الألمانية.

العلاقات العسكرية بين الجانبين شملت مجموعة من اللقاءات رفيعة المستوى، منها ثلاثة لقاءات في أغسطس 2020 ويوليو 2021 ويوليو 2022 جمعا الرئيس عبد الفتاح السيسي وبيتر لورسن مالك ورئيس مجلس إدارة شركة لورسن الألمانية العالمية في مجال صناعة السفن والفرقاطات والمدمرات، تم خلالهما مناقشة ملف نقل تكنولوجيا بناء السفن بالتعاون مع ترسانات القوات البحرية وشركات جهاز الصناعات البحرية، إلى جانب تدريب العمالة الفنية ورفع قدرات الكوادر المصرية في تلك المجالات. كذلك قام الفريق عبد المنعم التراس، رئيس الهيئة العربية للتصنيع، بزيارة إلى ألمانيا عام 2019، بحث خلالها إمكانيات تعميق وتكثيف التعاون بين مصر وألمانيا في القطاعات الصناعية كافة، بما في ذلك قطاع الصناعات العسكرية. وشهد شهر نوفمبر من نفس العام لقاءً جمع بين الرئيس المصري ووزيرة الدفاع الألمانية أنجريت كرامب كارينباور، خلال زيارة الرئيس إلى ألمانيا.

على مستوى المناورات العسكرية، شارك كلا البلدين في مناورات مشتركة خلال السنوات الماضية، منها مناورات “كليوباترا” البحرية التي تحتضنها مصر وشاركت البحرية الألمانية في نسختها التي أقيمت عام 2000، وتشارك ألمانيا بصفة منتظمة في مناورات “النجم الساطع” متعددة الجنسيات، التي تحتضنها مصر أيضًا.

مما سبق يتضح أن مستوى العلاقات العسكرية بين الجانبين في تصاعد مستمر وسريع الوتيرة، وهو ما يعد انعكاسًا للعلاقات السياسية والدبلوماسية النموذجية التي تجمع كلا البلدين، خاصة وأنهما يحتفلان الشهر الجاري بمرور سبعين عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما. 

تشير كافة التوقعات إلى أن الجانب العسكري من هذه العلاقات سوف يشهد تطورات أكبر خلال المدى المنظور، ليس فقط لأن مصر باتت تمتلك أنواع عدة من المنظومات العسكرية ألمانية الصنع، بل أيضًا لأن برلين تدخل حاليًا مرحلة جديدة على المستوى العسكري، تطمح فيها إلى تعزيز تعاونها مع كافة الدول في هذا المجال، خاصة الدول التي تمتلك مؤسسات عسكرية عريقة تستطيع استيعاب الأسلحة الألمانية، وتمتلك القدرات الفنية على المشاركة في تصنيعها، ومصر على رأس هذه الدول كما يشير واقع الحال.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى