
السودان: خارطة طريق وانسداد الأفق السياسي
أعلن رئيس المجلس السيادي السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان يوم 4 يوليو الجاري خارطة طريق تقضي بعدم مشاركة المؤسسة العسكرية السودانية في المفاوضات التي ترعاها الآلية الثلاثية (الاتحاد الأفريقي – بعثة الأمم المتحدة “يونيتامس” – منظمة الإيجاد) لحل الأزمة، خاصة بعد المظاهرات التي خرجت يوم 30 يونيو الماضي. إلا أن احتمالات نجاح هذه الخارطة في حلحلة الأزمة السياسية في البلاد يشوبها غموض، في ضوء رفض قوى الحرية والتغيير لها واعتبارها مناورة سياسية للالتفاف على المعارضة واقتسام السلطة، فما هي دلالات البيان الذي ألقاه البرهان، وسيناريوهات الحل؟
مشهد سوداني مشتعل
في أعقاب تجميد الحوار الوطني السوداني في 11 يونيو الماضي والذي أطلقته الآلية الثلاثية عقب رفض القوى المدنية مشاركة مجلس السيادة فيه بعد أن مارست الآلية ضغوطًا لإجراء حوار مباشر بين الفرقاء السودانيين، وعقد أول لقاء بين قوى الحرية والتغيير “المجلس المركزي” والمكون العسكري برعاية سعودية وأمريكية؛ لوضع آلية للحل، والدعوة إلى تشكيل لجنة مصغرة تؤسس لمرحلة انتقالية مدنية، تنهي إجراء 25 أكتوبر وإجراء تعديلات دستورية، وعودة الجيش لثكناته، وتكوين جيش موحد، وإنهاء المسار الحالي للآلية الثلاثية؛ ولكن دون جدوى بعد رفض المقترح من كتل المعارضة الرئيسة مثل قوى الحرية والتغيير وحزب الأمة، فانطلقت المعارضة لفرض رأيها على الوضع في الأرض.
ودعت لجان المقاومة وأحزاب سياسية منها حزب الأمة القومي السوداني إلى جانب تجمع المهنيين وغيرها من القوى المدنية إلى مظاهرات 30 يونيو، في مشهد مشتعل متفاقم بعد أن ألغى البرهان حالة الطوارئ للتشجيع على إجراء الحوار الوطني بالتزامن مع الذكرى الثالثة لخروج السودانيين في عام 2019 للاحتجاج على حادثة فض الاعتصام، بجانب ذكرى انقلاب الإخوان بقيادة البشير المعزول.
فخرج رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان في فرصة قد لا تتكرر ليعلن انسحاب الجيش من كافة مفاوضات الآلية الثلاثية، للتوصل لتشكيل القوى السياسية لحكومة انتقالية توافقية لإدارة شئون البلاد تمهيدًا لعقد الانتخابات في غضون عام، يعقبها حل مجلس السيادة الانتقالي الحالي، وتشكيل مجلس للقوات المسلحة وقوات الدعم السريع. ودعا البرهان القوى السياسية والثورية إلى الانخراط في حوار لإعادة المسار الديمقراطي، وأعفى الأعضاء الخمسة من المدنيين في المجلس بدعوى ضرورة التغيير وأبقى على قادة الحركات المسلحة، في خطوة تضع القوى العسكرية في البلاد أمام كافة القوى المدنية.
ورأت “الآلية الثلاثية” المسهّلة للحوار بين الفرقاء السودانيين أنه لا جدوى من الحوار بعد انسحاب المكون العسكري منه، إلا أنها أكدت على الانخراط مع أصحاب المصلحة لإيجاد حل للأزمة. فيما رهنت الولايات المتحدة ودول الترويكا والأمم المتحدة عودة المساعدات باستئناف الحوار لإيجاد حل يقود إلى التحول المدني ودعم طموحات الشعب السوداني.
فيما أعادت القوى الوطنية وخاصة لجان المقاومة والحزب الشيوعي وتجمع المهنيين المسار التفاوضي إلى “النقطة الصفرية” من خلال اتفاق القوى المدنية المنقسمة على نفسها على رفض خطاب البرهان، ورأته ما هو إلا “مناورة مكشوفة وتراجع تكتيكي”، ودعت الشعب السوداني إلى مواصلة التظاهر، مراهنة على الاحتجاجات في الشارع.
دلالات مواقف القوى المدنية والمكون العسكري
الرهان على الشارع: على الرغم من انقسام مواقف القوى المدنية، إلا أنها راهنت على قدرة الاعتصامات على الحصول على تنازلات أكثر من المكون العسكري والعودة للثكنات، في ظل الدعوة إلى توحيد الجيش تحت مدنية الدولة، وجعله منصبًا سياسيًا بإسقاط النظام الحالي، والذي سيضمن لهم تقديم قادة النظام الحالي للمحاكمات بتهم قتل المتظاهرين بحسب ما ترى القوى المدنية.
وبالرغم من الموقف الموحد الرافض للبيان، إلا أن الأطراف السودانية المدنية توصف بالمتحاربة أو المنقسمة على نفسها، مما يجعلها غير قادرة على بلورة موقف موحد بحسب أجندتهم المتغيرة، وهو ما ينعكس على تصريحات قوى الحرية والتغيير برفض البيان تخوفًا من الآلية الإعلامية للحزب الشيوعي بتخوينهم.
القوى المدنية بين مفترق الطرق: على الرغم مما عكسه خطاب البرهان من تقديم تنازلات وضعت القوى الوطنية أمام مفترق الطرق، وقدم عرضًا رأى البعض أنه لن يتكرر، إلا أن الحزب الشيوعي رفض البيان وعدّه شرعنة لما أسماه انقلاب 25 أكتوبر 2021، وأشار إلى أنه مجرد اتفاق بين قوى الحرية والتغيير في محاولة للتأكيد على سيناريو التخوين، وأنه اتفاق برعاية أمريكية للاستمرار في الاحتجاجات والوصول إلى الزحف لانتزاع ما أسموه “الحكم الديمقراطي المدني” والتوجه إلى العصيان المدني لإجبار السلطة الانقلابية -في إشارة إلى المكون العسكري- على التنحي، وهو ما فطنت إليه قوى التغيير وانعكس على موقفهم ودعوا أيضًا إلى استمرار الحراك السوداني.
دور جديد للمكون العسكري: جاء قرار البرهان نحو تشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة من الجيش والدعم السريع بعد تشكيل الحكومة التنفيذية وتولي مهام الأمن والدفاع؛ ليعكس مسارًا موازيًا لسيطرة قوى الجيش على الانقسامات داخل البلاد، وضمان الخروج الآمن، وعدم التعرض للعقوبات بتهم قتل المتظاهرين، خاصة بعد إدانة دول الترويكا للجيش بقتل 114 متظاهرًا خلال الاحتجاجات وعرقلة المسار السياسي، بجانب حماية الحدود المضطربة والحفاظ على مقاليد الحكم والتدخل في حال انفلات الوضع مرة أخرى.
ذلك فضلًا عن أنه يعطي رسالة للغرب مفادها عدم الطمع في السلطة وترك الأمر في يد القوى المدنية. إلا أن خطاب البرهان وضع القوى المدنية أمام تعثر الاتفاق الموحد للقوى المدنية ودعاوى الرغبة في الحل السياسي واستمرار الاضطرابات التي لن تؤدي إلا إلى المزيد من الأوضاع الاقتصادية المضطربة بالفعل.
مناورة عسكرية وانسداد الأفق السياسي: رأت القوى المدنية هذا التراجع قوة جديدة لتحركات 30 يونيو الحالي، فيما أدى ترك الخطوة في يد الأحزاب السياسية ذات الأجندة المختلفة إلى انسداد فكرة الحل السياسي. وجاءت قرارات البرهان لتعكس الوضع الداخلي المتأزم نتيجة الوضع الأمني المتفاقم واستمرار الاعتصامات، وترك الخيار في يد القوى المدنية؛ فبجانب الانقسامات فيما بينها هناك “مجموعة الميثاق الوطني” التي دعمت إجراءات 25 أكتوبر وبالتالي استمرار الخلافات بينهم، وهو ما يؤثر على سبل الحل السياسي والتوافقي بين فرقاء الوطن ويهدد الفترة الانتقالية.
سيناريو محتمل
تضعنا المواقف المختلفة أمام العودة إلى المربع صفر، والعودة إلى مربع “تقاسم السلطة” في ثوب جديد، وهو ما ترفضه القوى المدنية حتى في الجانب الأمني والدفاعي؛ رغبة في العودة إلى الشكل المدني الكامل تلبيةً لرغبات الشارع السوداني المدعوم بقوى الغرب والتي ربطت المساعدات بالحكم المدني. فيما قرأ البرهان المشهد الأمني والسياسي فالأول تفاقم والآخر انقسم.
وأكدت خطوات الإبقاء على ممثلي الحركات المسلحة في مجلس السيادة على تحالف المكون العسكري مع تلك الحركات تنفيذًا لاتفاقية جوبا للسلام 2020 وتكوين جيش وطني موحد، في ظل النزاعات الداخلية والحدودية. مع استمرار الدعم الغربي للحكومة المدنية.
وهو ما يضعنا أمام سيناريو التصعيد الثوري للوصول إلى اتفاق برعاية الآلية الثلاثية بين ممثلين جدد من المكون العسكري كوسيط سياسي والقوى المدنية، على أن تخرج ببيان جديد بعيدًا عما أسمته بالوصاية العسكرية على قرارات المرحلة الانتقالية، وتشكيل حكومة كفاءات دون ارتباط حزبي. وتشير التكهنات إلى خطوات صعود اللواء المتقاعد عبد الرحمن الصادق المهدي لمنصب رئيس مجلس السيادة، كخطوة استباقية لاستعادة دور حزب الأمة، وهو ما سيؤتي ثماره عند إجراء الانتخابات المزمع إجراؤها بنهاية الفترة الانتقالية. إلا أن الوضع في السودان بحاجة إلى دعم اقتصادي في ظل تعليق حزمة إعفاءات نادي باريس وتوقف المساعدات الدولية على الحكم المدني.
باحثة بالمرصد المصري