حركة “إصلاحية” أم “احتجاجية”؟.. هل يعيد حراك “بالتريس” ترتيب المشهد الليبي؟
يشكل الحراك المدني في ليبيا الذي انطلق مطلع يوليو الجاري نموذجًا استثنائيًا، فقد جسّد الحراك المسلح في ليبيا منذ العام 2011 نسخة الحراك الخاصة بالطبعة الليبية، ما يؤكد على أن ثمة منعطفًا جديدًا تشهده هذه الساحة يمكن أن يغير من طبيعة المعادلات التقليدية التي ترسخت في الحالة الليبية على مدار أكثر من عقد، لكن لا يزال من المبكر الحكم على مستقبله، وما إذا كان سيتحول إلى قوة سياسية ضاغطة أم سيبقى كحركة احتجاج محدودة التأثير في مشهد فوضوي.
ثمة حقيقية أولية أن الحراك الجماهيري في ليبيا هو انعكاس لحالة الإحباط التي يعانيها الشعب الليبي، وسط تراجع الخدمات، وتردى مستوى المعيشة، وعدم وجود أية آفاق للخروج من المرحلة الانتقالية وما يصاحبها من صراع محتدم على السلطة بين الفرقاء في ليبيا؛ من هنا جاءت الاحتجاجات الليبية مدفوعة بجملة من العوامل المتشابكة، بعضها يرتبط بأبعاد اجتماعية واقتصادية، والبعض الآخر يتصل بالمشهد السياسي وانسداد الأفق الذي يسيطر على المشهد، الأمر الذي يمكن تحديده فيما يلي:
أولًا) تفاقم الخسائر الاقتصادية، المتابع لمطالب الحراك في ليبيا يمكنه أن يستشعر تأثيرات الأوضاع الاقتصادية وما تبعها من إخفاق مؤسسات الدولة في تلبية احتياجات المواطن على إشعال فتيل الحراك، الأمر الذي يمكن تفسيره في ضوء الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد، والتي تعود في جزء منها إلى انعكاسات الصراع السياسي وما أفرزه من أزمات عديدة ارتدت آثارها بالسلب على المواطن، وأسهمت في غياب القدرة على تهيئة ظروف معيشية ملائمة.
ولعل أزمة القطاع النفطي وحالة القوة القاهرة وإغلاق عدد من الحقول النفطية أحد أبرز الهزات التي أصابت الاقتصاد الليبي مؤخرًا، في ظل الخسائر التي نجمت عن غياب التوافق بشأن توزيع عائدات النفط؛ إذ سجل القطاع خسائر تقدر بنحو 3.5 مليار دولار-وفقًا للمؤسسة الوطنية للنفط الليبية- بسبب الإغلاق المستمر منذ منتصف أبريل، وذلك على خلفية تراجعت صادرات النفط لنحو 400 ألف برميل يوميًا مقارنة بنحو 1.3 مليون برميل.
وهو الأمر الذي زاد من معاناة المواطن؛ إذ يعد النفط موردًا أساسيًا يمكنه أن يتسبب في إنعاش الاقتصاد الليبي كونه يمثل ما يزيد على 90% من عوائد التصدير في ليبيا، خاصة في ظل الفرص التي أفرزتها الحرب الروسية الأوكرانية أمام الدول المنتجة للنفط بسبب الارتفاع غير المسبوق في أسعار الطاقة بشكل عام، ومساعي الغرب إلى إيجاد بديل عن النفط والغاز الروسي. ومع ذلك فقد تسبب الصراع في ليبيا وعدم التوافق في إهدار فرصة استثمار قطاع النفط لتلك التحولات، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب والعوائد المالية.
ثانيًا) تراجع مستوى الخدمات، عبّرت مطالب الحراك عن حجم الغضب والاستياء إزاء تردي الأوضاع الاجتماعية بسبب غياب الخدمات، وارتفاع أسعار السلع الضرورية للمواطن كالخبز، علاوة على عدم قدرة مؤسسات الدولة على التعاطي الجاد مع التأثيرات التي أنتجتها الحرب الروسية الأوكرانية، خاصة فيما يتعلق بتوفير الحبوب في ظل عدم توافر مخزون استراتيجي.
يضاف إلى ذلك الانقطاع المستمر والمتواصل في الكهرباء، والذي يصل إلى أكثر من خمسة عشر ساعة يوميًا في بعض المناطق، ناهيك عن وجود مخططات لرفع الدعم عن الوقود. وعليه، كانت أزمة الكهرباء ضمن المحركات الأساسية للحراك، خاصة في ظل المعاناة المستمرة في القطاع؛ بسبب تقادم المعدات، والمشاكل المرتبطة بالصيانة، وقطع إمدادات الوقود عن محطات الكهرباء الرئيسة.
ثالثًا) دوامة المراحل الانتقالية: دعا المشاركون في الحراك إلى الإطاحة بكافة الرموز والأجسام السياسية المسيطرة على المشهد، وذلك في ظل غياب أية فرص لتجاوز المرحلة الانتقالية، واستشعار قوى الحراك أن النخب الحالية تسببت في إجهاض كافة المحاولات لاستكمال المسار السياسي؛ وفقًا للحسابات الضيقة لكل طرف، ورغبته في الإمساك بزمام الأمور، وعدم وجود نية لتقديم تنازلات يمكنها أن تؤسس لمرحلة من التوافق، وما رافق ذلك من تشكيك كل طرف في شرعية الطرف الأخر، فعلى سبيل المثال رغم أن خارطة الطريق كانت تقضي بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في ديسمبر 2021، وإنهاء المرحلة الانتقالية في يونيو الماضي، إلا أن حكومة الوحدة لم تتخل عن السلطة رغم انتهاء المدة الزمنية التي حددتها خارطة الطريق.
من هنا تتضح رغبة الحراك الشبابي في تجاوز فكرة تراكم القادة الانتقاليين، والحاجة إلى تدشين مرحلة جديدة يتم تأسيسها على التوافق، والذي يبدأ وفقًا لمطالب الحراك بالشروع في تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية تنهي حالة الجمود السياسي، وتتجاوز ادعاء كل جسم سياسي بحيازته الشرعية، ما قد يسهم في إعادة ترتيب المشهد ودفعه نحو بناء الدولة الوطنية بعيدًا عن صراع الإرادات والتناحر السياسي.
وقد يشير توقيت الحراك وانطلاقه في أعقاب فشل مفاوضات جنيف في خلق مساحة مشتركة بين مجلس النواب والدولة حول النقاط العالقة اللازمة لإقرار القاعدة الدستورية لأن منظميه –أي الحراك- كانوا يعولون على محطة جنيف في بناء الثقة والانتقال بالمشهد لمربع أكثر تقدمًا، إلا أن الاحباط المصاحب لتعثر إقرار القاعدة الدستورية قد وفر مبررًا منطقيًا لقوى الحراك لرفع سقف مطالبهم والانتقال بالمطالب الاجتماعية والحاجة إلى دعم احتياجات المواطن الأساسية إلى الدعوة إلى تجاوز الأجسام السياسية الحالية وإخراجها من المشهد؛ خشية الدخول في مرحلة من الفوضى إثر استمرار انسداد الأفق السياسي.
رابعًا) أثر التدخلات الخارجية على السيادة الوطنية: يبدو من المطالب المتعلقة بخروج القوات الأجنبية والمرتزقة أن هناك وعيًا لدى المشاركين في الاحتجاجات بشأن المخاطر الناجمة عن استمرار العناصر الأجنبية في البلاد، وهو ما يؤدي بشكل كبير إلى استمرار الأزمة السياسية؛ إذ إن الإخفاق السياسي يعود بصورة أساسية إلى استقواء أطراف الصراع في ليبيا بالقوات الاجنبية المنتشرة شرق البلاد وغربها. وعليه، ينظر المحتجون إلى مسألة إخراج ليبيا من قبضة الأجندات والتأثيرات الخارجية كمطلب أساسي للخروج الآمن من الأزمة؛ إذ إن تلك الظاهرة من شأنها أن تعرقل جهود المصالحة، وتؤجج الجمود السياسي، وتزيد مؤشرات عدم الاستقرار، فضلًا عن أنها تجعل التفاعلات الليبية مرهونة بمصالح القوى الخارجية.
من هنا، يمكننا فهم تلك المطالب في ضوء حاجة الحراك لبسط ليبيا نفوذها على كامل أراضيها بعيدًا عن الأجندات الخارجية التي تنقض على السيادة الليبية. ورغم ذلك، تظل تلك المعضلة من المشاكل الجوهرية التي قد يصعب تجاوزها بسهولة على الأقل في الوقت الراهن، في ظل قناعة الأطراف الخارجية بأهمية الانخراط في ليبيا لتأمين مصالحها، ولعل موافقة برلمان تركيا على تمديد بقاء قواتها العسكرية لمدة 18 شهرًا إضافية دليلًا واضحًا على مدى التعقيد والتشابك الذي تثيره تلك القضية.
فرص وتحديات
ينظر إلى حراك “بالتريس” في حدوده وشكله الحالي على أنه يمثل فرصة يمكن البناء عليها للخروج من المأزق الليبي المتكرر منذ إسقاط نظام القذافي، في ذات الوقت يُحاط الحراك بجملة من التحديات والمعضلات التي يمكن أن تطيح بكافة الآمال المعلقة عليه، وفي هذا الإطار يمكننا اختبار قوة الشارع والحراك في ضوء ما تتوافر لديه من فرص وتحديات.
فيُنظر إلى اتساع نطاق الحراك وتمدده لأغلب المدن الرئيسة شرق البلاد وغربها كأحد مواطن قوته، فقد شهدت ليبيا خلال الأيام الماضية مظاهرات في عدة مدن من بينها: طرابلس، ومصراتة، وسرت، وبني وليد، وطبرق، والبيضا، وبنغازي، وأجدابيا وغيرها، ما يشير إلى أن الحراك ليس مناطقيًا ولا جهويًا ولا يقتصر على منطقة دون غيرها، الأمر الذي من شأنه أن يكسب الحراك مزيدًا من الزخم، ويسهم في صبغه بالصبغة الجماهيرية التي تتجاوز المطالب المناطقية ليشمل مطالب عامة تتعلق بالدولة الليبية ككل.
رهانات الحراك:
يضاف إلى ذلك الرهان القائم على طبيعة وتشكيل الحراك والذي يقوده تيار “بالتريس” الذي ظهر على الساحة الليبية منذ عام 2011 كتجمع شبابي يعمل على تجاوز التصنيفات الجهوية أو المناطقية، وعليه فلدى الحراك جملة من الفرص تتمثل في الابتعاد عن الاستقطاب وعدم الإقصاء كأحد مبادئ الحركة، علاوة على أنها تمثل القوام الرئيس لليبيا؛ كون الشباب -دون الـــ 24 عامًا- يمثلون نحو 44 %من السكان، بجانب قدرتهم على التوظيف الفاعل لمواقع التوصل الاجتماعي والإنترنت في الإعلان عن المستهدف وحشد الطاقات الشبابية لدعم مطالب الحراك.
من هنا يأتي التعويل على الحراك، خاصة أن عددًا من التقارير يشير إل أن ذات الحركة كانت وراء الاحتجاجات التي شهدتها العاصمة الليبية أغسطس 2020 والتي تسببت بشكل أو بآخر في إنهاء مرحلة حكومة الوفاق الوطني بقيادة “فايز السراج” ودفع البلاد إلى مرحلة جديدة.
وعلى الرغم من أن الإطاحة بحكومة الوفاق في مجملها لم تؤدِ إلى نقل ليبيا إلى مربع الاستقرار، إلا أن البعض يعول على الحراك في إحداث نقلة نوعية جديدة في عمر الأزمة الليبية. فضلًا عن أن رهانات حراك “بالتريس” يبدو أنها تفتقد في جزء منها للنضج السياسي الكافي، خاصة أنها صاغت رهانها الأساسي على المجلس الرئاسي كمهندس وراعي لمطالب الحوار، ولم تضع في حسبانها غياب القدرة والفاعلية لدى المجلس، وعدم امتلاكه أدوات التأثير مقارنة ببافي الأجسام المسيطرة على المشهد السياسي.
واقعية المطالب:
من ناحية أخرى، يظهر عدد من الإشكاليات التي قد تحد من فاعلية الحراك، ولعل أبرزها غياب الواقعية عن بعض المطالب أو ارتفاع سقفها، خاصة ما يتعلق بالإطاحة بكافة الأجسام السياسية؛ فعلى الرغم من مشروعية المطلب وأهميته لكون النخبة السياسية الحالية جزءًا رئيسًا في الأزمة، إلا أن هناك صعوبة في تحقيق هذا المطلب الذي فشل فيه المجتمع الدولي طيلة الفترات الماضية، علاوة على وجود تباين لدى البعض بشأن تلك الأجسام، فيرى البعض ضرورة التركيز على الإطاحة بالاجسام التي فقدت شرعيتها والمتمثلة في حكومة “الدبيبة” مع الابقاء على حكومة الاستقرار بقيادة “فتحي باشاغا” لاستكمال المسار السياسي.
في ضوء ما سبق، يمكننا الإشارة إلى أن نجاح الحراك يتوقف على عدد من العوامل، لعل أبرزها استمرار المظاهرات وعدم التراجع؛ بهدف ممارسة مزيد من الضغط الذي قد ينتهي -على أقل تقدير- بإجبار الفرقاء الليبيين على التوافق حول القاعدة الدستورية، والدفع تجاه بناء الثقة، والدخول في مرحلة جديدة تبدأ بالتوافق على القاعدة الدستورية. هذا بجانب أن قدرة الحراك على عدم وقوعه في فخ الاستقطاب من الجهات المتصارعة وابتعاده عن عقد أية صفقات مع أي منها والحفاظ على استقلاليته قد تمثل نقطة قوة يجب أن يحافظ عليها منظمو الحراك في حال إذا ما أرادوا مواصلة الزخم الراهن.
وتبدو الحاجة إلى ذلك ملحة خاصة في ظل بعض التقديرات الرامية إلى وجود صلة بين الحراك وأنصار النظام السابق، علاوة على مساعي أطراف الأزمة إلى القفز على المطالب عبر إبداء نوع من المرونه والتجاوب مع تلك المطالب كما هو الحال بالنسبة لموقف “عبد الحميد الدبيبة”، ناهيك عن مبادرة “سيف القذافي” التي طرحت في أحد بنودها انسحاب كافة الشخصيات التي تثير الجدل من المشهد وإجراء الانتخابات بدونها، ما يشير إلى مساعي مختلف الأطراف لاستمالة الحراك ولو مؤقتًا لتسكين المشهد. وكذا لا يمكن تجاهل احتمالية أن تلجأ قوى إلى الانقضاض على الحراك والعمل على تأمينه لصالحها، وهو ما عبر عنه الجيش الليبي عبر تحذيره من “أن تنظيم الإخوان قد يسعى لركوب موجة التظاهرات وتحويرها”.
ويبدو أن إعلان تيار “بالتريس” تأجيل الاحتجاجات والتراجع عنها لحين أشعار آخر قد يكون الهدف منه تفويت الفرصة على القوى التي تسعى إلى الالتفاف على قوى الحراك. رغم ذلك، ترجع تقديرات أن تأجيل الحراك قد يكون ناجمًا عن صفقة ما تمت بين قادة الحراك وأحد أصحاب المصالح في ليبيا، ويرى طرف ثالث أن الحراك تعرض لضغوطات وترهيب من قبل البعض. وتظل المعادلة المرتبطة بإمكانية دخول الميليشيات المسلحة على خط المواجهة مع الحراك واحدة من السيناريوهات التي قد تخرج الحراك عن مساره السلمي، وتعزز من فرص الاقتتال وتغليب لغة السلاح والقوة، ما قد يقضي على عملية وقف إطلاق النار.
في الأخير، يصعب التنبؤ بمسار الأحداث على الرغم من أن الزخم المتصاعد للحراك قد فرض متغيرًا إضافيًا وجديدًا على المعادلة المتشابكة في ليبيا؛ فسواء تم التعاطي الجاد مع مطالب الحراك والاستجابة له، أو تجاهل تلك المطالب وخفوت الحراك مع الوقت، فالثابت في المشهد يشير إلى أن تيار “بالتريس” كممثل للشباب قد يكون جزءًا من التفاعلات في المشهد خلال الفترات القادمة، وأن فكرة تجاوزه كليًا لن تكون واردة، حتى لو لم يتم التجاوب مع مطالبه الحالية. وعلى أي حال، ستكشف التفاعلات القادمة عما إذا كان الحراك سيصبح نقطة تحول ومنعطف فارق في عمر الأزمة، أم سيظل في نطاق الحراك الاحتجاجي العابر؟
باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع



