
الغرب يعيد إنتاج أخطائه في مواجهة روسيا.. عندما رسمت موسكو خطوطها الحمراء في جورجيا 2008
كان آخر فصول الأزمة الأوكرانية هجوم إلكتروني –يُشار إلى احتمالية مسؤولية موسكو عنه- على وزارة الدفاع الأوكرانية التي صرحت بأنها تعرضت لهجمة “سيبرانية” غير مسبوقة، وأن هذه الهجمة ما زالت مستمرة حتى الآن. وهو ما يحيلنا إلى الأسلوب الذي وظفته موسكو في حربها في أوسيتيا الجنوبية خلال عام 2008 حين شن قراصنة روس هجمة على شبكة الإنترنت في جورجيا ردًا على اعتداء الأخيرة على قوات حفظ السلام الروسية التي كانت تدعم “أوسيتيا الجنوبية” والتي رغبت جورجيا في الاستيلاء عليها.
وما يستقطب الانتباه في الأزمة الأوكرانية الحالية ليس أن الإرهاصات الأولى بدأت بهجمة إلكترونية أيضًا، ولكن أن الغرب لا يزال يصر على إعادة اختراع العجلة في كل مرة تقترب فيها المواجهة مع الدب الروسي، ثم انتظار نتائج مختلفة. بجانب أنه للغرب -وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة الأمريكية- الدور الأكبر في الترويج للهجوم الروسي على أوكرانيا بطريقة تتجاوز الروس أنفسهم، فقد كان لهم الدور الأكبر في دفع جورجيا إلى براثن المواجهة مع روسيا قبل أن ترفع يدها تمامًا.
عندما تهورت تبليسي
إذا عدنا بعجلة الزمن إلى عام 2008 الذي شهد حرب أوسيتيا الجنوبية، فإن الجميع يتفق تقريبًا على أن من أطلق شرارة الحرب كان التهور الجورجي الذي صور لهم في وقتها أن بإمكانهم إخضاع “أوسيتيا الجنوبية” المدعومة من قبل روسيا بقوة السلاح- وأمعنت القوات الجورجية في التهور عندما أقدمت على استهداف قوات حفظ السلام الروسية المرابطة هناك؛ إذ لم تكن موسكو تحتاج إلى مبرر آخر لاقتحام الأراضي الجورجية، وقد وجدت تبليسي نفسها في مواجهة مفتوحة ومباشرة مع موسكو بعد أن أعلنت الولايات المتحدة دعمها الكامل لجورجيا، وذلك قبل أن يتبخر الدعم بالطبع عندما وقع الهجوم.
وفي هذا السياق، يمكننا الإشارة إلى أن المواجهة بين موسكو وتبليسي كانت من الإشارات التي مهدت لحقبة مختلفة من تعامل الغرب مع الطموحات الروسية، فقد بدت جورجيا في ذلك الوقت وكأنها دخلت الحرب بالوكالة عن الغرب أو الولايات المتحدة تحديدًا.
ولفهم منطق الصراع حول أوسيتيا الجنوبية من الناحية التاريخية نذكر أن أوسيتيا الجنوبية هي جزء من جورجيا، ولكنه إقليم يتمتع بالحكم الذاتي، في الوقت الذي تتبع فيه أوسيتيا الشمالية “روسيا”. ولكن تبليسي كانت ترى أن هذا التقسيم مضلل ويحقق مصالح الروس الذين تربطهم علاقات تاريخية مديدة وقوية مع أوسيتيا الجنوبية.
إذًا، كان هذا هو الحال قبل أفول نجم الاتحاد السوفيتي وانهياره تمامًا؛ إذ انقلبت أوسيتيا الجنوبية وقررت أنها تريد الانفصال تمامًا عن جورجيا، وهو التوقيت الذي قامت فيه روسيا بإرسال قوات حفظ سلام للمنطقة بهدف حفظ الأمن، ولكن استمرت الأوضاع في حالة كر وفر حتى وصول الرئيس ميخائيل سيكشفيلي “طفل أمريكا المدلل” إلى سدة الحكم في جورجيا خلال عام ،2006 وقد أعلن في وقتها عن رغبته الصريحة في ضم الأقاليم الانفصالية التابعة لجورجيا ومنها أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
ولكن ميخائيل سكشفيلي أمعن في التغريد بعيدًا عن السرب الروسي، واتجه بشكل غير مسبوق إلى توطيد علاقاته بالولايات المتحدة الأمريكية. بل أنه قام باستضافة قوات أمريكية على الأراضي الجورجية، ورفع في وقتها شعار مكافحة الإرهاب بمساعدة الأمريكيين.
وعلى الناحية الأخرى من النهر، كان الدب الروسي يراقب عن كثب “رغبة في ضم الأقاليم – تقارب مع الولايات المتحدة – استضافة قوات أمريكية – الإعلان عن الرغبة في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي بدعوة ملغومة من الغرب”؛ كانت كل هذه الأسباب مجتمعة كفيلة باستفزاز قرون الاستشعار لدى الروس الذين شعروا بالخطر وقرروا التصرف على طريقة المدرسة “الروسية”.
الدعوة الملغومة
لطالما كانت روسيا مستفزة من رغبة الأطلسي المحمومة في التوسع، وبشكل دقيق إذا ما كان التوسع باتجاه جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة، خصوصًا أن الغرب كان قد أخطأ مرة أخرى في نفس التوقيت عندما دعم استقلال كوسوفو عن صربيا- حيث بدا وكأن الولايات المتحدة والأوروبيين بالفعل لا يتقنون كيفية التعامل مع روسيا ومراعاة سقف الاستفزازات المسموح بها.
ولأن الاستفزازات كانت أضخم من أن تمر في 2008، سارعت روسيا إلى إرسال قوات غفيرة إلى جورجيا، وكانت على وشك الوصول إلى العاصمة تبليسي في حالة من السيطرة التامة على معظم الأراضي الجورجية.
وقد استهدفت روسيا من استعراض القوة الذي قامت قبل 14 عامًا كبح جماح الطموح الجورجي في الانضمام إلى الناتو؛ لما له من تداعيات خطيرة على موسكو، خصوصًا إذا ما عقدت أوكرانيا الأخرى العزم على الانضمام إلى الناتو. ولكن ما يمكن ملاحظته حتى الآن هو أن الأوكرانيين أصلًا لم يعوا الدرس الجورجي، ومضوا في سيناريو الاستفزاز.
روسيا المتناقضة وخلافاتها مع الغرب
لا تكترث موسكو كثيرًا بمواءمة مواقفها بحيث تبدو متسقة؛ ففي الوقت الذي أيدت فيه انفصال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن جورجيا وقفت في وجه أوسيتيا الشمالية والشيشان- وهذا التناقض يمكن فهمه في سياقه الصحيح وهو أن موسكو ترى أنها في غنى عن محاولة الظهور بمظهر الدولة البعيدة عن التناقض، فهي تتحرك بما يتماشى مع مصالحها دون اعتبار للإطار السياسي الذي تفسر فيه تحركاتها.
إلى درجة أن روسيا لا تكترث حتى بالجهد الذي بذلته بعد انهيار الاتحاد السوفيتي للحصول على علاقات متوازنة مع الغرب والانخراط في اقتصاد السوق ومما يستدل به على ذلك أنه في الوقت الذي لوح فيه بايدن علانية باستهداف خط نورد ستريم 2 بين موسكو وبرلين لم تقدم روسيا تنازلات وأصرت على موقفها فيما يتعلق بالمفاوضات المشروطة والتي تتعلق بعضوية أوكرانيا في حلف الناتو قبل كل شيء. بمعنى أخر فإن النفوذ الروسي يعني في كل الأحوال الصدام مع الناتو ومع الغرب. ورغم أن روسيا رسمت خطوطها الحمراء في جورجيا في عام 2008 فإن الغرب لا زال يستدعي نفس الحدث مرة أخرى.
حدود الدعم
استدعاء الحدث التاريخي القريب يطرح تساؤلًا منطقيًا حول حدود الدعم الذي يمكن أن تقدمه واشنطن لأوكرانيا لأن ما حدث في جورجيا يشير بقوة إلى الموقف السلبي من ناحية الغرب تجاه توفير الغطاء العسكري لتبليسي في ذلك الوقت وما نتج عن ذلك من احتلال روسي للأراضي الجورجية لايزال قائمًا حتى الآن علاوة على نجاح موسكو في ضم شبه جزيرة القرم في 2014.
فالتخاذل الأمريكي الفادح عن دعم طفلها المدلل ” ميخائيل ساكشقيلي” يلفت الأنظار إلى أن واشنطن ربما رأت في التوجه الروسي آنذاك مجرد تهديد ولذلك فهي تملأ الدنيا ضجيجًا اليوم حول أن الغزو الروسي مؤكد ووشيك – لترفع عن نفسها الحرج أو لأنها تريد مبررًا لاستهداف نورد ستريم 2 كما سبق ورفعت يدها منذ أيام قليلة عن دعم إيست- ميد وهو خط الغاز الذي كان من المفروض أن ينقل الغاز المسال من تل أبيب وصولًا لقبرص في تخل تام عن دعم الأوروبيين وتركهم تحت رحمة ورقة الغاز الروسية.
ولا شك هنا أن الولايات المتحدة كانت تدرك في 2008 أن دخولها على خط المواجهة المباشرة مع روسيا كان يعني اندلاع حرب عالمية ثالثة، وأنها اليوم أيضًا تبعد الدفة عن هذا السيناريو. وهو ما يبرر التخبط والإرباك الذي يشوب التصريحات الأمريكية، فضلًا عن الموقف الأوروبي؛ إذ يجد الأوروبيون أنفسهم الخاسر الأكبر لأنهم سيكونون ضحية مرة أخرى لسلاح الغاز الروسي الذي سيتم إشهاره بلا هوادة.
إجمالًا، لا ينبغي النظر إلى حرب أوسيتيا الجنوبية بوصفها حربًا وقتية أو عبثية لا طائل لها، فقد مهدت الخطوط التي رسمتها موسكو منذ ما يزيد على عقد من الزمان لخريطة المواجهة الحالية.. فمن ناحية ربما يتم استفزاز كييف لفعل عسكري تعاقب عليه مثلما قامت تبليسي بمهاجمة قوات حفظ السلام الروسية مبتلعة الطعم الروسي بسهولة، ومن ناحية أخرى يتم التعويل على الموقف الأمريكي والأوروبي في نشوب الحرب من عدمه على طريقة “وإن عدتم عدنا”, للإيجاز إذًا فإن السماوات مفتوحة وكل الحلول مطروحة بما فيها الحل الدبلوماسي.
باحث أول بالمرصد المصري