
المسار الانتقالي السوداني بين التحديات الداخلية ودوافع المواقف الدولية
تحول في المسار الانتقالي السوداني بدأ بقرارات رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر الماضي، أعقبها مواقف دولية متذبذبة، تجعلنا نقف أمام سبل التحرك الدولي في مسار الانتقال الديمقراطي السوداني وما يقابله من تحديات داخلية للتعرف على السيناريوهات المحتملة للوضع الداخلي السوداني.
تحديات داخلية وخلافية بين المكونين المدني والعسكري
- الوثيقة الدستورية 2019 واتفاق جوبا للسلام 2020:
أدى توقيع اتفاق جوبا للسلام أكتوبر 2020 إلى الخلاف حول تطبيق شروط الوثيقة الدستورية التي تم التوقيع عليها عقب خلافات بين المكون العسكري من جهة والمكون المدني المنقسم بالفعل من جهة أخرى في أغسطس 2019، والتي امتدت من ثلاث سنوات إلى أربع؛ فنشأ الخلاف حول موعد نقل رئاسة المجلس الرئاسي من العسكريين بقيادة عبد الفتاح البرهان إلى المدنيين برئاسة عبد الله حمدوك رئيس الوزراء المنتمي لتحالف قوى الحرية والتغيير بين نوفمبر 2021 أو يونيو 2022.
وهو الانتقال الذي كان مقررًا له الإتمام بعد نحو عامين وفقًا للوثيقة الدستورية والتي لم تستكمل تنفيذ بنودها كاستكمال إنشاء المجلس التشريعي عقب ستة أشهر من تاريخ التوقيع وغيره من المؤسسات كالمحكمة الدستورية، وهو الأمر الذي أضعف الوثيقة عقب هشاشة تنفيذ البنود وتبادل الاتهامات حول إلقاء الأطراف بالمسؤولية كل على الآخر، ومحاولة عرقلة التحول الديمقراطي للوصول بالبلاد إلى الانتخابات المقرر لها 2024.
إلا أن توقيع اتفاقية السلام والتي وقعت عليها الحركات المسلحة باستثناء حركتي عبد العزيز الحلو ومحمد نور، وقد أدت مناقشة الأول الانضمام إلى الاتفاقية في وقت لاحق بدعم من المكون العسكري إلى دعم موقف المكون العسكري الذي وعد بتكوين جيش وطني موحد يضم الحركات المسلحة، إلى جانب التمثيل الفعلي لهم في التشكيل الوزاري، والذي ظهر عليه الطابع الأيديولوجي الحزبي كبديل عن حكومة تكنوقراط تعتمد على الكفاءات، وهو ما كان سببًا في القرار الذي اتخذه عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالي مؤخرًا بحل الحكومة.
- ميثاق التوافق الوطني:
ارتفع الوزن النسبي للمكون العسكري عقب قيام حاكم دارفور منى أركو مناوي بقيادة التغيير وتوقيع ميثاق التوافق الوطني مع بعض القوى داخل تحالف القوى والتغيير، والانحياز للمكون العسكري لاستكمال العملية الانتقالية والوصول إلى عملية الانتقال الديمقراطي بالانتخابات. وهي القوى التي قادت مظاهرات 16 أكتوبر الماضي.
هذا إلى جانب انقسام تجمع المهنيين السودانيين صاحب شرارة الانطلاق في الحراك السوداني وعزل البشير بانحياز القوات المسلحة السودانية، مما دفع حمدوك لتنصيب نفسه بأنه حلقة الاتصال بين المدنيين والعسكريين بتكوين لجنة سباعية للوصول إلى اتفاق موحد يضمن للحكومة حضورها في السلطة، واستعادة وحدة المكون المدني لإحداث نوع من التوازن النسبي.
إلا أن رد المجلس المركزي لتحالف الحرية والتغيير برفض محاور مقترحة للحوار السياسي، لاسيما فيما يرتبط بنطاقات توسيع المشاركة السياسية التي اشترط ألا تكون من النظام القديم، قد زاد من الخلافات. فضلًا عن أن تجمع المهنيين ينظر للوثيقة الدستورية ذاتها بأنها شراكة الدم وفقًا لأحداث فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة في 3 يونيو 2019، وما حدث من وقف لجان التحقيق فيها نتيجة اتهام المدنيين لقوات الدعم السريع بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، في ظل نفي الأخير تورط قواته في أي أعمال عنف، ووصفه هذه الاتهامات بأنها محاولة لشيطنة قوات الدعم السريع.
- إلغاء مسار الشرق:
يرى مجلس نظارات البجا أن حكومة حمدوك حزبية لا تعبر عنهم، وبالتالي أيد تحرك المكون العسكري. وفي الوقت الذي تم فيه حشد جماهيري لدعم مسار سلام الشرق في منطقة شنبوب قرب مدينة كسلا، يقود زعيم نظارات البجا والمنحدر من قبيلة الهدندوة محمد الأمين ترك حملة معارضة مسار الشرق في اتفاق جوبا، بما تتضمنه من إلغاء لجنة إزالة التمكين وإنهاء سيطرة نظام الإخوان والتي سحب المكون العسكري حراسات القوات الأمنية المشتركة منها.
ويرجع ذلك إلى انتماء ترك إلى حزب المؤتمر الوطني “حزب البشير الحاكم”، إلى جانب المطالبة بتكوين مجلس عسكري جديد ممثل للأقاليم السودانية الستة وتغيير حكومة حمدوك، وبالتالي تم استغلال الوضع الأمني الهش في الإقليم والانقسامات القبلية بين قبائل البجا وبني عامر والأحداث العنيفة التي وقعت بين مكوني بني عامر والنوبة الأهليين؛ في إشعال الاشتباكات في الإقليم.
وقد زاد العنف نتيجة تدفق الأسلحة، والاستمرار في إغلاق شرق السودان ذي المكانة الجيوستراتيجية حتى إلغاء مسار الشرق لقربه من مركز الحكم ومن الحدود الإريترية الإثيوبية المشتعلة، ووجود أكبر ميناء مطل على البحر الأحمر وهو “بورتسودان”، والسيطرة على 70% من الإمدادات الحيوية للسودان، وغلق ميناء البشاير الذي تسبب في أزمة لجنوب السودان التي تعتمد عليه لتصدير النفط. هذا إلى جانب حالة التهميش الاقتصادي والاجتماعي الذي يعاني منه شرق السودان.
وهي المؤشرات التي ألقت بالاتهام إلى وجود قوى خارجية تساهم في تعميق الأزمة نظرًا للأهمية الجيوسياسية للسودان بشكل عام والشرق السوداني على وجه الخصوص، وسط تخوف من الانفصال أو التحول إلى دارفور جديد. وقد استخدمت ذلك القوى الحاكمة في إلقاء اللوم على الطرف الآخر، فيما يدعم النزاع بعض القوى المحلية أو الخارجية في ظل الخلاف حول التمثيل المناسب للحركات الموقعة على الاتفاق وتمثيلها لأكبر قبائله من ناحية، ومدى تحقيقه للتنمية في الإقليم من ناحية أخرى.
جدير بالذكر أن دول الترويكا (الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج) قد وقعت على اتفاقية جوبا للسلام عام 2020، كداعم سياسي للاتفاقية، وتوجهت قبائل البجا بإلقاء اللوم على دول الترويكا بعدم معرفتها بمطالبها، والاعتماد على ما أسمته مصادر متحيزة، ورفضت القبائل تدخل هذه الدول التي طالبت بعد ذلك بدعم الانتقال السلمي للبلاد وفتح الشرق السوداني. وشبّه المجلس قضايا شرق السودان بقضايا النيل الأزرق وجنوب كردفان التي منحت حقوقها في الحكم الذاتي مما يجعل مطالب الشرق مقبولة.
- السياسة الأمنية والدفاعية ولجنة إزالة التمكين:
حاول المكون المدني الاستئثار بالسيطرة والرقابة على القوات المسلحة، والمطالبة بهيكلة الشركات التابعة للقوات المسلحة السودانية ونقل ملكيتها إلى وزارة المالية، في محاولة لتجريد المكون العسكري من صميم عمله وإمكانياته وصلاحياته، على الرغم من الاتفاق على إعادة الهيكلة بين المكونين، دون النظر إلى المشكلات الاقتصادية الأساسية المنوط به تحقيقها، وترك السياسات الخارجية كذلك للمكون العسكري وذلك بدعم من الولايات المتحدة والتي أصدرت قانون رفع العقوبات عن المساعدات العسكرية للسودان ولكن بشرط موافقة المكون المدني على المعونات المقدمة.
وهناك خلاف آخر حول تسليم جهازي الشرطة والاستخبارات العامة للسلطة التنفيذية؛ إذ يتمسك المكون المدني بتسليمهما بحسب ما نصت عليه الوثيقة الدستورية، بينما يرفض المكون العسكري تسليمهما إلا لرئيس منتخب لضمان عدم تقييدها مما سيؤدي لزيادة الانفلات الأمني وتغول الأجهزة الأمنية في الولايات والتي ضاعفت من التوتر، كما حدث في الشرق السوداني
وأسفرت هذه الخلافات عن محاولة انقلاب فاشلة في 21 سبتمبر، فيما حاول كل طرف استغلال الأمر لصالحه. وأدى الدعم الأمريكي للمكون المدني إلى محاولة السيطرة والاستئثار بالحكم، فكان الرد من المكون العسكري للفصائل المدنية المنقسمة بحل المجلس الانتقالي وفك لجنة إزالة التمكين التي استخدمت سلطاتها في اتهام أفراد من الجيش بقضايا فساد، في محاولة لتجريد القوات السودانية من قواتها، وهي الخطوة التي رد عليها المكون العسكري بأن “القوات المسلحة وصي أمين على أمن الشعب السوداني”، وسحب حراسات القوات الأمنية المشتركة من لجنة إزالة التمكين ونحو ٢٢ موقعًا اقتصاديًا كانت تحت ولاياتها.
- استمرار المظاهرات
استمر بعض أعضاء المكون المدني في الدعوة إلى العصيان المدني، وانطلقت مظاهرات مليونية 30 أكتوبر في أم درمان تحت شعار “الردة مستحيلة” وحاولت قطع الطرق؛ مطالبةً بعودة المسار الانتقالي ورفض إعلان الفريق عبد الفتاح البرهان حل المجلس والحكومة التي كان يقودها عبد الله حمدوك، وإعلان حالة الطوارئ في البلاد وتجميد العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية، وشن حملة اعتقالات لبعض الأحزاب التي تعمل على عرقلة أهداف البلاد، لضمان الوصول للانتقال الديمقراطي 2023.
- تشكيل الحكومة الجديدة
كانت الحاجة ملحة إلى تشكيل حكومة تضم الكفاءات دون تحزب وتضم ممثلين للولايات، للوصول بالبلاد إلى استكمال تشكيل المجلس التشريعية إلى الانتقال الديمقراطي عن طريق الانتخابات، وذلك في محاولة لاستعادة السيطرة على الوضع الداخلي المتأزم.
ولذلك نقلت تقارير إعلامية قيام الفريق عبد الفتاح البرهان بمشاورات مع رئيس الحكومة المعزول عبد الله حمدوك نفسه لتكوين حكومة كفاءات مدنية حال موافقته على التكليف من دون تدخل منهم في تحديد أسمائها وعناصرها، لقيادة إجراءات التصحيح، ولكن تدخل بعض الأطراف جعل حمدوك يتردد.
الموقف الدولي ودوافعه
- سحب السفراء وتعليق العضوية وتجميد المساعدات
في محاولة للضغط على المكون العسكري لاستعادة الوضع للمربع الأول، أعلن الاتحاد الأفريقي تعليق عضوية السودان والذي كان علق عضويته مسبقا في يونيو 2019 حتى إعلان تشكيل حكومة حمدوك، بينما جمّد البنك الدولي مساعداته، وأعلنت بعثة ألمانيا بالأمم المتحدة، تعليق التعاون التنموي مع السودان حتى إشعار آخر، وهدّد الاتحاد الأوروبي أيضًا بتعليق مساعداته وأصدرت بعثته في الخرطوم ومجموعة دول الترويكا بدعم من سفارة سويسرا بيانًا أوضحا فيه “التمسك بالاعتراف برئيس الوزراء وحكومته كقادة دستوريين للحكومة الانتقالية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين”.
وذلك ما أدى إلى إعلان البرهان عن وجود حمدوك في منزله والذي تم إعادته لمقر إقامته ولكن تحت الحراسة والإقامة الجبرية، فيما سمح لسفراء فرنسا وألمانيا والنرويج وبريطانيا والولايات المتحدة والمبعوثين الأوروبي والأممي إلى السودان بلقائه، هذا وقد أعفى البرهان 6 سفراء للسودان في كل من الولايات المتحدة وبروكسل (الاتحاد الأوروبي) وفرنسا وسويسرا والصين وقطر من مناصبهم؛ نتيجة إدانة ما أسموه بالانقلاب.
وسبق وأن رحبت وزيرة الخارجية المُقالة مريم المهدي برفض 30 سفيرًا تلك القرارات والانشقاق ودعم التحركات المدنية، ووصفتهم بأنهم مصدر فخر للسفراء، وأن قرار البرهان بالإطاحة بستة منهم من مناصبهم غير دستوري ويعد خروجًا على مبادئ الدبلوماسية العامة المتعارف عليها للدول بوصفهم ممثلي الدولة في الخارج.
- جلسة مجلس الأمن وموقف الأمم المتحدة:
في خطوة سريعة غير عادية انعقد مجلس الأمن في اليوم التالي لإعلان البرهان، لكنه لم يستطع التوصل إلى بيان موحد ثلاث مرات حول انفراد المكون العسكري بالسلطة وتسميته بالانقلاب، لينجح أخيرًا في اعتماد بيان موحد وصف فيه ما حدث بانه “استيلاء على السلطة” كمفهوم توصيفي وليس قانوني كمفهوم انقلاب، وذلك نتيجة لموقف روسيا والصين اللتين اعترضتا على الإدانة الحاسمة لما حدث كما جاء في البيان البريطاني.
رأت روسيا أن ما حدث جاء نتيجة منطقية لسياسة فاشلة، وشبه المحللون الأمر بأن القرار شبيه بالقرار رقم 1973 الصادر عن مجلس الأمن في 17 مارس 2011 والذي سمح للقوات الأجنبية بالتدخل في ليبيا؛ فيما دعا البيان إلى إعادة الحكومة الانتقالية بقيادة مدنية على أساس الوثيقة الدستورية وغيرها من الوثائق التأسيسية للمرحلة الانتقالية وأن السودان لم يتمتع بالحكم الديمقراطي منذ استقلاله عام 1956 إلا في فترات قصيرة.
وقال المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، إن مبعوث الأمم المتحدة للسودان الألماني فولكر بيرثيس التقى كلًا من البرهان وحمدوك، وطالب بالعودة إلى العملية الانتقالية بموجب الوثائق الدستورية والإفراج الفوري عن جميع الذين اعتقلوا تعسفيًا.
ورفض الأمين العام للأمم المتحدة ما حدث، وطالب بالعودة إلى المسار الديمقراطي والحوار. فيما قالت ميشيل باشيليت مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإميشيل باشيليت إن هذه الإجراءات وقطع الإنترنت مخالف للقانون الدولي، وقد يهدد اتفاق جوبا للسلام، مطالبة بالإفراج فورًا عن جميع المعتقلين واحترام حق التجمع السلمي، وحثت كافة اللاعبين على إطلاق حوار دون شروط مسبقة بغية ضمان التطبيق الكامل للوثيقة الدستورية واتفاقية السلام المبرمة في جوبا.
إسرائيل:
يظهر التخوف الإسرائيلي من تأثير هذا التحرك على عملية التطبيع مع السودان، وحاولت الصحف الإسرائيلية التطرق لإمكانية تعرض العلاقات الأمريكية السودانية إلى الخطر باعتبار قرارات البرهان جاءت عقب يوم من لقاء المبعوث الأميركي الخاص للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان بكلٍ من البرهان وحميدتي، ووصفته بأنه انحراف عن المسار الديمقراطي، مما سيهدد مستقبل المساعدات الأمريكية والتعاون الأمني وتخفيف الديون والدعم الأمريكي في المؤسسات المالية الدولية.
ويذكر أن عملية التطبيع مع اسرائيل كانت من نقاط التنافس بين المكونين المدني والعسكري؛ في محاولة الأول لكسب الداخل السوداني، بالإعلان بالرفض فيما لم يتم اتخاذ موقف مدني موحد، وظهر ذلك في تصريحات حمدوك التي لم تتخذ موقفًا مضادًا أو مؤيدًا إزاء لقاء البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، وكان اعتراضه أن اللقاء تم دون معرفتهم، فكان موقف المكون المدني منقسمًا داخليًا.
- الولايات المتحدة الأمريكية والموقف الداعم لحكومة مدنية:
جاء التحرك الأمريكي من منطلق التخوف من تراجع النفوذ الأمريكي في البلاد على وجه الخصوص وفي القارة الأفريقية ومنطقة القرن الأفريقي بشكل عام في ظل التنافس مع القوى الكبرى هناك. فحاولت واشنطن الضغط على المكون العسكري والذي يبدو أنه لم يكن كافيًا لأن قرار البرهان جاء بعد ساعات من لقاء فيلتمان.
وتمثلت الضغوط في إعلان الولايات المتحدة الثلاثاء الماضي تعليق جزء من مساعداتها للسودان، وقال بلينكن إن الولايات المتحدة “تدين بشدة استيلاء الجيش على السلطة في السودان”، مشيرًا إلى قلق واشنطن البالغ إزاء تقارير حول استخدام قوات الأمن السودانية الذخيرة الحية ضد المتظاهرين السلميين، مفيدًا أن واشنطن أمرت “على الفور” وفي وضوء التطورات الأخيرة “بإيقاف تسليم 700 مليون دولار من صناديق الدعم الاقتصادي الطارئة إلى السودان وكانت تهدف إلى دعم التحول الديمقراطي في البلاد”.
لكن رئيسة وكالة المعونة الأمريكية سامانثا باور قالت إن المعونة الإنسانية التي تقدمها بلادها للسودان لن تتوقف، هذا إلى جانب مراجعة اتفاق تخفيف الديون، مع منح السودان مليار دولار لدفع التنمية الاقتصادية، بعد شطب السودان من قائمتها للدول الراعية للإرهاب في نهاية العام 2020 وتعهدها بتقديم هذه المساعدات.
وهو ما يهدد المبادرة العالمية بدعم الولايات المتحدة التي دعمت تطبيع علاقات السودان مع المؤسسات المالية الدولية لمساعدته في الحصول على إعفاءات من ديونه. وأوضحت سامانثا باور أن الولايات المتحدة أسهمت بنحو 120 مليون دولار لتمويل شطب المتأخرات السودانية المستحقة لصندوق النقد الدولي، إلى جانب تهديد نية خفض صندوق النقد والبنك الدوليين 28 مليار دولار أميركي من الديون والمستحقات على الدولة من إجمالي الديون التي تصل إلى 58 مليار دولار، وذلك لما تتطلبه من تحركات إصلاحية من السلطات السودانية. وكان صندوق النقد الدولي قد أعلن عن شطب 1.4 مليار دولار من الديون المتأخرة على السودان، ومنحه تسهيلًا ائتمانيًا ممتدًا للسودان مدته 39 شهرًا بقيمة 2.47 مليار دولار.
وعلى الرغم من الإعلان الرسمي للولايات المتحدة عن رفض ما حدث في السودان، ودعوتها إلى السماح للحكومة الانتقالية التي يقودها المدنيون بمواصلة عملها المهم لتحقيق أهداف الثورة، والتي ظهرت في مطالب الرئيس الأمريكي جو بايدن عقب بيان مجلس الأمن بدعم الحكومة التي يقودها مدنين والتوجه باستخدام اللاعنف ضد المتظاهرين السلميين إلى جانب بيانات البيت الأبيض والخارجية الأمريكية، ورفضها ما أسمته بتحركات انقلابية وإرادة الجيش السوداني بأن يكون له اليد العليا في البلاد، إلا أن موقفها جاء داعمًا للحوار السياسي، وهو ما يفسر اتصال وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن مع البرهان، مرحبًا بعودة حمدوك لمنزله، وطالب بالإفراج عن جميع القادة المدنيين المعتقلين. وكذا، تحدث ممثل السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، مع البرهان وأكد له عدم التكتل للعودة إلى المسار الانتقالي المدني بوصفه الخيار الوحيدة للمضي قدمًا نحو تحقيق الاستقرار في السودان.
وسبق وأن مارس الجانب الأمريكي ضغوطًا لتقييد المكون العسكري لصالح المكون المدني، بإصدار الكونجرس قانون “الانتقال الديمقراطي في السودان والمساءلة والشفافية المالية” في ديسمبر ٢٠٢٠ بموافقة الحزبين الديمقراطي والجمهوري. وهو القانون الذي يهدف إلى تشديد الرقابة على قوى الأمن والاستخبارات السودانية، ويتضمن تقييمًا لإصلاحات القطاع الأمني في البلاد من قبل الحكومة السودانية؛ كتفكيك الميليشيات، وتعزيز السيطرة المدنية على القوات العسكرية، بدعوى دعم الانتقال الديمقراطي والدفع بحكومة بقيادة مدنية في السودان، من خلال إلزام وزارة الخارجية الأمريكية بتفصيل سياستها وإجراءاتها في هذا الاتجاه.
وعلى الرغم من اعتبار هذا القانون تدخل في السياسة الداخلية للسودان؛ إلا أنها توضح الاهتمام الأمريكي بالسودان وتبلور في إنشاء أكبر سفارة لواشنطن في الخرطوم، على اعتبار أنه غير ملزم ولكنه داعم لعملية لانتقال الديمقراطي والتشجيع على قيام تعددية حزبية ديمقراطية وانتقال سلس للحكم وتقوية مؤسسات الدولة وترسيخ السلام وحقوق الإنسان، مع ضرورة وجود شفافية مالية ومحاصرة الفساد، مقابل الدعم الأمريكي.
وبعد أن يصادق السودان على الخطوات اللازمة لتحسين الشفافية المالية، فإن وزارتي الخزانة والخارجية ستدفعان المؤسسات المالية الدولية إلى إعادة هيكلة أو تأجيل أو إلغاء ديون السودان، هذا إلى جانب إصدار الكونجرس قرارًا رسميًا برفع الحظر المفروض على السودان في مجال التعاون العسكري، مع منع أي مساعدات عسكرية أمريكية تقدم إلى السودان دون موافقة المكون المدني في الحكومة الانتقالية ولأغراض محددة، في محاولة لاسترجاع التعاون العسكري السوداني الذي وجد منفذًا بتوطين الصناعات الدفاعية مستعينًا بإيران والصين، والاعتماد على استيراد الصين بوصفها بديلًا رخيصًا للأسلحة الغربية مقابل استثمارات واستغلال الثروات الطبيعية بالسودان.
وجاء قرار الدعم العسكري في محاولة لتقوية الجانب المدني مقابل العسكري من ناحية التسليح والتدريب وتكوين قوات مسلحة تتبع رئيس الوزراء عبدالله حمدوك خاضعة لمفاهيم العسكرية الأمريكية، وهو ما يفسر الضغط من أجل مدنية الحكومة والجيش السوداني بالرغم من كونه سيساعد في عملية تطوير الجيش ودمج الجماعات المسلحة وتصفية الجيش من خلال لجنة إزالة التمكين، وبالتالي فجاء القرار للمكون العسكري متناسيًا الضغوط الأمريكية بشأن المساعدات، فقد توقفت القروض الأمريكية للسودان منذ عام 1988، ولم تُستأنف إلا المعونات الخاصة بمشروعات بناء السلام والتنمية الذي نشط بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) عام 2005، وهو ما يتوافق مع الشكل الحالي.
روسيا والوصول إلى القاعدة العسكرية:
يمكن إرجاع الموقف الروسي الرافض للتدخل في الشئون الداخلية للسودان، وعدم تسمية ما حدث بالانقلاب، في إطار منافسته مع الجانب الأمريكي وإنشاء قاعدة عسكرية في السودان، وهو ما لم يتحقق إلا بتحقيق الاستقرار مع مكون غير مدعوم من الولايات المتحدة واستكمال تشكيل المجلس التشريعية/ فقد توقف اتفاق الميناء الروسي في بورتسودان على الوصول إلى المجلس التشريعي لدراسة الأمر، وذلك حسبما أعلنت الحكومة السودانية، وبالتالي فالاتفاق العسكري السوداني الروسي يتوقف على استكمال العملية التشريعية باستكمال المؤسسات الرسمية والوصول لمسار الانتقال الديمقراطي.
بريطانيا واستعادة حلفائها القدام، وفرنسا ومؤتمر باريس:
تنظر بريطانيا إلى السودان بوصفه أحد مستعمراتها القديمة والتي تضمن عبورها عبر البحر الأحمر إلى ممتلكاتها في المحيط الهادي، وبالتالي تولى الجانب البريطاني إصدار بيان مجلس الأمن، وقالت الحكومة البريطانية إن “الانقلاب” في السودان “خيانة غير مقبولة للشعب السوداني وانتقاله الديمقراطي”.
وذلك موقف غربي يسهم في زيادة النفوذ الغربي الأمريكي مقابل التمدد الروسي، والذي يهدد المستعمرات السابقة لكلٍ من فرنسا وبريطانيا، من خلال التدخل العسكري في البلاد، والذي هدد المصالح الفرنسية في ليبيا والساحل والصحراء، كما دخلت مجموعة فاجنر شبه العسكرية في السودان لدعم البشير في ديسمبر 2018، وتجري عمليات بحث عن مواقع التعدين واليورانيوم وتدريب القوات المسلحة السودانية.
ومن هنا جاءت إدانة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عبر حسابه على تويتر، أن فرنسا تدين “بأشد العبارات” الانقلاب في السودان، وقال: “أعبر عن دعمي للحكومة الانتقالية السودانية وأدعو إلى الإفراج الفوري واحترام نزاهة رئيس الوزراء والقادة المدنيين”.
وكان الدعم الاقتصادي الفرنسي قد ظهر خلال مؤتمر دعم الانتقال الديمقراطي في السودان في 17 و 18 مايو 2021، والذي نجح من حيث المبدأ في الدعم الانتقالي للسودان حيث أعلن ماكرون “شطب كامل الديون المستحقة على السودان” والتي تبلغ “نحو خمسة مليارات دولار”، وتقديم باريس قرضًا للخرطوم بقيمة 1,5 مليار دولار لمساعدتها في تسديد متأخراتها من الديون لصندوق النقد الدولي. وبالتالي فإن الموقف الحالي قد يتأزم من خلال إمكانية تعليق تلك المساعدات للضغط على المكون العسكري في ظل التنافس الخارجي لأهداف جيوسياسية على السودان.
الأمن القومي لدول الجوار
جاء موقف دول الخليج قطر والسعودية والإمارات والبحرين إلى جانب مصر في محاولة لتهدئة الوضع وعدم التصعيد والوصول للمسار الديمقراطي، وتحدثت الخارجية المصرية مع وزير الخارجية الامريكية للتنسيق حول الموقف السوداني، وطالبت جامعة الدول العربية جميع الأطراف السودانية بالتقيد بالوثيقة الدستورية.
ويرجع ذلك إلى كون السودان محور الأمن القومي للدول العربية بوصفها الدولة المطلة على البحر الأحمر، إلى جانب الاستثمارات الزراعية، وهي الدول التي دعمت السودان خلال فترة العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة؟ ويعد السودان من دوائر اهتمام الامن القومي الأولى لمصر وتشاركها في القضية الاكثر أهمية للبلدين وهي أزمة سد النهضة، وبالتالي سيسهم الاستقرار في الوصول إلى حل للقضايا المشتركة والحفاظ على الأمن القومي لتلك الدول.
واتخذت إثيوبيا ما حدث منطلقًا للتلويح بشأن قضيتها، والعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة عليها نتيجة الاعتداءات الحقوقية في البلاد، وهو ما يختلف عن الوضع الحالي في السودان، فحذر آبي أحمد رئيس الوزراء من “تدخلات قوى الشر، التي تخطط من أجل فرض هيمنتها على منطقتنا والنيل من استقلالية قرارتنا المصيرية”.
انعكس الوضع في السودان على منطقة “آبيي” الجنوبية، والتي تم الدعوة للإحاطة بشأنها في مجلس الأمن حول إمكانية الانسحاب التدريجي واستراتيجية خروج قوة يونيسفا، بعد مرور عشر سنوات على نشرها، عقب إجراء مشاورات شخصية مع أصحاب المصلحة في السودان وجنوب السودان وإثيوبيا.
وعلى الرغم من العلاقات الجيدة بين السودان وجنوب السودان واللجان الوطنية حول المنطقة، ومطالبة السودان بخروج إثيوبيا من قوات حفظ السلام على خلفية الخلافات الحدودية بين البلدين، إلا أن بارفيه أونانغا-أنيانغا، المبعوث الخاص للأمين العام لمنطقة القرن الأفريقي رأى أن ما حدث في السودان قد يعكس التحولات الهشة التي تمر بها العديد من البلدان، وبالتالي جدد دعوة الأمين العام إلى استعادة النظام الدستوري في السودان بما يتفق مع تطلعات الشعب السوداني للحكم الديمقراطي، مما سيؤثر على عملية انسحاب قوة اليونيسفا في ظل الوضع المتشابك والخلاف مع ولاة الأقاليم.
ختامًا، تضعنا التحديات الداخلية والمواقف الدولية المتصارعة أمام فرضية أن المكون العسكري استطاع أن يعطي الغرب رسالة متفائلة في حال تنفيذ تلك الوعود للخارج والداخل أيضًا، مع ضرورة إقناعهم بأنها ليست محاولة للاستيلاء على السلطة. وهو الأمر صعب التنفيذ في ظل الرغبة الأمريكية في سيطرة المكون المدني المنقسم والذي لا يصل بالسودان إلى مرحلة الاستقرار، وخاصة عقب الحديث مع حمدوك لتشكيل الحكومة مرة أخرى والعودة للمربع الأول، مع تحديد الاختصاصات بشكل أوسع وتشكيل حكومة غير حزبية وتشكيل جيش موحد وطني يضم الحركات المسلحة يضمن عدم تحزب الجيش في حال السيطرة المدنية عليه.
ولكن يقف العائق أمام تنفيذ مسار الشرق في اتفاقية السلام والتي ستؤدي لاستمرار النزاع في شرق السودان، إلى جانب الضغوط الأمريكية في ظل التنافس الدولي ومحاولة إبراز دورها في القرن الأفريقي بعد فشلها في احتواء الأزمة كما الحال في إثيوبيا بفرض مزيد من العقوبات، وبالتالي بالرغم من فاعلية تلك العقوبات اقتصاديًا إلا أنها لم تؤتِ نتائج فعلية نتيجة وجود لاعبين دوليين آخرين.
مما يضعنا أمام عدة سيناريوهات وهي، التمسك بالوثيقة الدستورية والعودة للمكون المدني وهو أمر ضعيف نتيجة ما حققه المكون العسكري على الأرض من زيادة في الوزن النسبي، أو سيناريو تقاسم السلطة بتشكيل حكومة تكنوقراط واستكمال المجلس التشريعي وهو المسار الذي ستؤيده روسيا للوصول إلى اتفاق بشأن قاعدة عسكرية، وأخيرًا استمرار الوضع الحالي الذي سيزيد من الاضطرابات وهو ما يهدد المصالح الدولية والإقليمية، وبالتالي سيتم دعوة الفرقاء إلى الحوار، وستتم صياغة بنود لمرحلة انتقالية جديدة.
باحثة بالمرصد المصري