
“الربط الكهربائي مع قبرص واليونان”.. نموذج جديد للعلاقات الاقتصادية مع أوروبا
وقعت مصر في 14 و16 أكتوبر الجاري، مذكرتي تفاهم مع دولتي “اليونان” و “قبرص” لدراسة إنشاء “كابل” بحري للربط الكهربائي المباشر بين مصر وكلا البلدين.
وبينما وصف المشروع بـ”الاستراتيجي”، وفقا لتصريحات رسمية صادرة عن ممثلي الدول الثلاث، فانه يعد أول محاولة يجري تنفيذها للربط الكهربي بين قارتي أفريقيا وأوروبا، كما يعول على هذا المشروع أن يكون أحد دعائم أمن واستمرارية توفر الطاقة على الساحة الأوروبية.
ويساهم المشروع أيضا في تحقيق أحد مستهدفات التنمية الأوروبية في 2030والتي تسعى لرفع نسبة استهلاك الطاقة الكهربائية المنتجة من مصادر آمنة ومتجددة وصديقة للبيئة إلى 27% من إجمالي مزيج الطاقة المنتج بالاتحاد الأوروبي.
أزمات في إمدادات الطاقة التقليدية
أظهر تقرير إحصائي صادر عن الاتحاد الأوروبي في الأول من شهر أكتوبر الجاري، أن نسبة التضخم في أسعار الطاقة قفزت إلى مستوى 17.5%، وهو ما يزيد عن متوسط التضخم الأوروبي العام بمقادر 14% – انظر الشكل التالي رقم 1 – حيث سجل سعر ميجاوات/ساعة من الغاز الطبيعي 79 يورو في بداية هذا الشهر، بنسبة ارتفاع تفوق 250% عن أسعار شهر يناير من ذات العام 2021.

المصدر: إحصاءات الاتحاد الأوروبي
ويرجع سبب هذا التضخم إلى عدد من العوامل، والتي تأتي في مقدمتها انخفاض الامدادات الروسية من الغاز إلى دول أوروبا الغربية حيث تعتمد دول أوروبا المتقدمة على الغاز الروسي في سد احتياجاتها بنسبة تفوق 40%, لكن التدفقات الروسية الأتية من خلال شبكة أنابيب التوصيل السطحية كخط Yamal- Europe, والتي تعبر على عدد من دول أوروبا الشرقية مثل أوكرانيا وبلاروسيا وغيرها واجهت خلال السنوات الماضية انحسارا ملحوظا في كميات الغاز الواردة, فبين عامي 2018 و2020 ، تراجع إجمالي الغاز الواصل بمقدار 2.93 مليار متر مكعب – انظر الشكل التالي رقم 2 -.
من جانبها، تذرعت روسيا بان سبب تراجع واردات الغاز الطبيعي كان لعوامل متعددة خارجة عن الإرادة، مثل أزمة فيروس كورونا، وسرقة الغاز الروسي المار بالخطوط السطحية من قبل بعض الدول الأوروبية الشرقية التي يعبر على ارضها الخط.
لكن العديد من المحللين أرجعوا السبب وراء انخفاض كميات الغاز التي يتم ضخها لدول أوروبا الغربية، إلى رغبة روسيا في استغلال الغاز كأداة للضغط على القرار الأوروبي في عديد من القضايا السياسية والاقتصادية.

المصدر: إحصاءات شركة غاز بروم الروسية
في المقابل، لا تكفي كميات الغاز الطبيعي المنتجة داخل الاتحاد الأوروبي الا لسد ما يقل 30% من حاجة القارة، وأغلب هذا الإنتاج يأتي من دولة النرويج، أما باقي نسبة الإنتاج فيتم استيرادها من دول شمال أفريقيا مثل الجزائر، ليبيا ومصر، ليتم تحويل جزئ منها لاحقا إلى كهرباء مستخدمة في المنازل.
توجه أوروبي للاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة
أقرت دول الاتحاد الأوروبي نهاية 2019، ما سمي بـ “الصفقة الخضراء الأوروبية”، وهي خطة استراتيجية شاملة هدفها تقليص مشاركة الدول الأوروبية في وزن الانبعاثات والملوثات الكربونية والغازية التي تضر بالمناخ العالمي، والتي تؤدي بدورها إلى حدوث الاحتباس الحراري، وذلك عن طريق تنفيذ مجموعة من المبادرات الهادفة إلى تطوير قطاعات الطاقة والصناعة والزراعة وغيرها، لتتحول تلك القطاعات الاقتصادية بحلول 2050، إلى قطاعات صديقة للبيئة ومستدامة.
وتتوقع أوروبا أن تساهم تلك الصفقة في الحفاظ على رأس المال الطبيعي في القارة، وهو ما سينعكس على رفاه المواطنين الأوروبيين وسيحمي صحتهم من المخاطر المترتبة على تدهور حالة البيئة والمناخ، لكن لتنفيذ تلك الطموحات وضع الاتحاد مجموعة من الأهداف المرحلية، التي ستكون بمثابة المعايير لقياس تقدم المجهودات الأوروبية في ملف الاستدامة والحفاظ على السلامة البيئية أهم تلك المعايير هي خفض إجمالي الانبعاثات الأوروبية بنسبة 60% بحلول 2050.
كما وضع الاتحاد، معيارا آخر وهو المتعلق بتوفير الطاقة النظيفة المنتجة من مصادر آمنة، حيث لا يزال الاتحاد يعتمد على موارد الطاقة النمطية من فحم وبترول وغاز، وهو ما تسبب في إطلاق الملايين من أطنان غاز ثاني أوكسيد الكربون، كما يتوجس الاتحاد من استمرارية استخدام الطاقة النووية وذلك لما لها من أخطار طويلة المدى في حال وقوع الحوادث النووية، لذلك يتوجه الاتحاد للاعتماد على الطاقة المتجددة والمستدامة مثل إنتاج الكهرباء المنتجة من الشمس والرياح.
كما يتوجه الاتحاد إلى إحداث نقلة نوعية في شكل الطاقة المستخدمة في وسائل النقل داخل أوروبا، حيث تسعى الدول الأوروبية الآن إلى تخفيض الانبعاثات الناتجة عن وسائل النقل بنسبة 90% بحلول 2050، وذلك عن طريق تصنيع وسائل نقل تعتمد على أنواع وقود وطاقة عديمة التلويث او منخفضة الأثر الكربوني، كما تعتزم أوروبا تكوين شبكة متكاملة من البنية التحية الخادمة لهذا النوع من المركبات الحديثة، وذلك لتشجيع المواطنين والمؤسسات على المشاركة في هذا التحول البيئي المنتظر.
قدرة مصر على انتاج وتوريد الكهرباء النظيفة
سعت القيادة السياسية منذ وصولها لسدة الحكم إلى تقوية الحالة العامة لمنظومة الكهرباء في مصر، من خلال إنشاء محطات توليد جديدة وبالإضافة إلى تشييد العشرات من المحولات وتجديد وتوسعة شبكات التوصيل، الهدف الأساسي كان في وقتها هو حل مشكلة انقطاع الكهرباء المزمنة والتي عانت من وطأتها قبل 2014، والتي كان من أهم أسبابها تقادم أكثر من 30% من وحدات إنتاج الكهرباء.
وساعدت مجهودات الدولة على حل إمدادات الكهرباء على المستوى الداخلي، حيث قفز معدل الإنتاج المخصص لاستخدام الداخل إلى 45,000 ميجا وات، كما فتحت أيضا آفاقا أمام استخدام الفائض الكهربائي المقدر بـ 15,000 ميجا وات للتصدير الخارجي، ليصل إلى عدد من الأقاليم المجاورة في مقدمتها دول قارة أوروبا، والتي بدأت أخيرا في أن تشترط على أي مُورد للكهرباء بان يعتمد على طاقة نظيفة غير ملوثة للبيئة، مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية والكهرومائية.
واستطاعت مصر أن تلبي هذا الشرط من خلال مشروعاتها التي بنيت للاستثمار في الطاقة المتجددة، فبين عامي 2015 و2020، بنت الدولة 3 محطات لإنتاج الطاقة الشمسية في أسوان والجيزة، بالإضافة إلى محطتين لإنتاج طاقة الرياح في البحر الأحمر وطورت محطة أخرى قائمة منذ أكثر من عقد، وهو ما ساعد على انتاج ما يزيد على 2900 ميجا وات / ساعة من الكهرباء المنتجة.
وتسعى السلطات المصرية الان إلى استكمال خطواتها الرامية إلى توصيل الكهرباء المصرية إلى أوروبا من خلال تشييد كابل كهربائي بحري أسفل البحر المتوسط بطول 1650كم، ليمر هذا الخط بدولة قبرص وليصل بعدها إلى دولة اليونان – انظر الخريطة التالية رقم 3-, ومن المتوقع أن يتم ربط هذا الخط مستقبلاً مع الشبكة الأوروبية انطلاقا من اليونان ليخدم أغلب دول غرب أوروبا التي تسعى حاليا إلى تنويع مزيج الطاقة النظيفة المتوفر لديها، تبعا لأهداف الصفقة الخضراء الأوروبية.
شكل رقم 3: خريطة خط الربط الكهربي المزمع تشييده بين مصر وكل من قبرص واليونان

المصدر: Eurafrica-interconnector
ومن المتوقع أن يتمكن الخط المصري من توصيل 1000 ميجاوات من الكهرباء المنتجة في المرحلة الأولى من تشييده والتي ستصل إلى قبرص، ثم تتضاعف تلك الكمية لتصل إلى 2000 ميجا وات مع انتهاء المرحلة الثانية والتي سيتم تدشين أعمالها في اليونان أواخر 2023، كما من المقدر أن يتكلف المشروع أكثر من ملياري يورو ستدفعها أوروبا نظير تشييد الخط البحري والمرافق التابعة له.
ختاما
استطاعت مصر أن تحقق إنجازا تاريخيا حينما توافقت مع دولتي “قبرص” و”اليونان” على تشييد أول خط للربط الكهربي المباشر بين ساحلي البحر المتوسط الشمالي والجنوبي, لكن هذا الإنجاز سيتطلب تنفيذ مزيد من المجهودات في المستقبل، لتوصيل خطوط الكهرباء المصرية إلى أغلب دول غرب أوروبا، خاصة وأن الجانب الأوروبي يسعى الآن إلى تنويع مصادر الطاقة الواردة إليه وهذا ما سيدفع عددا من الدول الإقليمية إلى محاولة أخذ حصة من سوق الطاقة الأوروبية لكن مصر بقدراتها قادرة على تلافي هذا التحدي لتصبح القاهرة في القريب واحدة من أهم مصدري الطاقة الكهربائية إلى دول غرب أوروبا.
باحث ببرنامج السياسات العامة