
“الذهب الأبيض” يستعيد “عرشه” ويلمع من جديد
آن أوان عودة القطن المصري (الذهب الأبيض) إلى سابق عهده كما كان في الثمانينيات، وأن يسترد مكانته العظمى في قلب العالم. فقد كانت مصر أول مصدر للقطن لجميع الدول من المشرق إلى المغرب، قبل أن تنهار زراعته في التسعينيات، بعد انتهاج سياسة تحرير تجارة القطن. وها هو يعود من جديد لينافس وبقوة على المرتبة الأولى كما كن عهده.
تاريخ القطن المصري
من المعروف عن القطن في مصر أن زراعته بدأت في عصر محمد علي باشا الذي شهد ازدهارا في زراعة هذا المحصول المهم عام 1805، ومساهمته في زيادة حجم تجارة مصر الخارجية ثم إنشاء أول بورصة للأقطان تحمل اسمه، مرورا بفترات انتكاسته في عهد الاحتلال الإنجليزي واستغلاله كخام لتشغيل مصانع بريطانيا.
ثم إحياء “صناعة” الغزل والنسيج من قبل “طلعت حرب” وتأسيسه أولى قلاع الصناعة وهي شركة “غزل المحلة” وإعادة استغلالها للمحصول المصري من جديد، انتهاء بالفترة الحالية وما سبقها من سنوات أصبحت السمة السائدة بها صعوبة تسويق الأقطان المصرية للمغازل المحلية أو للأسواق التصديرية، وتراكم المحصول الذي اشتهر بـ”الذهب الأبيض” بمخازن “المحالج”.
أقام محمد علي باشا عديدا من الصناعات على “القطن” والتي من أهمها الصناعات التجهيزية وهي التي تتمثل في صناعة جميع الآلات الخاصة بالحلج والكبس الخاص بالقطن وفي مضارب الأرز وأيضاً المصانع الخاصة بتحضيره، وتم أيضا تجهيز النيلة للصباغة والمعاصر التي تخص الزيوت والمصانع الخاصة بتصنيع المواد الكيماوية.
وأيضاً الصناعات التحويلية وهي من الصناعات المهمة التي تتعلق بالغزل والنسيج بجميع أنواعه، كما أقام مصانع النسيج وكان أول مصنع حكومي في مصر هو مصنع “الخرنفش” للنسيج عام 1816.
وتم إنشاء مصنع “الجوخ” الذي جلب له العديد من الخبراء من بريطانيا ليتم تأسيس وإدارة هذه الصناعة الكبيرة داخل مصر، بالإضافة إلى تعليم جميع العاملين في هذا المصنع جميع الأسرار الخاصة بصنع القطن. وكان الهدف الأساسي من إنشاء مصنع الجوخ تصنيع الكسوة العسكرية الخاصة بالجيش المصري.
فوائد لا تنتهي
يتميز القطن المصري بأنه ذو ألياف قوية وتصل طول التيلة إلى حوالي 35 ملم، ولها سمرة خفيفة ويبحث عنه الكثير من الأشخاص لأن له الكثير من الفوائد وهي:
• يتم استعماله في نسج العديد من الملابس والثياب حيث أنه يعتبر من أهم النباتات الليفية في العالم بأكمله، وتتميز الثياب والمنسوجات التي يتم صنعها من القطن المصري بأنها تكون أكثر نعومة وملمس مميز على البشرة والجسم من غيرها.
• يتم استخراج زيت بذور القطن منه وله العديد من الفوائد وهي مثل قدرته الكبيرة على خفض الكوليسترول في الدم.
• يحتوي كمية كبيرة جداً من فيتامين E.
• يحتوي عديدا من المواد المضادة للأكسدة وفيتامين هـ وهذا حيث أنه يحمي تماماً من العديد من أنواع السرطان المتعددة.
• ثمنه قليل عن غيره من الأقطان الأخرى وذو جودة أعلى من الأقطان الأخرى.
• يتم تصدير أغلب محصول القطن المصري عالي الجودة إلى جميع أنحاء العالم.

المشكلات والتحديات
واجهت صناعة القطن، عديدا من المشاكل والتحديات حيث إنه يتم استبدال النوعية الخاصة بالقطن المصري “طويل التيلة” بالعديد من الأنواع الأخرى قليلة الجودة لزيادة الأرباح.
هذا بالإضافة إلى وجود ضعف في الإمكانيات الخاصة بتصنيع المنتجات من القطن المصري وحدوث الكثير من الخسائر التي تقف أمام شركات القطاع العام التي تقوم بصناعة جميع المنسوجات من القطن المصري، أيضاً توجد العديد من المشاكل التي تقف أمام القطن المصري عند زراعته، وتخص الدودة التي تدمر المحصول فتؤدي إلى حدوث خسارة كبيرة تؤدي إلى ضياع المحصول بشكل كامل وعدم الاستفادة منه.
وانهارت بسبب ذلك زراعة القطن واستسلمت مصر لمصيرها في التسعينات، وقل انتاج هذه الثروة الزراعية. فقد كانت إجمالي المساحة المزروعة من القطن في مصر في منتصف الثمانينيات تصل إلى مليوني فدان، تراجعت إلى أقل من 132 ألفا عام 2015.
بحيث أصبح القطن آخر قوائم الإنتاج الزراعي في مصر، ولم تعد صادرات مصر من القطن للأسواق الخارجية تتجاوز 150 مليون دولار.
ولعل الأزمة الحقيقية التي واجهت المزارعين ومحصولهم من القطن هي “التسويق”، وهو ما فشلت فيه الحكومات المتعاقبة منذ 20 عاما”، وجعلت القطن المصري يفقد عرشه لأن المحصول أصبح عبئاً على المزارع، لعدم قدرة الفلاح على تسويق محصوله بشكل صحيح، وعدم تحديد جهة مختصة باستلام المحصول، مما دفعه في النهاية إلى العزوف عن زراعته وتقليص المساحة، لأنه زراعة القطن ستكون مكلّفة بالنسبة له، وهذا تسبب في تراجع الجدوى المالية للمحصول.

محاولات مصرية لاستعادة عرش القطن
خلال العشرين عاماً الماضية، فقد “الذهب الأبيض” بريقه لأسباب عديدة، أرجعها بعض المعنيين إلى اعتبارات سياسية، بينما رفض آخرون صبغها بصبغة السياسة وأرجعوا الأمر برمته إلى عوامل طبيعية والفشل الإداري محليا. ومن منطلق البحث عن استعادة عرشها المفقود عالميا، تكثف الدولة المصرية جهودها لاسترجاع العصر الذهبي للقطن المصري ذي السمعة العالمية. وذلك عن طريق:
• قرار جمهوري وتوجيه رئاسي: إصرار القيادة السياسية المصرية على عودة القطن لعصره الذهبي تتجلى في الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي انتصر للفلاح المصري وسعى جاهداً كي يستعيد الكادحون من الفلاحين، بتوجيه الأوامر لرئيس حكومته الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، باتخاذ ما يلزم للنهوض واستعادة عرش القطن المصري. فالمحاولة الأولى أعلنها الرئيس السيسي بإصدار قرار جمهوري حمل رقم 14 لسنة 2015، بإنشاء مركز الزراعات التعاقدية.
وينظم قانون “الزراعة التعاقدية” عمليات بيع الإنتاج الزراعي والحيواني أو الداجني أو السمكي الذي يتم استنادا إلى عقد بيع المنتج بالتوريد طبقا للكميات والأصناف والجودة والسعر، وغيرها من الشروط التي يتضمنها العقد، ويتم تسجيل عقود الزراعة التعاقدية متى طلب أي من الطرفين.
• توصية بإنشاء حكومة متخصصة: بالتعاون مع مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، التابع لمجلس الوزراء، مع كافة الموضوعات المنشورة في وسائل الإعلام المصرية المختلفة التي تتعلق بالقطن، توصلت عمليات البحث والجمع والإحصاء إلى تقرير ضخم يضم مقترحات وتوصيات وملاحظات، ناقشها “مجلس الوزراء ” مع المسؤولين، تمهيداً لإحداث تطوير ملحوظ في ملف “القطن المصري”.
وأبرز التوصيات أكدت ضرورة تفعيل قانون الزراعات التعاقدية، حتى تنتهي أزمات التسويق للزراعات الاستراتيجية، وفي مقدمها القطن والذرة والأرز، وغيرها من الزراعات، مع تحديد جهات تسلُّم المحصول، وتحديد أسعار الشراء قبل زراعة المحصول، حتى تستقر نفوس الفلاحين، وحثهم على زراعة المحصول بنفس الحماس الذي كان موجودا من قبل، بالإضافة إلى تطبيق إصدار بطاقة الحيازة الإلكترونية.
• إنشاء وزارة مستقلة للقطن ومنتجاته: ابتداء من الحلج، والغزل، والملابس، والبذرة ومستخرجاتها، وذلك لأنه سلعة استراتيجية، ومنتج عالمي مطلوب.
• البنك المركزي المصري: رصدت الحكومة ما يزيد عن مائة مليار جنيه لدعم صناعة الغزل والنسيج التي توقفت عقودا طويلة، وأصبح لزامًا على الفلاح بعد تلك المبادرة أن ينهض ويعيد زراعة القطن إلى سابق عهدها.
• الحرص على زراعة القطن قصير التيلة: وذلك لتقليل الواردات من الخارج التي تصل إلى 6 مليارات جنيه.
• انشاء أكبر مصنع في الشرق الأوسط للغزل والنسيج في مدينة المحلة على مساحة 62.5 ألف فدان.
ولهذا فإن أفضل القرارات خلال الثلاثين عاما الأخيرة بشأن القطن المصري ما اتخذه السيسي لإعادة المحصول إلى مكانته الطبيعية، والهدف الحقيقي هو إنتاج الأصناف المتميزة طويلة وقصيرة التيلة فائقة النعومة، حتى ننافس عالميا بالجودة وليس بكم الإنتاج”.
ونستنتج أن استعادة عرش القطن المصري يعتمد على أضلاع ثلاثة، هم المنتج الذي يبحث عن الإنتاجية العالية، والتاجر الذي يبحث عن نسبة تصافي عالية، والوسيط والمصنع اللذين يبحثان عن جودة عالية، فنحن أمام تحدي لتحقيق هذه المعادلة ثلاثية الأبعاد.

ثمار التطوير
بالفعل لاقت ثمار التطوير نتاجها، فقد زادت عدد الدول المستوردة إلى 30 دولة، لتغزو صادرات القطن المصري مختلف دول العالم. فقد قفزت أسعار القطن في مصر إلى مستوى قياسي في عام 2021، تضاعف تقريبا مقارنة بالعام السابق ليكون هذا “أفضل موسم لإنتاج القطن بالنسبة للمزارع المصري”.
وتبلغ صادرات القطن المصري في السوق العالمي في الفترة من أكتوبر 2020 حتى سبتمبر 2021 ، 88452.58 طن، أي نحو 1.8 مليون قنطار قطن. بقيمة نحو 240 مليون دولار. مقارنةً بالموسم الماضي الذي بلغت صادراته 1.3 مليون قنطار.
وفي أول مزاد بالوجه البحري في محافظة الشرقية، بلغ سعر الفتح 2946 جنيهًا في المزايدة لكمية 3250 قنطار قطن (صنف جيزة 94)، حيث بلغ سعر الترسية 4630 جنيها للقنطار الواحد.
وفي الوجه القبلي، تم بيع 4294 قنطارا (صنف جيزة 95) في أحدث المزادات التي جرت بمحافظة الفيوم حيث بلغ سعر الترسية 3850 جنيها للقنطار لصالح شركة خاصة، كما فازت شركة خاصة أخرى بمزاد آخر في محافظة بني سويف لكمية 4398 قنطار قطن بسعر بلغت 3825 جنيها للقنطار الواحد، فيما بلغ سعر الفتح للمزادين 2611 جنيها.
وبلغت مساحة زراعة القطن في مصر عام 2021 ،236 ألف فدان (991.200877 متر مربع) مقابل 183 ألف فدان (768.600.680 متر مربع) في عام 2020، وسوف تزيد هذه المساحة خلال السنوات القادمة.
وقد نجحت مصر لأول مرة في إنتاج القطن الملون باللون الأخضر والبني المقاوم للبكتريا، والذي تتضاعف أسعاره عن أسعار القطن الأبيض وبنفس مواصفات القطن المصري الفريدة من نوعها، والتي تحتل المرتبة الأولي عالميا من حيث الجودة والمتانة والنعومة، كما نجحت في تجربة زراعة القطن قصير التيلة بإنتاجية 15 قنطارا للفدان.
وأن هناك نحو عشرين دولة وقعت حتى الآن عقودًا مع مصر لاستيراد القطن المصري، وعلى رأسهم الهند وباكستان وسويسرا وتركيا والولايات المتحدة والصين وبعض دول الاتحاد الأوروبي واليابان. كما تم فتح أسواق جديدة في إنجلترا وكندا وماليزيا والبرتغال.
وبموجب الاستراتيجية الجديدة للحكومة عام 2025، سيتم استخدام 60% من إنتاج القطن في الصناعات المحلية بدلاً من 20%، حيث كانت مصر تصدر 80% من القطن بشكل خام، الآن سيصدر القطن مصنعاً مما سيؤدي إلى زيادة سعره عالمياً.

اليوم العالمي للقطن المصري
تحت رعاية وزراء التجارة والصناعة وقطاع الأعمال العام ووزارة التضامن الاجتماعي، تم انطلاق فعاليات احتفالية جمعية “قطن مصر” باليوم العالمي للقطن المصري والذي يوافق ٧ من أكتوبر من كل عام بالتنسيق مع منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية–يونيدو، واللجنة الاستشارية الدولية للقطن والاتحاد العالمي لبحوث القطن.
وشارك في الاحتفالية وزير قطاع الأعمال العام المهندس هشام توفيق، بحضور رئيس جمعية قطن مصر المهندس وائل علما، والدكتور أحمد مصطفي رئيس الشركة القابضة للقطن والغزل والنسيج، والمهندس محمد الجارحي رئيس اتحاد مصدري الاقطان، والمهندس خالد شومان المدير التنفيذي لجمعية قطن مصر والعديد من الشركاء الدوليين والجهات الحكومية والقطاع الخاص المصري.
وأكدوا جميعاً على أن القطن المصري يشهد خطة تطوير وتحديث شاملة وعمليات إعادة هيكلة لمنظومة القطن بالكامل والتي من المتوقع أن تؤتي ثمارها وتحقق نتائج إيجابية بحلول ٢٠٢٢، وأن هناك جهوداً كبيرة من قبل جمعية قطن مصر في حماية وتتبع القطن المصري وإدارة وتسويق شعار قطن مصر عالمياً. وأن مصر تعود بقوة نحو استعادة مكانة القطن المصري الدولية من خلال خطة طموحة وضخمة لتعظيم سلسلة القيمة المضافة للقطن المصري، وسيتم إطلاق اسم تجاري «براند» لمنتجات القطن المصري سيتم الإعلان عنه في يناير القادم.
ولفتوا إلى وجود لجنة لإدارة شعار القطن المصري للحفاظ على القطن عالمياً من خلال جمعية قطن مصر، وأنه نتيجةً لهذا الشعار اطلع العالم كله على الرقابة الشديدة والصارمة لحماية القطن من الخلط والتلوث بجانب مشروعات لتحفيز قاعدة المستوردين والمصنعين لاستخدام القطن المصري في مصر والعالم.
ونتيجة لمشروعات حماية القطن المصري، أعلنوا أنه تضاعفت صادرات القطن المصري من ٣٠ ألف طن في ٢٠١٥ إلى ٨٨ ألف طن الموسم الماضي وذلك نتيجة لحمايته من الغش، حيث كانت السنوات الأخيرة نقطة فارقة في حياه قطن مصر من خلال عدة نظم للحماية ومنها استخدام تكنولوجيا DNA. الذي يتبع نظام الشفافية الكاملة للفحص الفني بنظام كودي يسمح بتتبع القطن بداية من الجمع وحتى المنتج النهائي.

القطن هو المحصول غير الغذائي الأكثر انتشارًا والأكثر ربحية في العالم، وعلى مدار القرن ونصف القرن الماضي، اكتسب القطن المصري سمعة عالمية لكونه من أعلى جودة نسالة مقارنة بمنتجات القطن الأخرى المزروعة في أماكن أخرى. واليوم، يلعب القطن دورًا رئيسيًا في المجتمع المصري من خلال توفير فرص العمل والسلع التجارية لدعم الاقتصاد، ليعود الذهب المصري عالمياً إلى الريادة مرة أخرى.
باحثة بالمرصد المصري