
تصدع وانشقاق.. حركة النهضة في تونس بين خيارات الانهيار وترتيب الصفوف
تواجه حركة النهضة في تونس تحديًا مفصليًا على وقع حالة التصدع والانقسام التي تعززت عقب قرارات الـ25 من يوليو 2021 وما تبعها من قرارات أقصت الحركة حتى الآن من المشهد السياسي التونسي، وأفقدتها المزيد من التأييد الشعبي الذي أخذ في التهاوي على مدار 10 سنوات من الفشل في إدارة شؤون الدولة وتلبية احتياجات التونسيين. وفي ظل هذه الحالة تأتي الانشقاقات الأخيرة والمتوالية في صفوف الحركة لتطرح تساؤلات حول مصير “النهضة” ومستقبلها السياسي.
ديكتاتورية القيادة
أعلن 113 قياديًا في حركة النهضة (25 سبتمبر) تقديم استقالتهم من الحزب، ومن بينهم عدد من قيادات الصف الأول للحركة، وأعضاء بمجلس نواب الشعب الذي جُمّدت اختصاصاته بموجب قرارات 25 يوليو، وكذلك أعضاء من المكتب التنفيذي ومجلس شورى حركة النهضة. وتأتي هذه الاستقالات لتعيد إلى الواجهة الانقسامات الحادة والتصدع الداخلي في صفوف الحركة والذي أخذ في الظهور إلى العلن منذ سنوات.
ويكمن السبب الرئيس وراء هذه الانشقاقات في تمسك رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي بزعامة الحركة، على الرغم من أن النظام الداخلي للحركة تنص على أنه لا يجوز تولي قيادة الحركة لأكثر من فترتين. وهو ما لاقى اعتراضًا كبيرًا داخل صفوف “النهضة” تجلى في أكثر من مظهر، منها توجيه 100 قيادي بالحركة عريضة إلى الغنوشي (16 سبتمبر 2020) يطالبونه فيها بالإعلان الصريح بعدم الترشح لرئاسة الحركة مجددا في المؤتمر القادم ووجوب احترام مقتضيات الفصل 31 من النظام الداخلي.
وفي سبيل ذلك أقدم الغنوشي والجناح الداعم له على تأجيل انعقاد المؤتمر العام الحادي عشر للحركة أكثر من مرة، آخرها (16 نوفمبر 2020) بسبب جائحة كورونا، وهو ما يمنح الغنوشي فترات إضافية في قيادة الحركة، مع اقتراح الداعمين له فكرة أن يكون الغنوشي زعيمًا تاريخيًا لحركة النهضة ورمزًا لها، وبالتالي يُستثنى من شرط الفصل 31.
وبدلًا من أن تؤدي قرارات 25 يوليو والعزلة التي باتت فيها حركة النهضة إلى اتجاه الغنوشي نحو تصحيح الأوضاع والسعي إلى تحقيق المصالحة الداخلية للتعاطي مع المرحلة الجديدة، زادت حالة الاستقطاب والانقسامات والصراعات، وهو ما أدى إلى موجات متوالية من الاستقالات، ومنها استقالة عضو مكتب شورى الحركة محمد النوري (31 يوليو) وإصدار 130 عضوًا بالحركة بيانًا تحت عنوان: “تصحيح المسار” يدعون فيه قيادة الحركة إلى تحمل المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع، وهو ما دفع الغنوشي إلى تأجيل اجتماع مجلس شورى الحركة، ثم عُقد الاجتماع (4 أغسطس) وشهد انسحابات للعديد من الأعضاء اعتراضًا على تبني الغنوشي وداعميه نفس المسار.
وقد عزا الأعضاء المستقيلون من الحركة (25 سبتمبر) الأسباب التي تقف وراء تقديمهم استقالاتهم إلى “إخفاقهم في معركة الإصلاح الداخلي للحزب، وإقرارهم بتحمل القيادة الحالية المسؤولية الكاملة فيما وصلت إليه الحركة من العزلة، وتحملها قدرا مهمًا من المسؤولية فيما انتهى إليه الوضع العام بالبلاد من ترد”. وهي الدوافع ذاتها التي كانت وراء استقالات سابقة، مثل استقالة كل من نائب رئيس الحركة عبد الحميد الجلاصي (مارس 2020) ونائب رئيس الحركة وأحد قادتها المؤسسين ومرشحها لانتخابات الرئاسة عبد الفتاح مورو (مايو 2020)، وقبلهما استقالة الأمين العام للحركة زياد الغذاري (نوفمبر 2019) وزبير الشهودي رئيس مكتب رئيس الحركة (سبتمبر 2019).
عوامل محفزة
إلى جانب هذه العوامل الداخلية المتسببة في تصدع جبهة حركة النهضة، يوجد عدد من العوامل والأسباب الأخرى المؤثرة خارجيًا على الحركة، وتقف وراء هذه الانشقاقات المتوالية في صفوف “النهضة”، ومن هذه الأسباب:
- مسار 25 يوليو
واجهت حركة النهضة بعد قرارات الرئيس التونسي قيس سعيّد في 25 يوليو خطر الانهيار التام، بعدما حمّلها التونسيون مسؤولية إخفاقات العشر سنوات الماضية. وقد أخذ التصدع في الاتساع منذ هذه اللحظة بين قيادات الحركة وكواردها، فعلى مستوى القيادات حمّل بعض القيادات كما الشارع الحركة مسؤولية هذه الإخفاقات، ورفضوا أن يصفوا قرارات سعيّد بـ”الانقلاب”. فوضعت قرارات 25 يوليو الحركة في مواجهة ذاتية بجانب مواجهتها لمؤسسة الرئاسة، مما أفقدها القدرة على التماسك الداخلي.
وتعزز ذلك مع فشل رهانات “النهضة” في التعويل على العامل الدولي في مواجهة قيس سعيّد، بعدما تعاطت القوى الدولية والإقليمية مع قرارات سعيّد باتزان، ولم تلجأ إلى التصعيد حسبما كانت تريد النهضة، وركزت في مباحثاتها مع الرئيس التونسي على ضرورة ضمان تحقيق الإصلاحات وتشكيل الحكومة واحترام حقوق الإنسان، وإنهاء الحالة الاستثنائية في أقرب الآجال. وتأتي قرارات الرئيس التونسي الأخيرة في 25 سبتمبر والتي يمكن وصفها بالإعلان الدستوري الذي اختار بموجبه نجلاء بودن لتشكيل حكومة جديدة لتعزز من تأكيد سعيّد على أنه ماضٍ في المسار الذي بدأه في 25 يوليو لتصحيح الأوضاع، ومن ثم تخسر حركة النهضة المزيد من النقاط في هذه المواجهة.
- العزلة الشعبية
أخذ منحى التأييد الشعبي لحركة النهضة في التراجع تدريجيًا خلال السنوات الأخيرة، بعدما وصل أوجه بعد ثورة 2011، مما منح الحركة أغلبية برلمانية خلال السنوات العشر التالية، إلا أن هذه الأغلبية أخذت في التقلص مع كل انتخابات؛ فبينما صوّت نحو 1.5 مليون تونسي للحركة في انتخابات 2011، صوّت لها 560 ألفًا فقط في انتخابات 2019. حتى وصل الأمر إلى التراجع الحاد الذي عبّرت عنه مظاهرات 25 يوليو التي دفعت الرئيس التونسي إلى اتخاذ قراراته المفصلية. ويمثل هذا التراجع الحاد في شعبية الحركة أحد الأسباب الرئيسة التي تقف وراء موجات الانقسام والاستقالة التي تضرب الحركة خلال العامين الماضيين، وخاصة خلال الشهرين الأخيرين.
هذا فضلًا عن أن عزلة “النهضة” لم تكن على مستوى عموم التونسيين فحسب، وإنما فقدت الحركة جزءًا من قواعدها وحواضنها الشعبية، وهناك انشقاقات كبيرة في أوساط شباب الحركة الذين اشتركوا مع الرئيس التونسي وعموم التونسيين في تحميل قيادات الحركة مسؤولية الإخفاقات المتوالية سواء على صعيد الشأن العام التونسي أو حتى في الشأن الداخلي لـ”النهضة”.
- فشل المشروع
لا تنفصل التطورات الجارية داخل حركة النهضة وهذا التصدع عن المنظور الأعم لمشروع الإسلام السياسي في المنطقة والضربات المتلاحقة التي طالته منذ 2013. وقد كان لقرارات 25 يوليو تأثيرات خارج الحدود التونسية طالت حركات الإسلام السياسي في شمال أفريقيا، وهو ما ظهرت نتائجه في الانتخابات التشريعية التي جرت في المغرب (8 سبتمبر) وأظهرت فشلًا مدويًا لحزب العدالة والتنمية المغربي (الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في المغرب) الذي حصل على 12 مقعدًا برلمانيًا فقط بعدما كان صاحب الأغلبية النيابية بـ125 مقعدًا بعد انتخابات عام 2016.
فألقت هذه التطورات بآثارها على حركة النهضة ويمكن أن تكون قد دفعت عددًا من أعضاء الحركة سواء على المستوى القيادي أو المستويات الأدنى إلى مراجعة حصيلة انخراطهم في هذا المشروع وما يمكن أن يحققوه أو يحققه لهم هذا الانخراط خلال مسيرتهم السياسية المستقبلية، لا سيّما وأن هذا المشروع قد أثبت سقوطه في تونس ثم المغرب أنه لا يمكنه النجاح مرة أخرى في أي من الدول التي شهدت تمكينه خلال السنوات الماضية، على الأقل في المدى المنظور.
مستقبل هش
بناء على المعطيات السابقة، حاول رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي القفز على هذا الواقع الصعب الذي تعيشه الحركة، واستغلال حالة التململ التي بدت لدى عدد من الأحزاب والحركات السياسية من ضبابية المشهد قبل اختيار نجلاء بودين لتشكيل الحكومة من أجل استعادة تماسك الحركة، وذلك بدعوته إلى انعقاد مجلس نواب الشعب، واعتباره أن المجلس في حالة انعقاد دائم، ودعوته للنواب إلى استئناف الجلسات. إلا أن تعاطي النواب مع هذه الدعوات لم يكن بالشكل الذي كان يأمله الغنوشي، وهو ما يضفي المزيد من العزلة على الغنوشي وحركته.
وبالنظر إلى توجه الرئيس التونسي في تغيير النظام السياسي لتونس وإدخال تعديلات دستورية، يمكن القول إن حضور حركة النهضة المستقبلي في أي استحقاق انتخابي سيتأثر بشدة على وقع هذه المتغيرات الجوهرية التي تحدث منذ 25 يوليو. أما على المستوى الداخلي للحركة، قد يلجأ الأعضاء المستقيلون من الحركة إلى تأسيس كيان سياسي جديد يحاول إعادة الاندماج بين الأوساط الشعبية وإعادة بناء الثقة مع عموم التونسيين، سواء بهدف التسويق الشخصي أو أن بهدف إعادة تسويق الحركة ككل، وهو الهدف الذي ستبذل من أجله قيادات الحركة الحاليين جهودًا كبيرة، قد تصل إلى تسريع انعقاد المؤتمر العام، واختيار بديل لرئيس الحركة راشد الغنوشي.
باحث أول بالمرصد المصري