
نسائم من ذكرى تلك الأيام
كان يراه طيلة أسبوع يرنو إلى سماء بحيرة التمساح، وذات مرة سأله عما يبحث، فأجابه: «إنها طيور النورس، إذا عادت فسوف نعود»!
غابت الشمس، ولم يظهر القمر، في أيام المحاق.
السماء اصطبغت بزرقة، لم تغمق بعد بسواد ليل.
سكون ران على المكان، إلا من أصوات حفيف أغصان تلهو بها رياح خريف، وقرقعة حبيبات ثمر وأوراق أشجار جافة، تحت وقع أقدام، في طريق خالية من مارة.
على جانبي الطريق تطل من الحوائط عبارات وعيد للعدو ورسوم بلون الحجر الأحمر لرئيسة وزراء العدو جولدا مائير ووزير الحرب موشيه ديان، تقفز كأشباح مذعورة تطاردها قدم عملاقة لجندي مصري تكاد تسحقها، كأنما الرسوم رؤيا صادقة تتنبأ بواقع آت بعد أسبوع واحد…!
يقطع السكون نبرات حانية، لصوت أب شاب، تغضن جبينه مبكرا بفعل أحزان سنوات ست تجرعها في بلد لم يفارقه طوال أيام النكسة والاستنزاف وأوقات الريبة بين اللا سلم واللا حرب، واترع قلبه بالمرارة وهو يرى بعض مبانيها ركاماً، وبعض زملائه شهداء، ويفارق جل أهلها مهجرين في مدن شتى بأرجاء الجمهورية.
يقول الأب مشيراً إلى الرسوم: سوف نحارب، وسوف نرجع يوماً، إن لم يكن على يدي أنا وجيلي، فعلى أيديكم، أو على أيدي أبنائكم.
يقمع الصغير ميله الى التندر على الرسوم وعبارات التوعد للعدو، إجلالا لشجن كان يغلف نبرات أبيه الحبيب.
كان يراه طيلة أسبوع جمعهما معا لأول مرة منذ ولد، يرنو إلى سماء بحيرة التمساح، وذات مرة سأله عما يبحث في سماء البحيرة، فأجابه: إنها طيور النورس التي هاجرت، إذا عادت فسوف نعود…!
وكان الأب يشير من بعيد نحو شاطئ قناة السويس المحظور الاقتراب منه، ويقول له: أتعرف ماهي أمنيتي؟!.. ثم يجيب: أن أرى في حياتي جسراً بين ضفتي القناة.
لم يستوعب الطفل بسنه الصغيرة مقصد أبيه بالضبط إلا بعدها بسبعة أيام فقط…!
أمتع أيام عاشها هذا الطفل في حياته التي انتصفت بها سنوات الخمسينيات من العمر، هي ذلك الأسبوع الذي قضاه مع والده بمدينتهما الإسماعيلية في نهاية سبتمبر عام 1973، زارها معه بموجب تصريح استخرج من مدينة التل الكبير التي احتضنت مقر محافظة الإسماعيلية منذ عدوان يونيو.
كانت الإسماعيلية هي الجنة الحزينة المحرم دخولها، كباقي مدن القناة منذ عدوان يونيو، فالعدو يقبع بمدافعه على مسافة 180 مترا فقط عند الشاطئ الشرقي للقناة.
يعود الأب بابنه إلى مدينة مهجر الأسرة، يتركه مع شقيقه الأصغر ويرجع إلى الإسماعيلية.
عصر السبت التالي يأتي صوت رصين من الراديو، يذيع بياناً عسكرياً بنبرات هادئة، ويدوي الحي الذي كان يؤوى مهجرين من أبناء مدن القناة، بهتاف: الله أكبر. كأنه أصداء لنفس هتاف ينطلق من حناجر مئات الآلاف من الجنود العابرين.
يسمع الصغير في البيان كلمات: عبور وقتال وعلم مصر يرتفع.
للحظة ينتابه الخوف على والده، ثم يتذكر حديثهما وهو يكاد يراه يجد الطيور تعود إلى سماء البحيرة، والجسر الذي كان يحلم به يمتد على القناة…!
يتقافز الطفل وجاره ثابت الفلسطيني قرينه في العمر.
هو يردد: هنرجع إسماعيلية، وجاره يردد: هنرجع غزة..!
ويلحظ والدته تخرج من الدولاب، لوحات «كانفاه» ظلت تشغلها بيديها، ثم تضعها داخل الأدراج فقد حرمتها على أن ترتفع فوق جدران، إلا هناك في بيتها بالإسماعيلية. ولأول مرة يعرف الطفل من أمه معنى دموع الفرح..!
في الليالي التالية.. يلتئم كل سكان الحي من أبناء القناة ومدينة المهجر، حول «ضمة» فرقة الصامدين للسمسمية، ينشدون معهم «أبويا وصاني ما أخلى جنس دخيل يخش أوطاني»، ويرددون: «بينا يالا بينا نحرر أراضينا.. وعضم أخواتنا.. نَلمّه.. نَلمّه نسنّه.. نسنّه.. ونعمل منه مدافع، وندافع ونجيب النصر هدية لمصر»!
تتوالى بيانات الانتصارات في المعارك على أرض سيناء.. ودونما اتفاق يذهب أبناء مصر فقراء وأغنياء، إلى البنوك ومكاتب البريد يتبرعون بجنيهات أو قروش هي كل ثروتهم للمجهود الحربي، ويقف الرجال في طوابير ممتدة أمام مكاتب التطوع، للانضمام إلى الشباب المقاتلين على الجبهة، وتزدحم المستشفيات بالمتبرعين بالدم، وبالفتيات المتطوعات للخدمة في التمريض.
تتساقط طائرات العدو بصواريخ دفاعاتنا الجوية، ومن حطام مقاتلات الفانتوم المعادية، تنتج الورش «دبل» و «أساور»، يقبل عليها العرسان والعرائس لشرائها بخمسة قروش أو عشرة قروش، يرتدونها في حفلات «الخطبة» و «عقد القران» بفخر وفرحة، بديلاً عن الشبكة، التي يقدمون قيمتها مساهمة في المجهود الحربي.
يتوقف القتال بعد تحقيق النصر، وتسكت المدافع، ترتفع الهامات، وتُسترد الكرامة، ترجع النوارس إلى سماء بحيرة التمساح وقناة السويس ويعود أبناء القناة بعد سبع سنوات من التهجير وتستأنف الملاحة بالقناة!
يعود الطفل وأسرته، وفى أول زيارة له إلى سيناء، عب المعدية رقم (٦)، يجمع حفنات من الرمال يضعها في قرطاس من الورق، للذكرى، وبين حين وآخر كان يعود إليه يمسكه بين أصابعه ويتذكر..
سنوات نعيق صفارات الإنذار تحذر من قدوم طائرات معادية.
سنوات الهرولة المذعورة، إلى المخابئ في بدرومات المباني، أوراق جلاد الكراسات والكشاكيل قاتمة الزرقة تغلف المصابيح وزجاج النوافذ لحجب الأضواء عن الغارات المعادية ومنعها من اكتشاف الأحياء المأهولة لتجنب القصف الجوي.
< < <
يعدو قطار الزمن يلتهم سنوات العمر سراعاً تحت عجلاته التي لا ترحم. يرحل الأب، لكن بعدما تحقق حلمه، وعاش كمراسل حربي لهذه الجريدة في حروب ٥٦ و٦٧ والاستنزاف وأكتوبر، أغلى أيامه وهو يتابع علم مصر يرتفع فوق العريش، وبعدها يرى رأى العين انسحاب إسرائيل من سيناء في رفح وشرم الشيخ.
يغدو الطفل شاباً، وصحفياً، محرراً عسكرياً، يستهل مشواره بمتابعة الاحتفال بخروج العدو من طابا، وبعدها بثلاثة أيام احتفال رفع علم مصر من آخر حبة رمل مصرية في تلك البقعة المقدسة في ١٩ مارس ١٩٨٩، ويحمل معه قطعة صخر من جبل علامة الحدود رقم (٩١)، يضعها في دولاب الذكريات مع قرطاس رمال سيناء…!
< < <
٤٨ عاماً مضت على نصر أكتوبر المجيد، صار الطفل كهلاً، لا يكاد يبين في رأسه شعيرات سوداء وسط غزو الشعر الأبيض، أحياناً تغيب عنه «تفاصيل» أحداث مضت عليها ساعات لكن ثمة وقائع مضى عليها عقود، ارتسمت في ذاكرته واحتفرت بأدق تفاصيلها، بكل مشاهدها، وألوانها، بشذاها العطر، ومذاقها الذي يشبه القرفة الساخنة التي تثير الانتباه في الحواس. على رأسها أيام الاستنزاف وأكتوبر، والتحرير، وثورة ٣٠ يونيو.
< < <
وسط مشاغل الحياة، يختلس الكهل أوقاتاً يحادث فيها صغاره الذين صاروا في سن الرجال. يتقمص روح والده الراحل حين كان يحادثه.
يروى لهم عن جيل فضل غموس الكرامة على لقمة العيش، وقف في طوابير الخبز والأرز وغيرهما من سلع لم تكن متوافرة إلا بالبطاقة التموينية، في عصر لم يعرف «الهايبر ماركت» أو «السوبر ماركت».
لم يكن ذلك الجيل يجد اسطوانات بوتاجاز، ولا غازاً لإنارة «الكولوبات» عند انقطاع التيار الكهربائي، وكان يحصل على «الجاز» بكوبونات تموين.
يروى لهم قصصاً قلما يتداولها الإعلام، عن شهداء يطلون علينا من عليين، كالفريق أول عبد المنعم رياض سيد شهداء الجيش، والعميد إبراهيم الرفاعي أكثر الرجال حملاً لأرفع أوسمة البطولة العسكرية الاستثنائية والخارقة، والعميد أحمد حمدي الذي فارق الحياة عند رأس كوبرى عبور الجيش الثالث، والمقدم محمد زرد الذي حمل أحشاءه بيده وقاتل بيد حتى أسر ٢٠ من جنود العدو قبل أن ينال الشهادة، والرائد طيار عاطف السادات شقيق الرئيس الراحل، الذي أبى أن يهبط بطائرته المصابة داخل خطوط العدو حتى لا يتم أسره وهو شقيق رئيس الجمهورية، والرائد طيار صبحى الشيخ الذي اندفع بطائرته بعد أن أصيبت، نحو دشم طائرات العدو في مطار رأس نصراني ودمر ٥ طائرات.. وغيرهم آلاف.
يروى لهم بطولة العقيد عادل يسري، الذي أطارت دانة دبابة معادية ساقه، فكتم دماءه بالرمال، وحمل ساقه بيديه يهتف لمصر، ودفنها في الرمال، ثم واصل القتال المظفر بساق واحدة.
< < <
صار قلب الكهل موجوعاً بفعل الأيام، لكنه مازال أخضر يورق بالأمل، حين يرى جيل أبنائه يوارى آثار خط بارليف بإنشاء قناة جديدة، ويشق بدل جسور عبور المقاتلين، أنفاق وجسور تعمير سيناء، وينشر العمران والخير والنماء في ريف مصر وحضرها وصحاريها ويعوض في سنوات معدودة، عقود الفرص الضائعة.
صار وجدان الكهل مفعماً بالثقة، في أن هذا الجيل لن يعاني جرح الكرامة الذي أدمى قلوب جيل أجداده، بفضل جيش قوى قادر على صون الأرض والكبرياء، وعلى أن يكرر انتصاره في أكتوبر الذي حققه مرة، في كل مرة، إذا لزم الأمر…!
لم يعد الكهل في حاجة لأن يورث أبناءه قرطاس رمال سيناء ولا حجر طابا، فسيناء كلها لن تكون أبداً عند أجيالنا المقبلة ذكرى…!
سن القلم
< باق من الزمن عامان، وتحل علينا الذكرى الخمسون لنصر أكتوبر المجيد.
حتى الآن لم تنتج السينما المصرية أفلاماً بل مجرد فيلم واحد، يرقى مستواه إلى هذه الحرب المجيدة.
أمامنا فرصة لإنتاج أكثر من فيلم عالمي وأكثر من مسلسل تخلده الشاشات. يمكننا الاستعانة بأكفأ مخرجي المعارك في السينما العالمية، ولدينا من قصص الحرب وإصدارات هيئة البحوث العسكرية وشهادات قادة الحرب، ما يتيح لكتاب السيناريو والحوار المتميزين إعداد تلك الأعمال السينمائية والدرامية المأمولة.
أما عن الممثلين، فهناك العشرات من النجوم الذين يمكن لهم أن يكتبوا تاريخاً جديداً من خلال أداء أدوار قادة الحرب.
أظن الوقت متاحاً لتشكيل لجنة من وزارة الثقافة وإدارة الشئون المعنوية والشركة المتحدة، لتنسيق الجهود من أجل هذه المهمة الوطنية.
فالأعمال الفنية هي سجل الأمم الحقيقي والأجيال المقبلة في التأريخ بالأداة الإبداعية، للمحطات الفاصلة في سجلها الوطني.
< على ذكر حرب أكتوبر.. أطلق الإخوان «هاشتاج» على تويتر يسيء للجيش المصري بمناسبة قرب حلول عيد النصر…!
الخيانة ليست غريبة على الإخوان المسلمين وكل ما يتفرع عن هذه الجماعة الكريهة.
ففي أعقاب عدوان ١٩٦٧، سجدوا شكراً لله على هزيمة بلادهم نكاية في عبد الناصر، حسبما سجلوا في كتبهم التي أصدروها في عهد السادات.
ثم كافأ تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية السادات على انتصاره في الحرب على الصهاينة، بأن قتلوه غدراً وغيلة في الذكرى الثامنة للنصر.
وعندما تولى مرسى رئاسة الجمهورية دعا قتلة السادات إلى حضور الاحتفال بذكرى نصر أكتوبر، ووضعهم في المنصة الرئيسية، بينما أبعد عنها أبطال الحرب وقادة القوات المسلحة..
يكره الإخوان الجيش لأنهم كانوا يظنون أنه سيسلمهم حكم مصر في أعقاب ثورة ١٩٥٢، ولأنهم توهموا أنه سيتغاضى عن فسادهم وفشلهم وطغيانهم، ولن يساند ثورة الشعب في ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
لا يكره الجيش في أي بلد إلا الخونة.
< تأتى أعياد أكتوبر هذا العام مع بلوغ الفريق عبد المنعم خليل قائد المنطقة المركزية ثم قائد الجيش الثاني الميداني أثناء العمليات، وهو أكبر قادة الحرب الأحياء، سن المائة عام.
أتمنى أن تتضمن احتفالاتنا هذا العام تكريماً خاصاً للفريق خليل مع كبار القادة الآخرين أطال الله أعمارهم، وأذكر منهم الفريق يوسف عفيفي قائد الفرقة ١٩ مشاة، والفريق عبد رب النبي حافظ قائد الفرقة ١٦ مشاة، والفريق عبد العزيز قابيل قائد الفرقة الرابعة المدرعة والفريق السيد حمدي رئيس عمليات الدفاع الجوي.
التكريم الذي أقصده ليس هو الأوسمة العسكرية، فهؤلاء القادة العظام يحملون أرفع وسام عسكري وهو نجمة الشرف.
لكنى أقصد احتفاءً إعلامياً لائقاً، ومبادرات من جانب المحافظين التي تقع بها مساقط رءوسهم بإطلاق أسمائهم على كبريات الميادين بعواصم المحافظات.