
منطقة.. داخل “غرفة الإفاقة”
للوهلة الأولى.. تلوح بشائر مطمئنة في جوار مصر الجغرافي، لكن النظرة المتأنية لا تستطيع تجاهل احتمالات تنبئ بمخاوف ومخاطر إزاء تطورات الأحداث كأنها في غرفة إفاقة بعد عملية جراحية كبرى، استأصلت فيها أورامًا وأجزاءً من أعضاء، ووضعت دعامات تزيل جلطات كانت تمنع تدفق الدم عبر الشرايين. هكذا تبدو منطقة الشرق الأوسط في نهاية عام ٢٠٢١، بعد عقد كامل من المعاناة مع أمراض عضال مميتة.
لكن غرفة الإفاقة ليست دائمًا جسر المريض إلى النقاهة والاستشفاء. أحيانًا ينتكس المريض، ويصاب بمضاعفات، ربما ليس بسبب الجراحة نفسها ومدى قدرة الجسد على احتمالها، إنما لأسباب أخرى، قد يكون منها تلوث الجروح، وما أكثر الملوثات في منطقتنا المنكوبة…!
كانت مصر أول من برئت وشفيت، ونهضت، وتعافت، وأخذت تعدو، تعوض زمنًا فات وفرصًا ضاعت، لكنها في سباقها الماراثوني، تتلفت شرقًا وغربًا وجنوبًا، فما يحدث من حولها من تقلبات في كل اتجاه يؤثر عليها غبارًا أو يهددها شررًا. وهي لا تقدر على تحمل فاتورة غض الطرف عما يدور، ولا تملك في نفس الوقت ترف إبطاء إيقاع حركتها في سباقها مع الزمن نحو البناء والتنمية.
حسابات البشر لما هو آت، سيما حين يقبل عام جديد يغلب عليها إما التفاؤل والاستبشار، أو التشاؤم والتطير. لكن تقديرات المواقف عند الدول ذات الشأن، لا تعرف التفاؤل والتشاؤم، ولا تبنى على تفكير بالتمني، أو على إسراف في سوداوية غير مبررة، بغرض ادعاء الحكمة بأثر رجعي. السيناريوهات عندها موضوعة سلفًا على أساس دقة معلومات وسداد تحليل وحسن استنتاج، ومن ثم قدرة على التنبؤ بمسار الأحداث وتفاعلاتها المحتملة.
للوهلة الأولى، تلوح بشائر مُطمئنة في جوار مصر الجغرافي المباشر وكذلك جوارها القريب، تدفع إلى الاعتقاد بأن الرياح تأتي على هوى السفينة المصرية. غير أن النظرة المتأنية المتفحصة لا تستطيع أن تتجاهل علامات لا يمكن إغفالها واحتمالات لا يجب استبعادها، تنبئ بمخاوف ومخاطر إزاء تطورات الأحداث في ذلك الجوار، تجعل الركون إلى الاطمئنان ليس من حسن التقدير.
في ليبيا.. سوف تجرى الانتخابات الرئاسية والتشريعية يوم ٢٤ ديسمبر الحالي أي بعد أقل من ٣ أسابيع، وسط توافق دولي وإجماع من القوى الكبرى ـعلى الأقل من ظاهر الأمورـ تجاه إتمامها في موعدها والسماح لكل الفرقاء الراغبين في الترشح لمنصب رئيس الجمهورية واسع الصلاحيات، وعدم استبعاد أي مرشح، وترك الخيار للشعب الليبي، ليتعافى هذا البلد الشقيق أخيرًا بعد سنوات من الاضطرابات والحروب الأهلية التي أسقطت الدولة الليبية.
غير أن الخيار الديمقراطي الليبي ليس سكينًا في زبد، بل تكتنفه مصاعب هائلة وعراقيل جمة، أولها عدم ضمان التدفق السلس للناخبين إلى اللجان، والاختيار الحر من بين المرشحين، في ظل وجود جماعات مسلحة أعلنت بالفعل أنها لن تسمح لمرشحين بعينهم بالفوز في الانتخابات الرئاسية.
ثم إن العدد الكبير للمرشحين، حتى بعد إصدار القائمة النهائية، مع وجود أكثر من شخصية مؤثرة ذات شعبية أو وزن قبائلي في التركيبة الليبية، سوف يؤدي حتمًا إلى إجراء انتخابات إعادة بين أعلى اثنين من المرشحين في عدد الأصوات، أي امتداد فترة الانتخابات أسابيع أخرى تالية، مما يفتح الأبواب لأعمال عنف واضطرابات، خاصة لو جاء طرفا جولة الإعادة على غير هوى الجماعات المسلحة المتأسلمة.
ولا يمكن القطع، حتى في حالة نجاح إجراء الانتخابات باختيار رئيس الجمهورية، بأن الأوضاع في البلاد لن تنزلق إلى مواجهات مسلحة في ظل حالة الاستقطاب السياسي والقبلي الحاد، على الساحة الليبية، وفي ضوء إدراك جماعة الإخوان وأتباعها في الغرب الليبي بأن هذه الانتخابات هي معركتهم الأخيرة، بعد ما جرى لهم في مصر والمغرب وتونس والسودان.
في السودان.. تسكن “رياح الهبوب” الغابرة، التي أثارت النقع في الأجواء السياسية، وأدت إلى قرارات ٢٥ أكتوبر الماضي، وبدأت السماء تصفو رويدًا رويدًا إثر الاتفاق السياسي الذي وقع بين الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة والدكتور عبدالله حمدوك رئيس الوزراء، والتزام طرفي الحكم بالوثيقة الدستورية، وعزمهما على المضي نحو إنهاء الفترة الانتقالية في موعدها بنهاية يوليو ٢٠٢٣، وإجراء الانتخابات لتسليم السلطة لمن يختاره الشعب، في بلد عاش منذ استقلاله يعاني من الانقلابات، بقدر ما عانى من فشل سلطات الحكم المدني المنتخبة..!
غير أن بلوغ مرفأ الانتقال الديمقراطي، لا يتعلق بالنوايا وحدها، وإنما تتهدده أخطار جسيمة، بعضها اقتصادي يتمثل في تردي الأحوال المعيشية للمواطنين، وتلكؤ المجتمع الدولي في تقديم مساعدات حقيقية للسودان تمكنه من الوفاء بمتطلبات الدولة والجماهير، وتحد من نزر خروج ثان يائس في ثورة على الثورة.
وبعض تلك الأخطار يتعلق بتنفيذ اتفاق السلام الشامل بالسودان وفق الجدول الزمني المنصوص عليه في اتفاق جوبا بين الحكومة والحركات المسلحة، والتغلب على مصاعب التنفيذ من حيث التمويل اللازم الذي يفوق قدرة أي حكومة في السودان على الوفاء به، سواء في الالتزامات الخاصة بالأقاليم أو بدمج الحركات المسلحة في الجيش السوداني.
وهناك خطر لاح في الفترة الأخيرة، متمثل في جماعة الإخوان وأتباعها التي تغلغلت في مفاصل الدولة السودانية خلال سنوات حكم البشير الثلاثين، وتبغي الجماعة تقويض أي جهود للوفاق بين المكونين العسكري والمدني في سلطة الحكم الانتقالي، والنفخ في أي شرر لإذكاء أي خلاف سياسي، وتحريض حركات “الثورة مستمرة” على استمرار الخروج من أجل زعزعة استقرار الحكم، لتعم الفوضى وهي المستنقع الذي يحسن الإخوان الخوض فيه والطفو على سطحه…!
لا تألو جماعة الإخوان في السودان وخارجه عبر أبواقها في وسائل التواصل الاجتماعي جهدًا في بث الأكاذيب ونشر الافتراءات عن نظام الحكم في مصر والإساءة إليه، للوقيعة بين الشعبين المصري والسوداني، لتغل مصر يدها عن تقديم العون للسودان الشقيق في مساعيه نحو الاستقرار والانتقال الديمقراطي والتنمية، ولعل ما يثير السخرية من الخطاب الإعلامي الإخواني هو تحذيرهم للشعب السوداني من أن يلحق السودان بـ”مصير” مصر، بينما يتمنى غالبية السودانيين أن يحيق ببلادهم بعض مما أصاب مصر من استقرار وتقدم ونهضة…!
في إثيوبيا.. تتفاعل مجريات الأحداث كرًا وفرًا، ومدًا وجزرًا، بين قوات الحكومة الإثيوبية وقوات التيجراي، في معارك طاحنة لا يبدو لها حسم قريب لأي طرف. ربما تذهب الظنون إلى أن انشغال الحكومة الإثيوبية بالحرب الأهلية المشتعلة، قد يبطئ من إيقاع أعمال بناء سد النهضة وإجراء الملء الجديد، أو قد يلين عناد آبي أحمد رئيس الوزراء ويدفع به إلى قبول توقيع الاتفاق القانوني الملزم مع مصر والسودان بشأن ملء وتشغيل السد.
لكن الواضح أن أعمال بناء السد مستمرة ولم تتأثر بالمعارك، ولم تظهر أي مؤشرات على مرونة في موقف آبي أحمد. بل ثمة اجتهادات ترى أنه سيظل على عناده، سواء تواصلت المعارك أو نجح في حسمها، لأنه يستخدم أزمة السد كقضية دعائية لجمع شتات الشعب الإثيوبي من حوله.
ثم.. بفرض هزيمة قوات آبي أحمد، والإطاحة به من السلطة، من قال بأن قوات التيجراي وحلفاءها أو خليفة آبي أحمد، سيحكمون العقل والمنطق، وسينتهجون موقفًا مغايرًا تجاه الاتفاق مع مصر والسودان؟! الأبعد من ذلك.. هل الذين يمسكون بخيوط آبي أحمد وغيره، والذين حرضوه على المراوغة بغرض كسب الوقت وعلى العناد في رفض توقيع أي اتفاق، سيروق لهم تهدئة الأجواء بين إثيوبيا أو شظاياها مع مصر والسودان ونزع فتيل رد فعل هائل متوقع إذا حدث الضرر؟!
ثمة إشارات خطر لا تدعو إطلاقًا إلى الاطمئنان، آتية من طريق صدام محتمل بين إسرائيل وإيران. لأول مرة.. يتحدثون في إسرائيل- رسميًا- عن استعدادات لضربة عسكرية محتملة لشل قدرة إيران على إنتاج أول سلاح ذرى، بعدما اقتربت كثيرًا- على حد التقديرات الإسرائيلية- من دخول النادي النووي.
لأول مرة.. تفصح إسرائيل عن عزمها شن هجوم منفرد ضد إيران دون مشاركة أمريكية، بعدما لجأت إدارة بايدن إلى إعادة التموضع الاستراتيجي لها دوليًا بدءًا من الانسحاب من أفغانستان وعدم رغبتها- أو قدرتها- على التدخل المباشر مجددًا في الشرق الأوسط على امتداده.
لأول مرة.. يسرب الجيش الإسرائيلي تقارير مصورة عن استعداداته للضربة وإجراءاته الوقائية ضد الردود الانتقامية المحتملة من جانب إيران ووكلائها. لكن هناك تقديرات لها وجاهتها تقول إن إسرائيل ليس بمقدورها تحمل فاتورة الانتقام من جانب قوة كإيران مسلحة بالصواريخ متوسطة المدى يمكنها ضرب مدنها، وليس في استطاعتها فتح أكثر من جبهة أخرى منها جنوب لبنان وربما غزة، إذا ضربت إيران.
تلك التقديرات ترى أن إسرائيل انتهجت في حروبها مبدأ المفاجأة الاستراتيجية، لذا يصعب الاقتناع بأنها تعلن عن تأهبها للهجوم، إذا كانت تعتزم فعلًا شن ضربة، لأن ذلك يفقدها مبدأ المفاجأة والمبادأة، ويجعل خصمها وهو إيران في هذه المرة، يزيد من استعداداته لتقليل أضرار الضربة، ويحدد مسبقًا مواقع الرد الانتقامي.
يذهب أصحاب هذه التقديرات إلى ترجيح أن هدف ذلك الإعلان الإسرائيلي هو التهديد، بغرض الضغط على كل من الغرب وإيران في آن واحد، للحيلولة دون توصل الجانبين في مفاوضات فيينا الجارية إلى اتفاق نووي لا يرضيها. أي أن إسرائيل-وفقًا لتلك التقديرات- لا تنوي الحرب فعلًا وإنما تمارس سياسة “حافة الهاوية”.
على أن هناك تقديرات مغايرة لا يمكن استبعادها، برغم أنها أقل ترجيحًا تري أن احتمال شن هجوم إسرائيلي على إيران يجب وضعه في الحسبان، لاسيما أن الخيار أمام إسرائيل هو بين خسارة يمكن احتمالها وهي تبعات الضربة، وخسارة لا يمكن احتمالها وهي امتلاك إيران سلاحًا ذريًا يغير موازين القوى ويضع إسرائيل تحت تهديد الرعب النووي.
يصعب تحكيم المنطق إزاء مسار الأمور في منطقة كالشرق الأوسط، حتى في قضايا وأمور وسيناريوهات تبدو عقلانية، لأن هذه المنطقة المضطربة بموقعها الاستراتيجي وثرواتها وصراعات القوى الدولية ووكلائها عليها، لم تملك أبدًا عصمة أمرها بيدها، وظلت مسرحًا للأطماع والعدوان والعصف بالشرعية الدولية.
على كل حال.. ربما يتبدد الضباب في عام ٢٠٢٢، ويتضح المشهد بتفاصيله في جوار مصر المباشر والقريب، ونعلم ما إذا كانت المنطقة ستبارح “غرفة الإفاقة”، بسلام مأمول، أم أنها ستنتكس. وتخضع مجددًا لجراحات النار والبارود…!