
روسيا في الساحل الأفريقي.. “دلالات ودوافع”
إنهم يقولون “بدلاً من منع الناس من القدوم إلى هذا الجزء من العالم، فإنهم يجذبونهم إلى هنا”، بهذه العبارة وصف مراسل وكالة أجنبية وجهة نظر السكان المحليين، عقب الهجوم الإرهابي الذي وقع على المنتجع الشاطئي “جراند بسام”، في مارس 2016، الواقع في “ساحل العاج” ردًا على الوجود العسكري الفرنسي في غرب أفريقيا، والذي أسفر عن مقتل 19 شخصًا من بينهم أربعة فرنسيين. وعلى الرغم من مرور العديد من السنوات على هذه العبارة، إلا أنها لازالت تُمثل المقاربة الملخصة والأكثر منطقية لطبيعة الأزمة التي تواجهها فرنسا في دول الساحل الأفريقي.
يُشار هنا إلى أن القوات الفرنسية التابعة لقوات الدرك الوطنية الفرنسية، وهي وحدة مخصصة لمكافحة الإرهاب، ولم تكن موجودة فقط في مالي وساحل العاج، وإنما امتدت أنشطتها لتشمل، دولاً أخرى مثل تشاد، موريتانيا، النيجر، وبوركينا فاسو.
وفي الآونة الأخيرة، بدا واضحًا للعيان كيف خيبت الجهود الفرنسية في الساحل الأفريقي الآمال، وتسببت في تفاقم الأزمات بدلاً من حلها أو على الأقل التخفيف من حدتها. وللوقوف على فهم طبيعة التداخل، بين أزمات الساحل الأفريقي، والوجود الفرنسي هناك، والمصالح الروسية. نُلقي أولاً نظرة على طبيعة ما آلت إليه الأمور بخصوص دولة “مالي” على وجه التحديد.
نظرة على تعقيدات الأزمة في مالي
“مالي” في الأساس كانت مستعمرة فرنسية، مما يفسر رواسب الضغينة التي بقيت في وجدان شعبها تجاه القوات الفرنسية، التي وكما وصفنا آنفًا، يفترض أنها حضرت لكي تقضي على الإرهاب، لكن تكشفت الأمور لتثبت أن ما حدث هو العكس!
بدأت الأزمة الحالية في مالي مع أحداث 2012- 2013، بالتزامن مع انتفاضة “الطوارق” المقيمين بشمال البلاد، والذين كانت فرنسا تخشى من تنامي نفوذهم بها. وتلى ذلك طفرة في نشاط الجماعات الإرهابية بما فيهم تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية.
وفي عام 2013، وبمبادرة من باريس، دخلت القوات الفرنسية إلى مالي. ومع مرور الوقت، أثبتت فرنسا فشلها التام في فرض الاستقرار هناك. علاوة على ذلك، وُجِهت اتهامات للجيش الفرنسي بأنه قد انضم إلى عمليات مراقبة تهريب المخدرات من أفريقيا إلى أوروبا، وقدم الدعم للإرهابيين بشكل مباشر من أجل إضعاف حكومة مالي والإبقاء عليها في قبضة السيطرة العسكرية والسياسية الفرنسية.
أدى الفشل الفرنسي إلى تفاقم الأوضاع بشكل كبير، وترتب على ذلك إثارة غضب شعب مالي واندلاع مظاهرات حاشدة تطالب بمغادرة القوات الفرنسية من البلاد. تلى ذلك إعلان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عن حاجة بلاده لإجراء تغييرات جدية في شكل وجودها العسكري في البلاد، وإنهاء عملية برخان الفرنسية، التي أثبتت فشلها وفقدت مصداقيتها أمام العالم.
من هذا المنطلق، قررت حكومة مالي، دعوة الشركات العسكرية الخاصة إلى البلاد –التي لا تربطها تاريخ استعماري ببلادهم- وكان من بين هذه الشركات “فاجنر” العسكرية الروسية الخاصة، التي رأت فيها حكومة مالي صورة لليد التي ستأتي حتى تُنقذ البلاد من الدمار.
“فاجنر”.. عندما تكون موسكو حاضرة غائبة في آن واحد
وصلت وزيرة الدفاع الفرنسية، “فلورنس بارلي”، الأحد 19 سبتمبر الجاري، إلى النيجر في إطار زيارة استمرت ليومين لدى حلفاء فرنسا في منطقة الساحل، كي تحاول منع الصفقة –التي تم الإعلان عنها كصفقة محتملة- المزمع عقدها بين حكومة مالي ومتعاقدين عسكريين من شركات خاصة –فاجنر الروسية- حيث قالت الوزيرة أن اتفاقًا كهذا يتعارض مع استمرار وجودها العسكري ككل. وتلقى المجلس العسكري في مالي هذه المعارضة الفرنسية برفض تام، وتعثرت مهام باريس في بناء علاقات مع المجلس العسكري المالي مقارنة بما سبقه من حكومات مدنية.
وكانت مصادر إعلامية قد نقلت من قبل، أنه يوجد بالفعل مجموعات كبيرة من قوات “فاجنر” الروسية في مالي قبل تاريخ إعلان الحكومة المالية عن الاتفاقية المحتملة بفترة طويلة غير محددة بتاريخ بعينه. وأضافت هذه المصادر بوجود مجموعة من مقاتلي “فاجنر”، يبلغ عددهم نحو عدة مئات هناك، وبأنهم يؤدون مهامهم بنشاط. وبرهنت على وجودهم بأن اثنان من عناصر “فاجنر” قد لقوا حتفهم في انفجار وقع بلغم أرضي في مالي مطلع الشهر الجاري.
من ناحية أخرى، تُصر الصحافة الروسية على ضرورة عدم الربط بين الشركات العسكرية الخاصة وبين القرارات النابعة من الكرملين رأسًا، مؤكدًا على أن هذه الشركة، تظل شركة خاصة لا علاقة للحكومة الروسية بها. بينما يرتبط اسم هذه الشركة بالفعل بالعديد من العمليات العسكرية الروسية الخارجية البارزة. فقد ظهرت لأول مرة بجانب انفصاليي إقليم دونباس في 2014. كما أنه قد تم توثيق تواجد هذه المجموعة في سوريا إلى جانب صفوف الرئيس السوري بشار الأسد، وفي ليبيا مع مقاتلي المشير خليفة حفتر، وكذلك في جمهورية أفريقيا الوسطى حيث يقوم بعض عناصرها بمهمات “تدريبية” هناك. بينما ترد صحف فرنسية مؤكدة أن قوات “فاجنر” الروسية تتلقى بالفعل أوامرها من الكرملين مباشرة، وأن تاريخ وجودها في الساحل الأفريقي يرجع إلى سنوات طويلة. لافتة إلى أن روسيا أعلنت في 2018 قيامها بإرسال خبراء عسكريين لأفريقيا الوسطى لأجل تدريب الجيش المحلي هناك، لكن كان في الحقيقة ما أرسلته هو عبارة عن خبراء من مجموعة “فاجنر”، وذلك وفقًا لما نشرته قناة فرانس 24. وأشارت القناة كذلك إلى أن الشركة تقدم خدماتها الأمنية، على يد نحو 2000 مرتزقة روسي، إلى جانب حكومة أفريقيا الوسطى التي تعمل على دحر تحالف المتمردين نحو الحدود الشمالية للبلاد.
لماذا تهتم موسكو بمنطقة الساحل الأفريقي بوجه عام؟
ردًا على سؤال بـ لماذا تهتم موسكو بمنطقة الساحل الأفريقي بوجه العام؟ أو بالأحرى، ما هو السر وراء اهتمام فرنسا أو غيرها بهذه الدول التي تندرج ضمن الدول الأكثر هشاشة، والأكثر فقرًا، والأكثر معاناة حول العالم؟ فإن الإجابة عن إجمالي ما سبق من أسئلة، لا تبتعد كثيرًا عن عدة حقائق بسيطة حول القارة الثرية للغاية، التي تمتلك اليوم أكبر احتياطات من عدد متنوع من المعادن العالمية، مثال على ذلك، أن الدول الأفريقية هي الرائد المطلق في احتياطات معادن مثل البوكسيت، والمنجنيز، واليورانيوم، وعدد من المعادن الأرضية النادرة، والبلاتين، ومادة الكولتان التي لا يمكن لأي هاتف نقال أن يعمل بدونها، ومادة الكوبالت التي لا يمكن لأي قاذفة الإقلاع من دونها، وغيرهم.
إذًا، فموسكو مُهتمة بالعودة وبقوة إلى أفريقيا، ليس فقط بوازع من دوافع سياسية فحسب، وإنما رأسًا بفعل دوافع اقتصادية. مستفيدة من صورتها كطرف دولي قوي لا يهتم بوضع يده على الموارد الأولية للدول المختلفة كالصين، أو حقيقة أنها ليست طرف دولي يجمعه تاريخ استعماري مديد مع معظم دول هذه المنطقة كفرنسا. وعلى الرغم من أن الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، قد صرح خلال مقابلة له أجراها مع وكالة “تاس” الإخبارية الروسية قبيل انعقاد القمة الروسية الأفريقية الأولى في سوتشي أواخر 2019، عندما أوضح، “نحن لسنا مستعدين لإعادة توزيع ثروات القارة، ولكننا مستعدون للمنافسة من أجل التعاون مع إفريقيا”. وتابع “بوتين”، مؤكدًا أن ما يهم بلاده هو أن تكون أفريقيا دولة حضارية، وأن تتطور بشكل قانوني، وأن روسيا لديها الكثير لتقدمه لأصدقائها الأفارقة”، إلا أن هذا لا ينفي حقيقة أن روسيا لا تملك هذا القدر المتنوع من المعادن الثمينة الذي تملكه القارة، بينما تحصل قوى غربية منافسة بالفعل على نافذة تخول لها الحصول عليه بسلاسة، مما يجعل موسكو في مؤخرتهم، أو بالأحرى نستطيع أن نقول إنها “كانت” متأخرة عنهم، واليوم قد وضعت قدمها على طريق اللحاق بهم.
تعرف موسكو يقينًا أن الاختفاء لفترة طويلة، سيعقبه بالطبع فرص صعبة في العودة مجددًا إلى نفس الساحة. وقد أدركت منذ سنوات بالفعل أنه ينبغي عليها بذل المزيد من الجهود لأجل التقرب من دول القارة، التي بات اليوم أن الجميع يتودد لها. إن موسكو تبحث عن فتح مساحات استثمارية بمبالغ هائلة في أفريقيا، وتبحث عن استغلالها كأسواق للترويج لشتى أنواع المنتجات الروسية، بدءً من المنتجات العادية وصولاً إلى العسكرية والتقنيات الروسية الأكثر تعقيدًا. كما تسعى للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من عقود مشروعات البنية التحتية في أفريقيا، وهي جميعها مشروعات مطلوبة للغاية هناك، نظرًا لما تعانيه هذه الدول من كوارث متتالية.
ومن الناحية السياسية، الدب الروسي يرغب دائما في زيادة نفوذه، وفي اثبات نفسه كقوة دولية دائمة الحضور وقادرة على ردع أي تهديدات عالمية محتملة. لذلك تتواجد موسكو عند كل فجوة، وتملأها ببراعة، حتى تضع نفسها في موقف المتمكن فوق الدولة صاحبة الفجوة نفسها. مثال على ذلك، انظر إلى الطريقة التي ركضت موسكو بها تملء الفراغات التي خلفها الانسحاب الأمريكي من المشاركة النشطة في سياسات الشرق الأوسط. وانظر كذلك إلى ما تضطلع موسكو بعمله بنشاط بارع على الساحة الأفغانية الآن، وانظر أيضًا إلى ما تحاول أن تفعله في الساحل الأفريقي. وهكذا، يُمكن القول، تعددت الساحات وتغيرت أسماء الدول وتظل المواجهة واحدة. إننا نجد أنفسنا دائماً، بصدد أيدولوجية روسية تواجه أخرى غربية. لكن هذه المرة، ترجح كفة موسكو بالطبع، لأنها أثبتت نفسها كحل مناسب لمعظم مشكلات أفريقيا الوسطى. وقدمت بهذه الطريقة مثالًا مناسبًا للنموذج الأفضل الذي ينبغي على أي دولة أفريقية أن تحذو حذوه لأجل العثور على سبيل للنجاة.
كما أنه لا يخفى كذلك، أن موسكو اتبعت مع الدول الأفريقية طريقة يعرفها العرب بعبارة “الإغداق بالجمائل” أولاً، ثم الجلوس بعد ذلك لانتظار “رد الجميل”. وهو الشيء الذي ألمح إليه “بوتين” نفسه، عندما صرح في ذات اللقاء المذكور أعلاه، “لعبت بلادنا دورًا مهمًا في تحرير القارة، وساهمت في نضال شعوب إفريقيا ضد الاستعمار والعنصرية والفصل العنصري. بعد ذلك قدمنا المساعدة للأفارقة في الدفاع عن الاستقلال والسيادة، وفي تشكيل الدولة، وفي تشكيل أسس الاقتصاد الوطني، وإنشاء قوات مسلحة جاهزة للقتال”.
وتابع “بوتين”، “قام المتخصصون السوفييت ثم الروس ببناء مرافق البنية التحتية الهامة، ومحطات الطاقة الكهرومائية، والطرق، والمؤسسات الصناعية”. وأضاف، “وتلقى الآلاف من الأفارقة تعليمًا مهنيًا عالي الجودة في جامعاتنا”.
وأوضح أن العديد من القادة الأفارقة المعاصرين يتذكرون ذلك جيدًا ويقدرون الدعم الروسي، وأنه من المستحيل نسيان هذه الصفحة من التاريخ. وتابع بوتين “اليوم، يعد تطوير وتعزيز العلاقات ذات المنفعة المتبادلة مع البلدان الأفريقية وجمعيات التكامل الخاصة بها من بين أولويات السياسة الخارجية الروسية”. وقال قبيل قمة سوتشي 2019، “نتوقع أن يقدم زملاؤنا الأفارقة في سوتشي، ممثلو مجتمع الأعمال، حزمة قوية من المقترحات التي تهدف إلى توسيع العلاقات الثنائية. وسيتبادل قادمة المنظمات الإقليمية الأفريقية وجهات نظرهم حول كيفية تطوير التعاون متعدد الأطراف معًا، وسوف ننظر في هذه الأفكار باهتمام، ونفكر فيما يمكن تنفيذه الآن، وما الذي يتطلب دراسة إضافية”.
إذًا، نحن نقف أمام موسكو التي لازالت تتذكر الماضي، وترغب في “رد الجميل”، وترى أنها هي الأحق، وبفعل تاريخها، بكل ما تحمله دول الساحل الأفريقي من “خير” على أي قوى دولة تحاول الاقتراب. مع عدم نسيان حقيقة أن كل ما تقدمه موسكو من خدمات لأي دولة أفريقية عادة ما يكون مدفوع الثمن. وهذه حقيقة لا غضاضة فيها، لأنه في عالم السياسة لا يوجد شيء يُدعى خدمات مجانية. وكل شيء في نهاية المطاف يتم سداده بشكل أو بآخر. ولا ضير فيما إذا كانت موسكو –بشكل رسمي أو غير رسمي- ترغب في اللحاق بركب المشاركة في تنمية القارة الأفريقية، مادامت تقدر بالفعل على تقديم المساعدة الملموسة لها، وتعويضها عن الفشل الذي آلت إليه أمور قوى غربية أخرى.
باحث أول بالمرصد المصري