
“مؤشرات كاشفة”.. دلالات نتائج استطلاعات الرأي بشأن “تآكل” شعبية النظام التركي
بينما تستعد تركيا لإجراء انتخابات عامة يفصلنا عنها أقل من عامين، تُشير نتائج استطلاعات الرأي إلى مأزق سياسي يواجه حزب “العدالة والتنمية” الذي اعتلى سدة الحكم منذ 20 عامًا، حيث أعطت التطورات السياسية والاقتصادية والأمنية دفعة لشعبية المعارضة قابلها خصمًا من رصيد التحالف الحاكم.
مؤشرات كاشفة
تُظهر نتائج استطلاعات الرأي التي أجرتها العديد من مراكز دراسات الرأي العام المتخصصة ميلًا عامًا لأحزاب وشخصيات المعارضة التركية، مقابل تراجع مستويات التصويت المتوقع لتحالف الشعب المكون من حزبي “العدالة والتنمية” و”الحركة القومية”؛ فوفقًا للبيانات المتاحة، حصد حزب العدالة والتنمية نسبة تأييدا بلغ 31.05% في المتوسط، بما يمثل تراجعًا ملحوظًا عن نسبة 42.6% التي أحرزها في جولة 2018، ليأتي خلفه حزب “الشعب الجمهوري” بمتوسط نسبة تأييد 25.93%، ويحتل حزب “الشعوب الديمقراطي” المركز الثالث بنحو 10.93%، يليه حزبا “الخير” و”الحركة القومية” بحوالي 9.23% و5.78% على الترتيب، ليأتي في المركزين الأخيرين حزبا “الديمقراطية والتقدم” بزعامة علي باباجان و “المستقبل” بزعامة أحمد داود أوغلو بنحو 1.8% و1.05% على التوالي، وهو ما يبينه الشكل الآتي:
الشكل (1): متوسط نسب تأييد مختلف الأحزاب، وفقًا لاستطلاعات الرأي

(*) تم حساب متوسطات نسب التأييد اعتمادًا على نتائج استطلاعات الرأي الصادرة عن كلٍ من “مركز أوراسيا للدراسات الاستراتيجية الأوروبية الآسيوية”، و”مركز “أقصوي للدراسات والأبحاث”، وصحيفة “آرتي غرتشك المعارضة”، ومركز “سوسيا بوليتيك”.
وترتيبًا على ذلك، يتبين انخفاضًا حادًا في تأييد الائتلاف الحاكم “تحالف الشعب” ليصل إلى 37.8% في المتوسط، بما يمثل تراجعًا حادًا عن نسبة 53.6% التي أحرزها في انتخابات 2018 لا يؤهله لتشكيل حكومة بمفرده، مقابل تصاعد شعبية تحالف الأمة أحزاب (الشعب الجمهوري ،الشعب الديمقراطي ،الخير والسعادة) إلى 42.57%. مع ضرورة التنويه إلى أنه تم حساب متوسطات نسب التأييد اعتمادًا على نتائج استطلاعات الرأي الصادرة عن مركز أوراسيا للدراسات الاستراتيجية الأوروبية الآسيوية، ومركز أقصوي للدراسات والأبحاث، ومؤسسة ميتروبول لأبحاث الرأي.
علاوة على ذلك، انخفضت نسبة الناخبين المستعدين للتصويت للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتسجل 29.7% بحسب استطلاع شركة ميتروبول للأبحاث واستطلاعات الرأي، وهي نسبة تقل كثيرًا عن رقم 67% الذي أحرزه بعد الانقلاب الفاشل صيف 2016، و45% في بداية العام الجاري، كما يوضح الشكل (2):
الشكل (2): تطور شعبية الرئيس “أردوغان”

* وفقُا لاستطلاعي رأي أجراهما شركة ميتروبول للأبحاث واستطلاعا ت الرأي لقياس نسب التأييد لأردوغان.
بينما تُظهر النتائج تقدم رؤساء بلديات المعارضة في إسطنبول وأنقرة، أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش، بنسبة 51.4% و52.5% على التوالي، وزعيم حزب الشعب الجمهوري ورئيسة حزب الخير، كمال كليتشدار وميرال أكشينار، بواقع 45.4% و39.4% على الترتيب.
وفيما يخص حجم التغيرات في اتجاهات الرأي العام الكردي بشأن تفضيلات الأحزاب، أظهرت نتائج استطلاع رأي حديث أجرته “سوسيا بوليتيك” في 16 محافظة كردية، أن حزب”الشعوب الديمقراطي” الأكثر قدرة على الاحتفاظ بقاعدته الانتخابية بالمقارنة بانتخابات 2018، بينما حقق “العدالة والتنمية” أكثر الخسائر، فبينما انتخب 50.4% من العينة حزب “الشعوب الديمقراطي”، و24.3% “العدالة والتنمية”، و6.5% حزب “الشعب الجمهوري”، خلال انتخابات 2018، أجاب 55.6% برغبتهم إعادة انتخاب حزب الشعوب الديموقراطي إذا ما جرت انتخابات عامة حاليًا، وقال 14% أنهم سيصوتون لحزب “العدالة والتنمية” و12.7% لحزب الشعب الجمهوري؛ أي أن حزب العدالة والتنمية خسر 10.3% من أصوات الأكراد، بينما حصل حزب الشعوب الديمقراطي على 5.2%، وحزب الشعب الجمهوري على 10.2%.
وفيما يتعلق باتجاهات الرأي العام الكردي تجاه مرشحي الرئاسة المحتملين، احتفظ صلاح الدين دميرطاش بنسبة التأييد نفسها تقريبًا؛ فبينما أجاب 52% من العينة بأنهم صوتوا له في انتخابات 24 يونيو 2018، قال 50.1% أنهم سينتخبونه إذا ما أُجريت انتخابات في اليوم التالي، بينما خسر أردوغان 11.7% من الأصوات، نزولًا إلى 15% من 26.7% صوتوا له في جولة 2018.
وترتيبًا على المؤشرات السابقة، تستعد أحزاب المعارضة للمشاركة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة وتتحرك عبر عدة مسارات؛ أولها، عقد اجتماعات دورية لبحث فكرة وجود مرشح لمنافسة أردوغان، فعلى سبيل المثال طور حزب الشعب الجمهوري حوارًا مشتركًا مع أحزاب المستقبل والديمقراطية والبناء، بينما أعلن حزب الشعوب الديمقراطي الموافقة على فكرة المرشح الواحد. وثانيها، تصعيد اللهجة الخطابية ضد سياسات النظام الحالي وتبني الدعوة لخارطة طريق تسفر عن العودة للنظام البرلماني وإيجاد حل سياسي سلمي للمسألة الكردية.
وثالثها، محاولة استمالة المكون الكردي؛ إذ أبدى حزب الشعب الجمهوري خروجًا على موقفه التقليدي المتحفظ تجاه القضية الكردية، وشرع في جولة غير مسبوقة إلى إقليم كردستان العراق، وهي رحلة سيكون لها صدى إيجابي بين أكراد تركيا، وستمنحهم ثقة أكبر في الخطوات المستقبلية التي يتخذها حزب الشعب الجمهوري فيما يتعلق بقضيتهم، كما أنها تبعث برسالة مفادها أن الحزب يقر بتجاوز القضية الكردية لحدود تركيا، وتخلق شعورًا بأن الحزب يمُكنه اتخاذ موقف أكثر جرأة من كردستان السورية في المستقبل. ولعل رمزية الزيارة تبرز في ترأس نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري أوغوز صالحي، الوفد، وهو الذي نجح سابقًا في تشكيل تحالفًا تكتيكيًا مع حزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات البلدية لعام 2019.
إضافة إلى تطوير الحزب نوعًا من الشراكة السياسية غير التقليدية ولا المعلنة مع الأكراد، ومشاركة قياداته في بعض المناسبات الثقافية الكردية، والمجاهرة برفض حبس الزعماء السياسيين الأكراد ومنهم صلاح الدين دميرطاش، وتأسيس لجنة الجنوب للاستماع لوجهاء الأكراد.
محفزات عديدة
يشير التغير في المزاج العام تجاه “العدالة والتنمية” الحاكم إلى تخلي الحواضن الشعبية التقليدية عن دعمها للحزب بعدما باتت المحصلة النهائية لمجمل سياساته على المستويين السياسي والاقتصادي بكافة موضوعاتهما، أكثر تكلفة وغير محتملة، ويُمكن استعراض مسببات تصاعد شعبية المعارضة تاليًا:
• قضية اللاجئين: لفترة طويلة تسامحت الحكومة التركية والسكان مع ملايين اللاجئين والمهاجرين، لكن السنوات القليلة الماضية، شهدت تغير المزاج الشعبي تجاه تلك القضية إلى حد العداء الذي جسده مواجهة عنيفة وقعت بين بعض المهاجرين السوريين ومجموعة من السكان المحليين الأتراك في أحد ضواحي أنقرة مؤخرًا، أسفرت عن طعن تركيين اثنين توُفي أحدهم. ولعل أحد الأسباب الرئيسية لتعزيز العداء تجاه المهاجرين هو الأزمة الاقتصادية والنقدية الممتدة التي ضخمت المخاوف داخل المجتمع التركي بشأن توزيع الثروة، فضلًا عن القلق بشأن الخلل في الهيكل الديمغرافي للسكان، وفاقم تلك المخاوف احتمالات عبور آلاف اللاجئين الأفغان الذين وصلوا لإيران الحدود التركية.
واستغلالًا لحالة الاستياء التي عكستها أيضًا نتائج استطلاعات رأي أظهرت بلوغ نسبة الرفض التركي للاجئين السوريين 67% ارتفاعًا من 57% عام 2016، أصبحت قضية اللاجئين مادة خصبة للمناكفات السياسية بين حزب العدالة والتنمية والمعارضة التي قررت توظيفه لكسب التأييد الشعبي؛ إذ صعَّد حزب الشعب الجمهوري لهجته المناهضة للاجئين، وأعلن زعيمه كمال كليتشدار أوغلو أنه إذا وصل حزبه إلى السلطة، فسوف يعيد جميع اللاجئين إلى بلدانهم الأصلية، كما يُمكن ملاحظة لافتة “الحدود تساوي الشرف” على واجهة مقر حزب المعارضة الأكبر في البلاد. والموقف نفسه ابدته زعيمة حزب الخير ميرال أكشينار.
• تفاقم الأزمة الاقتصادية: تعيش تركيا على وقع أزمة اقتصادية مركبة هي الأكثر تعقيدًا على الاطلاق؛ إذ يعاني الاقتصاد من ارتفاع معدلات البطالة ومن المتوقع أن يتقلص سوق العمل إلى 26.529 مليون بحلول نهاية العام، مما يعني أن ما يقرب من 2.2 مليون شخص فقدوا وظائفهم منذ عام 2018. إضافة إلى أن التضخم ظل عالقًا في خانة العشرات معظم السنوات الأربع الماضية، ويُقدر البنك الدولي أن أكثر من 1.5 مليون تركي سقطوا تحت خط الفقر العام الماضي، حيث يظهر مؤشر جيني لتوزيع الدخل والثروة أن عدم المساواة ارتفع منذ 2011 وتسارع منذ 2013.
كما فقدت العملة المحلية نحو 75% من قيمتها مقابل الدولار منذ 2013، أي أكثر من النصف خلال السنوات الثلاث الماضية، مما أدى إلى تضاؤل القوة الشرائية العالمية للأتراك الذين اختار العديد منهم تخزين ثرواتهم بالعملات الأجنبية. بينما خسر قطاع السياحة 23 مليار دولار من الإيرادات عام 2020 مقارنة بعام 2019. وكان لذلك أن قُضِىَ على المكاسب الكبيرة التي تحققت خلال العقد الأول من حكم أردوغان، وبات الأتراك يشعرون أن الحكومة تفشل في أداء وظيفتها لتوفير مستوى معيشي أفضل في جميع المجالات.

• سوء إدارة أزمة جائحة كورونا: يشعر كثير من الناخبين أن إدارة أردوغان لم تُحسِن صنعًا في إدارة ملف الجائحة اقتصاديًا وطبيًا، ورغم أن الدولة لم تنزلق إلى الكارثة نفسها التي انغمست فيها دولًا أخرى ذات توجه يميني شعبوي مثل البرازيل والهند، إلا أن تبعات سوء التخطيط فاقمت الانكماش الاقتصادي الذي أصاب بالفعل فقراء المدن، وكثيرون منهم كانوا موالين لحزب العدالة والتنمية.
ويرى الكثيرون أن الإجراءات الاحترازية الحكومية ضد الجائحة لم تكن مفيدة بل طُبقت بشكل انتقائي وفقًا لمعايير مزدوجة أضرت بالشركات المحلية وتسببت في ارتفاع البطالة؛ إذ أغلق حوالي 29 ألف صاحب متجر أعمالهم خلال الربع الأول من العام الحالي 2021، بزيادة قردها 11% مقارنة بالفترة نفسها العام الماضي 2020. علاوة على أن الحكومة لم تقدم سوى مساعدات اجتماعية محدودة للفقراء الذين هدد الوباء سبل معيشتهم، بحيث أصبحت حالات الانتحار وإفلاس أصحاب الأعمال الصغيرة أكثر انتشارًا، وشعر الكثير بما فيهم ناخبو حزب العدالة والتنمية بأنهم مهملون.
• المعالجة غير الكُفء لأزمة الحرائق والفيضانات: أظهرت الأزمة الأخيرة تجاهل حكومة أردوغان –التي أخفت في التصديق على اتفاقية باريس للمناخ حتى الآن -لقضايا البيئة والتنبيهات بشأن تأثيرات الاحتباس الحراري، وكشفت عن فشل واضح في الاستعداد بشكل مناسب لبلد تشكل فيه حرائق الغابات الصيفية مصدر قلق دائم؛ فقد أجبر عدم وجود أسطول وطني فعال من طائرات مكافحة الحرائق تركيا على انتظار وصول طائرات متخصصة من دول أخرى، بما في ذلك إسبانيا وأوكرانيا وروسيا. وفاقم من المشكلة تضرر منطقة مارماريس التي تُعد أهم وجهات صناعة السياحة وكانت قد تأثرت بقيود السفر المفروضة لمواجهة جائحة كورونا. وأمام تصاعد الغضب الشعبي اتهمت أحزاب المعارضة الحكومة بالفشل في شراء طائرات مكافحة الحرائق وبدلًا من ذلك انفقت الأموال على مشاريع البناء التي يقولون إنها تضر بالبيئة.
• شهادات زعيم المافيا سادات بيكار: فعبر تسع فيديوهات منشورة أزاح بيكار الستار عن منظومة الفساد الحاكمة وعناصرها الأربعة؛ السياسيين ورجال الأمن ورجال الأعمال والمافيا، مؤكدًا الاعتقادات القائلة بوجود تشابكات بين كبار المسؤولين وعالم الإجرام، ورسخت الصورة الفاسدة للنظام ورجاله، وأظهرت حزب العدالة والتنمية كمؤسسة لإدارة علاقات فاسدة ومشبوهة محدثة خلافات بداخله مع تصاعد تيار ينادي بالتحقيق في تلك الاتهامات وإبعاد المتورطين بها، بينما تزايدت شعبية أحزاب المعارضة وأصبح حزب الخير ممثلًا لليمين القوي غير الفاسد.
استجابة محدودة التأثير
يعج المشهد السياسي التركي بالكثير من التعقيدات التي دفعت النظام لتبني إجراءات ترمي إلى تثبيت أركانه، وصرف الانتباه بعيدًا عن أوجه الاعتلال المتعددة، والقفز على تراجع شعبيته، ومحاصرة التيارات المعارضة، واستيعاب الضغوط التي تتعرض لها الحكومة، ومنها:
• الدعوة لكتابة دستور جديد: أعلن أردوغان اعتزامه تقديم مسودة دستور جديد خلال الأشهر الأولى من العام المقبل 2021، في محاولة لإعادة هندسة المشهد السياسي بما يخدم فرص التحالف الحاكم، فالدستور المزمع يسعى للالتفاف على مطالب المعارضة بالعودة للنظام البرلماني، وتعزيز هيمنة أردوغان على السلطة بمضان فوزه بولاية جديدة بغض النظر عن النسبة التي يستطيع أحرازها بإجراء الانتخابات ضمن جولة واحدة يفوز بها الحاصل على العدد الأكبر من الأصوات دون الحاجة إلى بلوغ النسبة الاعتيادية 50+1. علاوة على إنقاذ شريكه الحكومي، حزب الحركة القومية، بتخفيض الحد الأدنى لدخول البرلمان.
• تخفيض الحد الأدنى لدخول البرلمان: في خطوة تكتيكية لإنقاذ حزب الحركة القومية الذي تراجعت شعبيته بشكل كبير جراء الانشقاقات التي طالت صفوفه، يعتزم حزب العدالة والتنمية تقديم مشروع قانون للبرلمان، في أكتوبر المقبل، لخفض الحد الأدنى الواجب احرازه لدخول البرلمان إلى 7% نزولًا من 10% التي لا يرجح أن يتمكن حزب الحركة القومية من إحرازها، وهو أمر يحمل في طياته منافع أخرى لتحالف الشعب الحاكم، كونه سيسمح لبعض الأحزاب الصغيرة والمقربة من حزب العدالة والتنمية، كحزبي السعادة والوطن الكبير القومي المتطرف، بدخول البرلمان والانضمام للائتلاف. وفي هذا، تركز الدعاية التركية على الترويج لفكرة أن النظام الرئاسي لا يتحاج لحد أدنى مرتفع لدخول البرلمان.
• لعبة العصا والجزرة مع الأكراد: تتحرك استراتيجية حزب العدالة والتنمية تجاه الأكراد وفقًا لمسارين متعارضين لكنهما مكملان لبعضهما البعض وفقًا لوجه نظر الحزب؛ الأول، يهدف لاستمالة أصوات الأكراد الذين لا ينخرطون في السعي للحصول على حقوق وأصحاب التوجه المحافظ الذين يميلون لأردوغان لسبب خلفيته الإسلامية. فضلًا عن منع المزيد من خسارة أصوات الأكراد الموالين للحكومة، إذ بدأ التأييد لأردوغان يتآكل بسرعة بين الناخبين الأكراد؛ فوفقًا لاستطلاع رأي أجرته شركة “راوست” للأبحاث قال أقل من 30% إنهم سيدعمون إعادة انتخاب أردوغان رئيسًا، وكان حزب العدالة والتنمية استطاع كسب 35% من أصوات تلك المنطقة في انتخابات 2018.
وعليه، يعتزم أردوغان إحداث انفتاحًا محسوبًا على الولايات ذات الغالبية الكردية، تجسدت أبرز مؤشراتها في زيارته لمدينة ديار بكر يوليو الماضي، وهي الأولى للمدينة منذ عامين ونصف، حيث أطلق مجموعة من المشاريع، منها تحويل السجن المركزي إلى مركز ثقافي ومتحف أملاً في محو أيام المواجهات بين قوى الأمن والمواطنين. خاصة أن انتخابات البلدية لعام 2019 أظهرت مدى أهمية التصويت الكردي؛ حيث انتزع مرشحو حزب الشعب الجمهوري مدينتي أنقرة واسطنبول بدعم من تحالف قوى المعارضة بما في ذلك الأكراد. ومع ذلك، تظل توقعات الأكراد منخفضة بشأن جدوى تلك السياسات، فمن الصعب تصور انخراط حزب العدالة والتنمية في عملية سلام مع الأكراد بينما لا يزال مؤتلفًا مع حزب الحركة القومية.
أما المسار الثاني، عبر محاولات لحظر حزب الشعوب الديمقراطي لإعطاء التحالف فرصة الفوز بأصوات جنوب شرق تركيا ذا الأغلبية الكردية، بالتوازي مع تنفيذ خطة ممنهجة لإرهاب ناخبي الحزب الموالي للأكراد شملت عمليات قتل وهجمات؛ ففي 17 يونيو قُتلت شابة تعمل في مبنى الحزب بإزمير، تُدعى دنيز بويراز، وبعد أقل من شهر وقع هجومان مسلحان آخران على الحزب أحدهما في مدينة مارماريس ببحر إيجة والآخر في إسطنبول، فيما أصبحت التهديدات على معاقل الحزب في مدن مختلفة شبه روتينية. ولا تقتصر الهجمات على الأكراد المرتبطين رسميًا بحزب الشعوب الديمقراطي؛ إذ تعرضت عائلة كردية تعيش في محافظة قونية في وسط الأناضول منذ 24 عامًا لهجوم عنيف من قبل 60 قوميًا متطرفًا، وجرى اعتقال تسعة أئمة لإمامة الصلاة باللغة الكردية الشهر الماضي. وامتدت مظاهر العنف لتشمل رفض إطلاق حملة كردية للتلقيح ضد فيروس كورونا ما يجعل المدن ذات الأغلبية الكردية الأقل في معدلات التلقيح، وهو وضع يتوقع الخبراء استمراره وزيادة وتيرته مع اقتراب الانتخابات.
• إرهاب الأحزاب المعارضة: تصاعدت وتيرة الاعتداءات المسلحة بحق شخوص ومقرات أحزاب المعارضة بغية قمع أي صوت مُعارض؛ حيث تعرَّض رئيس فرع حزب الخير بإسطنبول بورغرا قافونجو لاعتداء بالضرب واللكمات عقب خروجه من مقابلة مع محطة “خلق تي في” التلفزيونية، كما تعرض حزب الديمقراطية والتقدم لهجوم مسلح بالرصاص استهدف أحد مقاره في مدينة إسطنبول.
وبالتوازي تطلع أردوغان إلى إحداث تصدعات داخل أحزاب المعارضة، فقد شهد حزب الشعب الجمهوري انشقاقات عدّة أبرزها استقالة المرشح الرئاسي السابق عن الحزب محرم إينجه وإعلانه تأسيس حزب جديد، كما أعلن النائب السابق بالحزب أوزترك يلماز تأسيس حزب جديد باسم “حزب الحداثة”، وتُشير أصابع الاتهام للنظام الحالي. علاوة على ذلك، حاول أردوغان ضرب حزب الخير بمحاولة إعادة توحيده مع حزب الحركة القومية المنشق عنه، لكن رفض زعيمته ميرال أكشينار العرض إلا بشروط معينة –رفضها حزب الحركة القومية لاحقًا -دفع النظام لتحريض نائب رئيسة الحزب، القيادي القومي أوميت أوزداغ، على الادعاء بوجود صلات بين ممثل الحزب في إسطنبول وجماعة فتح الله جولن المصنفة إرهابية.
ختامًا، تقودنا المؤشرات السالف الإشارة إليها إلى نتيجة مفادها أن النظام التركي يعيش موقفًا مأزومًا مع تآكل شعبيته وسط قواعده الانتخابية ومحاولة المعارضة استغلال الفرصة لإعادة رسم الخريطة السياسية والحزبية لصالحها، ولم يعد أمام النظام سوى محاولات للالتفاف والتحايل على الأزمة دون تبني سياسات حقيقية تقضي على مسبباتها جذريًا.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية



